آيا صوفيا والأزهر.. والأمل
ملفات متنوعة
كنيسة شرع الإمبراطور "جستنيان" في بنائها عام 532م، وتم افتتاحها
رسميًّا عام 537م، وظلت طيلة قرابة تسعة قرون منارة للتثليث والكفران،
يُسبُّ فيها رب العالمين، وتُنسب له فيها الصاحبة والولد....
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
آيا صوفيا..
كنيسة شرع الإمبراطور "جستنيان" في بنائها عام 532م، وتم افتتاحها
رسميًّا عام 537م، وظلت طيلة قرابة تسعة قرون منارة للتثليث والكفران،
يُسبُّ فيها رب العالمين، وتُنسب له فيها الصاحبة والولد، قال -تعالى-
في الحديث القدسي: «يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَشْتِمَنِي.. أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا»
[رواه البخاري].
إلى أن دخل المسلمون مدينة القسطنطينية عام 1453م، فأمر السلطان محمد
الفاتح -رحمه الله- بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد يُفرَدُ فيه ربُّ
العالمين وحده بالعبادة، وينزَّه فيه عن اتخاذ الصاحبة والولد، ويُقرأ
في محرابه: {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ
﴿1﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ
﴿2﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
﴿3﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
[سورة الإخلاص]، ويُصدح على
مناراته بكلمة التوحيد التي هزَّت عروش الجبابرة وقصمت ظهور الأكاسرة:
لا إله إلا الله، وظل مسجد آيا صوفيا منارةً للإسلام تُقام فيه شعائر
الدين، وتتنزل عليه الرحمات والبركات، ويُعبد فيه الواحد الأحد رب
العالمين.
إلى أن أظلمت الدنيا في أوائل القرن العشرين، ومدَّ الهالك مصطفى
كمال أتاتورك -عامله الله بعدله- يدَه ليدنس مسجد آيا صوفيا، فحوَّله
-بعد أن ظل أكثر من أربعة قرون مسجدًا للمسلمين- إلى متحف، معطـِّلاً
الأذان والصلوات والجُمُعات، بعد أن عطـَّل الخلافة الإسلامية، وحارب
الإسلام وأهله وشعائره.
ولكن العاقبة للمتقين، وعدُ الله الذي لا يُخلف وعده، فالأمل لا
ينقطع -أبدًا- أن تعود آيا صوفيا إلى مسجد ومنارة للعلم تضيء للعالم
مرة أخرى، ولعله يأتي اليوم الذي يُرفع الأذان على مناراته مرة أخرى
بعد طول غياب، وتلامس جباهُ الموحدين ثراه؛ فإن الذي مكَّن أهل
الإيمان تحويلَ كنيسة ظلت طيلة تسعة قرون موئلاً للكفر إلى مسجد عامر
بالتوحيد والإيمان قادرٌ -عز وجل- أن يعيد هذا المتحف إلى بيت من
بيوته في الأرض.
والجامع الأزهر..
لما غزا جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي أول الخلفاء
العبيديين -المسمين زورًا بالفاطميين- مصر؛ وضع أساس مدينة القاهرة في
17 شعبان سنة 358هـ لتكون عاصمة للدولة العبيدية الباطنية، ثم وضع
أساس قصر المعز لدين الله وحجر أساس الجامع الأزهر في 14 رمضان سنة
359هـ -970م، وأتمه في شهر رمضان سنة 361هـ-972م.
وشهد الأزهر أول حلقة درس تعليمي شيعي عندما جلس أبو الحسن علي بن
النعمان في صفر 365هـ-أكتوبر 975م ليقرأ مختصر أبيه في فقه آل
البيت.
ثم اتخذ العبيديون الفاطميُّون الجامع الأزهر مدرسةً لتخريج الدعاة
الباطنيين؛ ليروجوا لمذهبهم الشيعي الباطني، ففي سنة 378هـ-988م جعله
العزيز بالله جامعة تدرس فيها العلوم الباطنية الإسماعيلية للدارسين
من أفريقيا وآسيا، وكانت الدراسة بالمجان، وأوقف الفاطميون عليه
الأوقاف للإنفاق منها على فرشه وإنارته وتنظيفه وإمداده بالماء، وكذا
رواتب الخطباء والمشرفين والأئمة والمدرسين والطلاب.
ثم قام الوزير يعقوب بن كلس الفاطمي بتعيين جماعة من الفقهاء
للتدريس، وأجري عليهم رواتب مجزية، وأقام لهم دورًا للسكن بجوار
المسجد، وظل الأزهر علي هذا المنوال من تدريس الفقه الشيعي وتعليم
وتأهيل دعاة المذهب الباطني الفاطمي، فكان منارة للتحريف والتأويل
والعبث بنصوص الشرع والطعن في أولياء الله -عز وجل- من الصحابة
الأخيار وأمهات المؤمنين الأطهار.
