[01] المقدمة
ورغم أن الأدلة على وجود الله وربوبيته بديهية واضحة إلا أن الفلاسفة وأهل الكلام قد تكلفوا الأدلة وجعلوا الأدلة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البراهين لهذا لا حاجة لتكلف الأدلة، لأن الواضح لا يحتاج إلى توضيح، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد فطر الله سبحانه وتعالى العباد على معرفته وتوحيده وتعظيمه، وهذه هي الحنيفية التي خلق الله عباده عليها، كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
و من رَحْمَة الله سبحانه وتعالى بعباده أَن جعل الأدلة والبراهين على وجوده وربوبيته فطرية بديهية ظَاهِرَة، يُؤمن بهَا ويدركها أقل النَّاس علمًا، بل إِن أدلة وجوده وربوبيته سبحانه لوضوحها وظهورها تدفع الإنسان اضطرارًا وفطرة إلى الإيمان به سبحانه حتى عوام الناس.
و روي أن فخر الدين الرازي كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة أو مائتين، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: "من هذا؟" قالوا: "هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى" قالت العجوز: "أفي الله شك" (شرح العقيدة الطحاوية لابن جبرين)، وصدق الله إذ يقول: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم:10].
و قوله تعالى: {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (التفسير القيم لابن القيم، ص 54).
سبحانه أفي وجوده شك، فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه (تفسير ابن كثير [4/482]).
ورغم أن الإيمان بوجود الله وربوبيته أمر معترف به عند الأمم إلا أن شواذ من الناس قد أنكروه لشبه عندهم أفسدت عليهم ما تدركه الفطر وبداهة العقول فضلاً عن الشرائع السماوية.
والإيمان بالخالق ووجوده يكون فطرياً ضرورياَ في حق من سلمت فطرته، وقد يحتاج بعض الناس إلى أدلة على وجوده سبحانه عند تغير فطرهم وما يحصل من ضلال أو انحراف في هذه الفطرة أمر طارئ على هذه الفطرة السليمة فالإنسان قد تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف عن المعبود الحق والبشر جميعًا في كل العصور تجدهم يبحثون عن إله يعبدونه وهذا استجابة لنداء مرتكز وموجود في داخلهم وهذا يفسر اتخاذ من لم يصلهم منهج واضح عن الخالق بآلهة من كل صنف يعبدونهم.
ورغم أن الأدلة على وجود الله وربوبيته بديهية واضحة إلا أن الفلاسفة وأهل الكلام قد تكلفوا الأدلة وجعلوا الأدلة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البراهين لهذا لا حاجة لتكلف الأدلة، لأن الواضح لا يحتاج إلى توضيح، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار.
ونظرًا لانتشار الإلحاد بسبب قلة العلم وازدياد الجهل والرغبة في التحلل والتحرر من قيود العفة والأدب أحببت أن أذكر بعضًا من الأدلة على وجود الله سبحانه ناقدًا ما يثيره الملاحدة حولها لعل الله يجعل هذا السفر سببًا في هداية ملحد أو تثبيت إيمان متذبذب أو زيادة إيمان مؤمن فاللهم وفقني وسددني واجعل عملي خالصًا لوجهك.
و قبل بيان الأدلة على وجود الله يتحتم علينا الرد على شبهتين ضعيفتين قد يوردهما الملاحدة.
الشبهة الأولى والرد عليها: زعمهم استحالة إثبات وجود الله
يزعم الملاحدة هداهم الله أن وجود الله حتى يثبت واقعاً لابد أن يثبت بدليل تركيبي، والقضايا التركيبية فقط هي التي تصف الحقيقة والقضايا التركيبية تحتاج إلى معرفة بالعالم وتعتمد علي المشاهدة والتجربة فقط ولأنه لا يوجد ظاهرة فوق طبيعية أو غير مادية في العالم تثبت وجود الله فإن إثبات وجود الله مستحيل هكذا سولت لهم عقولهم المريضة.
