صيود الأوراد(15): فرضناها.. فرَّضناها

أبو محمد بن عبد الله

إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، ...» فإن في كل حرف عِلم، عَلِمه من علمه وجهله من جهله... ولقد اشتمل القرآن على كل أنواع الإعجاز والإبداع.. وإن الذي أحسن الخلق فقد أحسن التنزيل، ولكن حين يتعلق البشر بالمادة والمحسوس فلا يرون هذا الإبداع المُدهش إلا في حسن الخلق والصنعة، ولو أن أرواحهم شَفَّت وعقولهم صفَت لرأوْا أكثر من ذلك حُسنا وإبداعا وإعجازًا في أحسن التنزيل.. القرآن الكريم..

  • التصنيفات: القرآن وعلومه - قضايا إسلامية -

فرضناها.. فرَّضناها
قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1].
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» (الترمذي، السنن، برقم:[ 2910])، إذا كان بكل حرف أجر فإن في كل حرف عِلم، عَلِمه من علمه وجهله من جهله... ولقد اشتمل القرآن على كل أنواع الإعجاز والإبداع.. وإن الذي أحسن الخلق فقد أحسن التنزيل، ولكن حين يتعلق البشر بالمادة والمحسوس فلا يرون هذا الإبداع المُدهش إلا في حسن الخلق والصنعة، ولو أن أرواحهم شَفَّت وعقولهم صفَت لرأوْا أكثر من ذلك حُسنا وإبداعا وإعجازًا في أحسن التنزيل.. القرآن الكريم..

وها نحن أمام واحدة منها...

قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1].

فقوله تعالى: {سورة} مقصود بها سورة النور، وكأن التقدير: هذه سورة أنزلناها.. والسورة مجموعة من الآيات التي لها محور تدور حوله موضوع أساس تعالجه، وإن بدا لبعضنا أنها آيات أو فقرات لا رابط لها، فبسبب البعد عن معاني القرآن.. بل لك سورة شخصية ووحدة موضوعية، فتح الله تعالى على ثلة من العلماء بيَّنوا ذلك في كتبهم أو تفاسيرهم.

وقوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهَا}: فيها: أن القرآن أنزله الله تعالى وأنه من عنده سبحانه، وليس فيه للنبي صلى الله تعالى إلا التبليغ.. فهو سبحانه أنزل القرآن كله، ولكن خصها بإسناد إنزالها إليه سبحانه من باب التنويه بها وتعظيمها.

وفيها: إشارة إلى علوِّ الله تعالى، لأن الإنزال والتنزيل يكون من الأعلى، وهو من عنده سبحانه، فدلَّ على أنه {الأعلى}. وفيها: أنها نزلت سورة ذات موضوع وخصائص خاصة وحدود مُسوَّرة.

فـــــــرضناها

أما قوله تعالى: {وَفَرَضْنَاهَا} - وهي المقصودة هنا بالكلام- ففيها فوائد.

وقد قرأ قُرَّاء القرآن الكرم ورُوَّاتُه بقراءتين: تخفيف الراء {وَفَرَضْنَاهَا}، وبتشديدها: {وَفَرَّضْنَاهَا}، فما دلالة كلٍّ منهما؟!

فـــرَّضْنــــــاها

أما قراءة  التشديد {وَفَرَّضْنَاهَا} فمعناها من التَّفريض والتفصيل، فقد فرَّض الله تعالى فيها قضايا كثيرة وفصّل فيها أحكاما عديدة، مما تصلح به عقائد الناس وأفرادهم ومجتمعاتهم، وما يصون أعراضهم وجماعاتهم.. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى {وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}

ومنها أنها: (شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء. ومن آداب الخلطة والزيارة. 

- وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.

- وعقاب الذين يقذفون المحصنات، وحكم اللعان، والتعرض إلى براءة عائشة رضي الله عنها، والزجر عن حب إشاعة الفواحش بين المؤمنين والمؤمنات،  والأمر بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مسطح بن أثاثة.

