[13] مثل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في التوارة والإنجيل

هكذا وصفت الآية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدة والغلظة على أعداء الله، والرأفة والرحمة بإخوانهم المؤمنين؛ فالموقف الذي يقفه المؤمن من عدوه، مختلف تماماً عن الموقف الذي يقفه من أخيه المؤمن، فشتان ما بينهما. فلكل حال صفة يقتضيها هو أليق بها، ولكل مقام وصف يقتضيه هو أجدر به، وهكذا كان أمر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشداء في الموقف الذي يقتضي الشدة، ورحماء في الموقف الذي يقتضي الرحمة.

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

في الآية الأخيرة من سورة الفتح، وصف سبحانه صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم خير وصف، فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح من الآية:29].

هكذا وصفت الآية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدة والغلظة على أعداء الله، والرأفة والرحمة بإخوانهم المؤمنين؛ فالموقف الذي يقفه المؤمن من عدوه، مختلف تماماً عن الموقف الذي يقفه من أخيه المؤمن، فشتان ما بينهما. فلكل حال صفة يقتضيها هو أليق بها، ولكل مقام وصف يقتضيه هو أجدر به، وهكذا كان أمر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشداء في الموقف الذي يقتضي الشدة، ورحماء في الموقف الذي يقتضي الرحمة.

كانوا رضوان الله عليهم في الحرب والقتال أشداء على عدوهم، ماضون في مواجهته دون تردد أو خوف، أرواحهم على أكفهم، يسبقون الموت إلى ملاقاته، لا يخشونه ولا يهابونه. وكانوا في السلم غاية في الحب، والرقة، ودماثة خلق، والخضوع. كذا جاء وصفهم في التوراة {ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}.

وجاء وصفهم في الإنجيل بـ {كَزَرْعٍ} وقد أينع وأثمر، ثم قوي واشتد عوده، واستقام حتى أعجب الخاصة من الزراع، والعامة من الناظرين والرائين.

هذا المثل القرآني البديع لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يقول سيد قطب رحمه الله-، يرسم لقارئه صورة عجيبة مؤلفة من عدة لقطات، لأبرز صفات الصحابة رضي الله عنهم الظاهرة والباطنة. فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.

ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. إنهم أشبه بالزرع الذي يكون في بداية أمره ضعيفاً، ثم يقوى ويشتد وينضج ويُثمر، حتى ينال إعجاب زارعيه من كثرة عطائه، ووفير خيراته.

والمؤمنون -يقول سيد- لهم حالات شتى، ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم، ونُقَطَ الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة، وتُبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة. وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها. التكريم الإلهي لهؤلاء الصحابة الكرام، الذين {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة من الآية:119].

هذا معنى هذا المثل القرآني من حيث الجملة. وقد ذكر المفسرون أن هذا المثل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه، بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض، مثل: أبي بكر، وخديجة، وعليٌّ، وبلال، وعمار رضي الله عنهم جميعاً. والشطء: من أيدوا المسلمين.

وسواء علينا أنظرنا إلى هذا المثل من حيث التمثيل الكلي، أم نظرنا إليه من حيث التمثيل الجزئي، فإن الذي يدل عليه: هو بيان حقيقة صفة الصحابة رضي الله عنهم، وأنهم كانوا دائمي البذل والعطاء، لا يألون جهدهم في سبيل نصر الإسلام، والذود عن حماه.

والغرض الأساس من هذا المثل: بيان حال الإسلام في ابتداء أمره، ثم ما آل إليه أمره من العزة والقوة، يقول الزمخشري في هذا الصدد: "هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قام وحده. ثم قواه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع".  

وقال ابن عاشور: "وهذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم، حتى كثروا، وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً، وتقوِّيه يوماً فيوماً، حتى استحكم أمره، وتغلب على أعدائه".

ونختم الحديث عن هذا المثل بما نقله القرطبي عن أبي عروة الزبيري، قال: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله، فقرأ مالك قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} إلى أن بلغ قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، فقال مالك: "من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية"، وصدق مالك فيما قال.