والقضايا التركيبية عبارة عن قضايا يضيف محمولها (ما نخبر به عن الشيء) إلـى موضوعها (الشيء الذي نخبر عنه) شيئًا جديدًا غير متضمن فيه مثل (طـول الـسـبـورة أربـعـة أمـتـار) و(الـكـتـاب قـديم)... فـالأربـعـة أمـتـار فـي الـمـثـال الأول لـيـسـت صـفـة جـوهـريـة لـلـسـبـورة، بـل هـي صـفـة زائـدة إذ قـد تـكـون الـسـبـورة أقّـل أو أكـثـر طـولا ومـع ذلـك تـبـقـى سـبـورة وقديم في المثال الثاني ليست صفة جوهرية للكتاب فقد يكون الكتاب جديدا ومع ذلك يبقى كتابا.
و الجواب وجود الله أمر بديهي لا يحتاج إلى إثبات وأوضح من أن يُبَرهن كما أن دلالة الفعل على الفاعل لا تحتاج أن تبرهن أو يدلل عليها وكما أن دلالة الأثر على المؤثر لا تحتاج أن تبرهن أو يدلل عليها.
و الدليل يُطلب في المسائل التي لا تدرك بداهة، أمّا الأمور التي تدرك بداهة فلا نحتاج فيها إلى دليل، بل الدليل ينتهي عند الأمور البدهية، ولولا البدهيات لما أمكن تقديم الدليل، لأنّ الدليل يتسلسل حتى يستقرّ مستنداً إلى بدهية.
و هذا الكون وجد بعد أن لم يكن فلابد أن يكون له موجد أوجده.
و الحياة في المخلوقات الحية دليل على وجود خالق لها فمن الذي وهب الحياة للمخلوقات الحية ؟
و العقل في المخلوقات العاقلة دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب العقل لهذه المخلوقات ؟
و الحكمة في المخلوقات الحكيمة دليل على وجود خالق لها فمن الذي وهب الحكمة لهذه المخلوقات ؟
و البصر في المخلوقات ذي البصر دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب البصر لهذه المخلوقات ؟
و السمع في المخلوقات التي تسمع دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب السمع لهذه المخلوقات ؟
و الضحك في المخلوقات التي تضحك وتبكي دليل على وجود خالق له فمن الذي وهبه لهذه المخلوقات ؟
و لا يصح القول بأن المادة أو الطبيعة هي الخالقة فهي ليست حية وليست عاقلة وليست حكيمة وليست سميعة وليست بصيرة.
و كل أثر فهو بحاجة إلى مؤثر واحتياج الأثر إلى مؤثر يمثل محمول قضية: كل أثر فهو بحاجة إلى مؤثر وهذا المحمول يدركه العقل بنحو تلقائي من تحليل مفهوم الموضوع وهو كلمة ( الأثر). فالأثر يعني الشيء الذي يحتاج الى مؤثر واحتياج الكون لخالق من هذا الباب.
و إن قيل هذا الكلام مبني على التشابه بين الكائنات الطبيعية والمصنوعات البشرية، لكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب وتعْدِيَة حكم أحدهما إلى الآخر لاختلافهما، فإن مصنوعات البشر موجودات صناعية، بينما الكون موجود طبيعي، فهما صنفان لا تناسب بينهما، فكيف يمكن أن نستكشف من أحدهما حكم الآخر وصحيح أننا جربنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد الا بصانع عاقل، ولكننا لم نجرب ذلك في الكون ؟ والجواب أن لا فارق بين الأحداث التي تكون في الطبيعة أو التي يفعلها الانسان من حيث السبب والعلة.
و دليل السببية دليل عقلي لا يخضع للتجربة وعليه فيصح فيه قياس الشاهد على الغائب.
و محل الدليل هو وجود أثر والأثر يفتقر إلى مؤثر وهو متحقق في جميع المخلوقات كما أنه متحقق في المصنوعات البشرية فلا يجوز التفريق بينهما وهما متماثلان في هذه الوجهة وإنما اختلفا في غير محل الدليل أي وجه التشابه أو الربط الذي سوغ القياس بين الكائنات الطبيعية والمصنوعات البشرية هو البديهة العقلية القاضية بأن الأثر لا بد أن يكون له مؤثر والفعل لا بد له من فاعل ولا يلغي البديهة العقلية التي بيناها أن هذا طبيعي وهذا صناعي، فالفارق الذي ذكر غير مؤثر في الحكم.