- وأحكام الاستئذان في الدخول إلى بيوت الناس المسكونة، ودخول البيوت غير المسكونة، وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة، ولباسهن، وإفشاء السلام، والتحريض على تزويج العبيد والإماء، والتحريض على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم، وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية، والأمر بالعفاف، وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان، وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر، والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها، وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس، وقد أردف ذلك بوصف ما أعد الله للمؤمنين، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده)[الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، 18/ 140]

وكلها كما ترى من جلائل الأمور.. فحقًّا كما قال الله تعالى: {وفرَّضناها}..

ففرَّضناها، من كثرة ما فصّل فيها من القضايا والأحكام..
وقيل أيضا من كثرة من تشملهم من أنواع الناس وعلى مر الأعصار واتساع الأمصار، أحكامها عامة باقية غير منسوخة...

وقيل فرّضناها بالتشديد لشدة التأكيد على ما جاء فيها من أحكام، وحقّ لها ذلك، فهي منهاج حياة ودستور مجتمع..


فَرضنــــــاهــــا
أما على قراءة التخفيف {فرَضَناها} أي أوجبناها عليكم وأوجب العمل بما فيها، وأن الأصل فيما جاءت به من أحكام أنها واجبة مفروضة، ورغم أن القرآن جاء في وصفع عموما أنه مفروض: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، ومع ذلك خص هذه السورة بوصف الفرض كما خصها بوصف التنزيل، وحين ترى ما جاء فيها من أحكام، تجدها واجبة مفروضة إنْ على وجه الجزء والإفراد أو الجملة.

فحد الزنا واجب التطبيق، وآثار تركه بادية في فساد مجتمعات اليوم، وصون الأعراض واجب، وحد القذف الواجب على مخالفته، والعفة واجبة؛ ولذلك لا تناكح بين أهل  الفجور وأهل العفة، وحسن الظن بالمؤمنين واجب، والسكوت عن نشر الشائعة فضلا عن الفاحشة واجب، والحذر من خطوات الشيطان فرض واجب، والعفو الاجتماعي والتكافل الاجتماعي واجبان مفروضان، وإلا تفككت المجتمعات، والاستئذان وحفظ العوارت واحترامها فرض، وغض الأبصار وحفظ الفروج واجب، والحجاب وستر الزينة عن الأجانب مفروض، وليس حرية شخصية، وتربية الأبناء واجب مفروض على الآباء والأمهات،  وذكر الله واجب، وبناء المساجد لذكر الله واجب كفائي على الأمة مفروض على أولياء الأمور فيها، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مفروضة واجبة، والتحاكم إلى شريعة الله فرض واجب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة واجب مفروض، وإعطاء الأهل حقهم وحسن عشرتهم واجبة، والالتفاف حول القيادة الراشدة وطاعة أولياء الأمور الطائعين لله  في سياستهم واجبة، واستئذانهم طاعة لهم، وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم حيًّا وميّتا واجب مفروض، والاقتداء به واجب وممكن، لذلك كان بشرا رسولا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولم يكن مّلَكا رسولا، والكون مع الصالحين الذين أنعم الله عليهم واجب، التجافي عن الظلمة والابتعاد عن سُبل أهل الغواية والإضلال واجب وقاية للنفس وبراءة منهم، والتسليم لشريعة الله واجب، لا يصح الاعتراض عليه أو الاقتراح، كما اقترحوا نزول القرآن جملة أو على رجل آخر.. والاعتزاز بالقرآن واجب لأنه جاء: {بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}، والتواضع واجب وترك اللغو ومجادلة الجاهلين كذلك، تحريم الدماء المعصومة والأنفس المعصومة واجب مفروض، وقول الصدق وترك  شهادة الزور واجب، وتدبر آيات الله تعالى والوقوف عندها واجب، وأخير في خاتمة السورة: دعاء الله تعالى وتوحيده  واجب..

قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها، وأنزل فيها ضروبًا من الأحكام، وأمر فيها ونهى، وفرض على عباده فيها فرائض، ففيها المعنيان كلاهما: التفريض، والفرض، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب) [ تفسير الطبري: 19/ 90].

نعم، صدق الله تعالى في قوله سبحانه: {فَرضناها} وفي قوله سبحانه: {فرَّضناها}

فانظر إلى بديع التنزيل الإلهي لهذا القرآن المعجز، اللهم فقِّهنا في الدين وعلِّمنا التأويل.