وحينما تولي صلاح الدين الأيوبي سلطنة مصر وأباد دولة العبيديين عام
567هـ-1171م؛ عمل على إلغاء المذهب الشيعي، والقضاء على الباطنية،
وطمس رسوم الدولة الفاطمية، فمنع إقامة صلاة الجمعة بالجامع الأزهر،
وعطـَّل الخطبة، وأغلق الجامع، لكنه لم يُبطل صفته الجامعيَّة؛ فقد
استمر في الاحتفاظ بصفته كمعهد للدرس والقراءة، وكان مقصد علماء
بارزين داوموا على التدريس فيه بعد أن حوَّله إلى جامعة إسلامية
سنيَّة، مع إنشاء عدة مدارس لتعزيزه ومنافسته في حركته المذهبية
والعلمية الجديدة.
وفي عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري أعاد الخطبة
والجمعة إلى الجامع الأزهر، كما قام بتجديده وتوسعته، وإعادة فرشه،
واستعادة أوقاف المسجد من غاصبيها، وفي عهده تم بناء أول رواق للتدريس
في الجامع الأزهر، وسرعان ما استرد الأزهر مكانته بوصفه معهدًا
علميًّا ذو سمعة عالية في مصر والعالم الإسلامي، وأوقفت عليه الأوقاف،
وفتح لكل الدارسين من شتي أقطار العالم الإسلامي، وكان ينفق عليهم،
ويقدم لهم السكن والجراية من ريع أوقافه، وكانت الدراسة والإقامة به
بالمجان.
ومما زاد من أهمية الأزهر في تلك الآونة ووجَّه إليه الأنظار أن
غزوات المغول في المشرق كانت قد قضت على معاهد العلم هناك، كما أن
الدولة الإسلامية في المغرب تعرَّضت للتفكك والانحلال، مما أدى إلى
دمار مدارس العلم الزاهرة بالمغرب.
وفي عصر الدولة العثمانية ظل الأزهر محتفظـًا بمكانته العلميَّة
والتوجيهية، وقام بدوره في الحفاظ على التراث العربي بعد سقوط الخلافة
العباسية في بغداد، وكان للأزهر مواقفه المشهودة في التصدي لأهل
الأهواء الطاعنين في دين الله -عز وجل-، كما كان له دوره في الحفاظ
على اللغة العربية من أيدي العابثين، وكذا الوقوف في وجه الحكام
والأمراء الظلمة مِن المماليك وغيرهم، بل التصدي للاحتلال الغربي
الكافر لمصر: الفرنسي والإنجليزي، فمن الأزهر خرجت الثورات في وجه
الاستعمار، وفي الأزهر تربَّى الرجال الذين حفظوا لمصر مجدها في العصر
الحديث، ومواقف علماء الأزهر وشيوخه تشهد بذلك.
وقد حاول أعداء الإسلام -من الداخل والخارج- القضاء على نفوذ علماء
الأزهر بشتى السبل ومختلف الطرق، ولكن جبال الأزهر وقفوا أمامهم
محافظين على هوية الأمة الإسلامية في مواقف يطول ذكرها ويصعب
حصرها.
ولا ينكر أحدٌ أن مكانة الأزهر قد اهتزت في العقود الأخيرة، وفقد
مصداقيته عند كثيرٍ من المسلمين بسبب بعض الأفراد الذين لم يتقوا الله
فيما علمهم إيَّاه، وباعوا آجلاً بعاجل، وهذا على الرغم من وجود عدد
كبير من العلماء في جامعاته لا يخافون في الله لومة لائم، تجري في
عروقهم دماء أجدادهم الذين ما ذلوا وما هانوا، ولكن ماذا تقول في
مصابيح في أيدي المُغرضين يسلطونها على من أرادوا مِمَّن وافق
أهواءهم، ويتركون رجال الحق في جنح الظلام؟!
ولكن العاقبة للمتقين، والرجاء في الله -عز وجل- أن يرجع الأزهر إلى
سابق عزِّه ومجده في يومٍ من الأيام، وأن يوفق علماءه أن يصلحوا ما
فسد، فإن الذي مكَّن أهل السنة من تحويل ذلك المسجد الذي ظل منارة
للفكر الباطني المعادي للإسلام قرابة قرنين من الزمان إلى منارة
للقرآن والسنة أضاءت العالم بالعلم والإيمان قادرٌ -عز وجل- أن يعيد
إلى هذا المسجد عزَّه ودوره الريادي في الأمة مرةً أخرى، وهو وليُّ
ذلك والقادر عليه.