و إذا كان أصغر شيء مصنوع في الكون يستحيل أن يكون بلا صانع فكيف يصح أن يقال هذا الكون بأكمله بلا خالق ؟!!!
و هناك أسئلة تدور في ذهن الإنسان وتلح على الإنسان في داخله لا يستطيع دفعها عن أصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت وأسراره، وعن الروح وأسرارها مما يدل على وجود فطرة كافية في النفوس تبرز هذه الأسئلة عن الإله والوجود فمن الذي فطر النفوس على إبراز هذه الأسئلة عن الإله ؟!
وقد لاحظ العلماء أن جميع الأمم التي درس علماء تاريخ الأديان تاريخها اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، ولا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين ولا بلا إله معبود، حقاً كَانَ أو باطلاً فهناك اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود فمن الذي فطر البشر على الإيمان بوجود إله ؟!
و كم من شخص دعى الله فاستجيبت دعوته وهذا الأمر مشهود في كل الأزمان وكل العصور فمن الذي استجاب دعاء الشخص ؟!!
و كم من شخص مريض شفي من مرضه وآخر مريض بنفس المرض لم يشف من مرضه رغم أنه أخف من الأول فمن الذي شفى هذا ولم يشف هذا ؟!!
و قولنا الله موجود لا تدل على أكثر من الإخبار عن أمر بديهي وإنكار وجود الله يؤدي إلى تناقض لذلك فهي من جنس القضايا التحليلية لا القضايا التركيبية والقضايا التحليلية هـي الـتـي يـكـون مـحـمـولـهـا (ما يخبر به) تكرارًا أو تحليلاً لموضوعها (ما يخبر عنه)، ولا يضيف إليه شيئًا جديدًا كقولنا:
(الأب رجـل لـه ابـن) أو (الـمـثـلـث شـكـل هـنـدسـي) أو (الـجـسـم مــتـدّ) أو(5 = 3 + 2) أو = (أ + ب) (أ - ب).
و القرءان الكريم الذي بين أيدينا يثبت وبدون شك عند تفحصه ومقارنته بكلام البشر أنه ليس من كلامهم وفي الوقت ذاته فهو رسالة من خالق هذا الكون لنا يبلغنا فيه أنه خالقنا ويبلغنا فيه عن صفاته فإن لم يكن هناك خالق فمن أرسل بهذه الرسالة؟ وإذا كان هناك خالق آخر فلماذا لم يتفضل بإبلاغنا عن وجوده؟!
و إن قيل لو كان وجود الله بديهيًا لما أنكر وجوده أحد؟
و الجواب رغم أن وجود الله أمرًا بديهيًا إلا أن البعض أنكر وجوده بسبب شبهات ومؤثرات خارجية تجعله يغفل أو ينكر هذه البديهة فقد تختلج شبهة في الذهن تسبب مشكلة للإنسان، فيظن أنَّ هذا الضروري الواضح ليس بضروريٍ، مثلاً استحالة اجتماع النقيضين من البديهيات الأوليَّة، بل هي أساس جميع البديهيّات -كما سيتَّضح- ولكن ربَّ شبهة تشكك في هذا البديهي، فيتصوَّر البعض أنّه من الممكن اجتماع النقيضين كما لو توهَّم أنَّ بين النور والظلمة حالةً ليست من الظلمة وليست من النور! والبديهي بديهيٌ على أي حال.
ومن أثر عنه إنكار وجود الله في البشر قليلون جداً على مرّ التاريخ مقارنة مع من يثبت وجوده، وهذه القلة على قسمين:
أحدهما: قسم ينكر وجود الله ظاهراً فقط، مع إيمانه بخلاف ذلك في قرارة قلبه وأشهر هؤلاء: فرعون موسى وأمثاله.
قال الله تعالى في حقهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
الثاني: قسم آخر هو في الحقيقة معترف بوجود صانع مدبر خالق ظاهراً وباطناً، غير أنه يحيل ذلك إلى الطبيعة أو غيرها، مما يدل على وجود علوم أولية بديهية مشوبة بالشبهات والمؤثرات الخارجية.
وإن قيل نفوس العقلاء تتطلع إلى الاستدلال على وجود الله فلو كان أمرًا بديهيًا لما تطلع للاستدلال عليه:
و الجواب الاستدلال على وجود الله رغم بداهته من باب تعدد الأدلة، وتعدد الأدلة يزيد في التصديق، واليقين، والمعرفة.
والإقرار والاعتراف بالخالق فطري وضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته وما يجعله يغفل عن الأمور البديهة حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة.
وزعم الملاحدة أن وجود الله حتى يثبت واقعاً لابد أن يثبت بدليل تركيبي والقضايا التركيبية هي فقط التي تصف الحقائق نتيجة عدم اعترافهم بمعارف عقلية ضرورية سابقة على التجربة واعتبارهم التجربة الأساس الوحيد للحكم الصحيح ولذلك حددوا طاقة الفكر البشري بحدود الميدان التجريبي، وأصبح من العبث كلّ بحث ميتافيزيقي أو دراسة لمسائل ما وراء الطبيعة، على عكس المذهب العقلي تماماً.
والجواب عن هذه الشبه أن مقولتكم: أن أساس المعرفة القضايا التركيبية وللحكم على الأشياء لا بد من التجربة إن كانت خطأ سقط المذهب التجريبي بانهيار قاعدته الرئيسية، وإن كانت صواباً صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعلكم تؤمنون بصواب هذه القاعدة، فإن كنتم قد تأكّدتم من صوابها بلا تجربة فهذا يعني: أنّها قضية بديهية وأنّ الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وإن كنتم قد تأكّدتم من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل؛ لأنّ التجربة لا تؤكّد قيمة نفسها.
وبمقولتكم: أن أساس المعرفة القضايا التركيبية وللحكم على الأشياء لابد من التجربة لن تستطيعوا الحكم باستحالة شيء أو بالضرورة شيء آخر ومع سقوط مفهوم الإستحالة يكون التناقض ممكناً ومع إمكانه تنهار العلوم.
وهناك عدّة أشياء لم تكشف التجربة عن وجودها، بل دلّت على عدمها في نطاقها الخاصّ، ومع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة، ولا نسلب عنها إمكان الوجود كما نسلبه عن الأشياء المستحيلة، فكم يبدو الفرق جليّاً بين اصطدام القمر بالأرض، أو وجود بشر في المرّيخ، أو وجود إنسان يتمكّن من الطيران لمرونة خاصّة في عضلاته من ناحية، وبين وجود مثلّث له أربعة أضلاع، ووجود جزء أكبر من الكلّ، ووجود القمر حال انعدامه من ناحية اُخرى. فإنّ هذه القضايا جميعاً لم تتحقّق ولم تقم عليها تجربة، فلو كانت التجربة هي المصدر الرئيسي الوحيد للمعارف لما صحّ لنا أن نفرّق بين الطائفتين؛ لأنّ كلمة التجربة فيهما معاً على حدّ سواء، وبالرغم من ذلك فنحن جميعاً نجد الفرق الواضح بين الطائفتين: فالطائفة الاُولى لم تقع ولكنّها جائزة ذاتياً، وأمّا الطائفة الثانية فهي ليست معدومة فحسب، بل لا يمكن أن توجد مطلقاً، فالمثلّث لا يمكن أن يكون له أضلاع أربعة سواءٌ اصطدم القمر بالأرض أم لا. وهذا الحكم بالاستحالة لا يمكن تفسيره إلاّ على ضوء المذهب العقلي بأن يكون من المعارف العقلية المستقلّة عن التجربة.
ومبدأ العلّية لا يمكن إثباته عن طريق التجربة، والتجربة لا يمكنها أن توضّح لنا إلاّ التعاقب بين ظواهر معيّنة، فنعرف عن طريقها أنّ الماء يغلي إذا صار حارّاً بدرجة مئة، أو أّنه يتجمّد حين تنخفض درجة حرارته إلى الصفر، وأمّا سببية إحدى الظاهرتين للاُخرى والضرورة القائمة بينهما فهي ممّا لا تكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة ومهما كرّرنا استعمالها وإذا انهار مبدأ العلّية انهارت جميع العلوم الطبيعية.
والخلاصة أن زعم الملاحدة باستحالة إثبات وجود الله لأن الله لا يثبت إلا بالقضايا التركيبية والقضايا التركيبية تقوم على التجربة والمشاهدة وهذا غير ممكن زعم باطل مبني على أساس أن أساس العلوم هو التجربة وهذا قول فاسد لا أساس له من الصحة ووجود الله أمر بديهي لا يحتاج إلى إثبات.
الشبهة الثانية والرد عليها: زعمهم أن السببية لا تصح دليلا على وجود الله لعدم وجودها في الحقيقة
يزعم الملاحدة أن السببية لا تصح دليلاً على وجود الله لعدم وجودها في الحقيقة فالسببية عندهم عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار، وليس لها أصل حسي، ولا تثبتها التجربة الحسية وما نسميه بالعلية ما هو إلا اقتران ظاهرتين زمانًا ومكانًا وهذا الكلام يغني فساده عن إفساده وبطلانه عن إبطاله والناس منذ أن خلقوا على خلافه حتى الحيوانات على خلافه والقوانين الفيزيائية على خلافه.
والسببية قانون عقلي لا قانون تجريبي يزاوله الناس في حياتهم أي هذا القانون يطبقه الناس في دنيا الواقع فالناس عندهم الأكل سبب للشبع وشرب الماء سب للارتواء والنكاح والجماع سبب لانجاب الولد والعمل سبب في الحصول على المال وتناول الدواء سبب في حصول الشفاء بإذن الله والنار سبب للحرارة ولو لم يكن هناك ضرورة بين الأكل والشبع ما أكل الناس ليشبعوا ولو لم يكن هناك ضرورة بين الشرب والارتواء ما شرب الناس ليرتووا ومن ينكر علاقة الضرورة والسببية بين الأكل والشبع والشرب والارتواء وغير ذلك عد من المجانيين.
وجميع العلوم الكونية مبنية على السببية ولذلك لا يمكن للعلوم الاستغناء عن السببية، وبسقوط السببية تنهار جميع العلوم.
وعدم اعتبار أصل السببية يؤدي الى عدم الاستدلال، لأن الإثبات والدليل عامل مهم من عوامل قبول النتائج، وإذا لم يرتبط الإثبات بالنتائج، فلا يؤدي الإثبات إلى نتيجة.
ومبدأ العلية مبدأ ضروري لا يمكن الاستدلال على رده، وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذن محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع لما أمكن التفكير، ولا تناول الطعام، ولا المشي أيضاً ولا الشرب وغير ذلك من أمور الحياة.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع لما تمكن العلماء من تفسير الظواهر الكونية.
ولو لم تكن السببية وجودة في الواقع لما تمكن الأطباء من علاج الأمراض والوقاية منها.
وقولهم السببية عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار يبطله الواقع فمن يرى كتابة يعرف أن لها كاتب ولو كانت أول كتابة يراها ومن يرى كرسي يعرف أن له صانع ولو كان أول كرسي يراه ولو من يرى لوحة فنية يعرف أن لها فنان وكانت أول لوحة فنية يراها في حياته وحتى الطفل الصغير إذا سمع صوتًا انتبه إلى مكانه ليعرف سببه وإذا جاع طلب الطعام.
وإن قالوا ما نسميه بالعلية ماهو إلا اقتران ظاهرتين زمانًا ومكاناً فالجواب أن هذا الاقتران لظاهرتين اقتران واقعي فعلي ضروري وليس مجرد عادة ذهنية فهناك ترابط وعدم انفكاك بين السبب والنتيجة والعلة والمعلول وكلما حدث السبب حدثت النتجة وكلما حدثت العلة حدث المعلول ودون حدوث السبب لا تحدث النتيجة.
ووجود هذا الكون بعد أن لم يكن لدليل بديهي على وجود مسببه موجده ولا ينكر هذا إلا عديم العقل ومنتكس الفطرة هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.