(12) من صور الإعجاز الفني في القرآن 1-2
يبدأ المشهد القرآني بالنفخ في الصور (البوق) وحَمْل الأرض والجبال، ودكَّها دكة واحدة، و(الدَّك) هو الدق والكسر. ثم يتبع ذلك تشقق السماء وتصدعها، ووقوف الملائكة على أطراف السماء ونواحيها، ونصب الموازين للعرض والحساب، وتكون النتيجة انقسام الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
- التصنيفات: القرآن وعلومه - الإعجاز العلمي - الموت وما بعده - الدار الآخرة -
لا شك أن وجوه الإعجاز القرآني متعددة ومتجددة؛ فمن وجوه تعددها الإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز البياني، والإعجاز الغيبي، ثم أخيرًا لا آخرًا الإعجاز الفني التصويري. ومن وجوه تجددها ما يثبته العلم بين الحين والآخر من حقائق كونية ونفسية تؤكد وتؤيد ما أخبر عنه القرآن الكريم.
ويدور حديثنا في هذا المقال على صورة من صور الإعجاز الفني في القرآن، وذلك مع قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ . وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً . فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ . وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ . يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ . فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ . خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ . لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:13-37].
ففي هذه الآيات الكريمات صورة فنية رائعة، ممتدة الأبعاد، فسيحة الأركان، مترامية الأطراف، متعددة الظلال والألوان، تجمع في إطار واحد أحداثًا قوية مثيرة، تصل ما بين آخر أيام الدنيا، وأول أيام الآخرة.
يبدأ المشهد القرآني بالنفخ في الصور (البوق) وحَمْل الأرض والجبال، ودكَّها دكة واحدة، و(الدَّك) هو الدق والكسر. ثم يتبع ذلك تشقق السماء وتصدعها، ووقوف الملائكة على أطراف السماء ونواحيها، ونصب الموازين للعرض والحساب، وتكون النتيجة انقسام الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
والمتأمل في آيات هذا المشهد القرآني يجد فيه العديد من الخصائص الفنية، نقتصر هنا على خاصية واحدة، وهي خاصية إحاطة كل مشهد من مشاهد هذا الحدث بإطار من العبارة المنسَّقة، على نحو يوحي بالجو الشعوري السائد فيه. ونبسط القول في ذلك بعض الشيء بالوقوف على هذه المشاهد الثلاثة:
المشهد الأول: مشهد الانقلاب الهائل المدمر، الذي تتحول فيه الصورة بين لحظة وأخرى من النقيض إلى النقيض.. هذا الانقلاب المدمر الذي يصوره هذا المشهد يقع في جو من الشعور بالشدة والسرعة والحسم، الذي لا مجال فيه لتكرار الحدث الواحد، وهذا ما يوضحه قوله تعالى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}، {دَكَّةً وَاحِدَةً}، {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}.
المشهد الثاني: مشهد التمييز بين فريقين: فريق الجنة وفريق النار، وتحديد مصير كل منهما، في هذا المشهد يسود جو مفعم بالسعادة والبهجة في جانب الفريق الأول، ويسود جوٌ ملبد بالحسرة والندامة في جانب الفريق الآخر، يتضح ذلك في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ . إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
ففي الجانب الأول تبدو العبارة فوَّارة بالسعادة، نضاخة بالبهجة، حتى لتكاد تطوف آفاق العالمين لتعلن عن نفسها: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، {جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}.
وفي الجانب المقابل نرى الحسرة والندامة تبدوان في قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي}، {يَا لَيْتَهَا}، {مَا أَغْنَىٰ عَنِّي}، {هَلَكَ عَنِّي} حتى ليكاد القارئ يرى {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} لاطمًا خده بكلتا يديه.
هذا من جهة المدلول البلاغي للعبارة بما تحمله من ظلال الموقف وألوان الجنة والنار..
أما قافية الآيات، التي تتمثل في الهاء.. فإنها تُشْعِر عند خروجها من أعلى صدر قارئها، بالفرحة والسعادة، التي تملأ جنبات النفس، وتموج داخل الصدر في الجانب الأول من المشهد، وعلى الجانب الآخر فإنها تحمل زفرات الأسى وحرارة الندم اللذَيْن يملآن الصدر، ويترعان النفس حزنًا وآلمًا، وهمًا وغمًا.
أما المشهد الثالث: فيبدو فيه مشهد العقاب مصحوبًا بالحيثيات والمسوغات، التي هي أشد وقعًا على النفس، وأكبر إيلامًا في الضمير من العذاب ذاته، ويسود هذا المشهد جو من العنف والشدة والغلظة، نجد ذلك واضحًا في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ . لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}
وبالنظر في هذه المدود الواردة في الآيات السابقة نجد وكأن قوى الكون كلها في حالة سباق مع الزمن لتنفيذ الأمر الإلهي الصادر بشأن {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} تريد أن تعتقله وتسوقه سوقًا إلى المآل الذي سيصير إليه.
وهكذا يتضح من خلال المشاهد الثلاثة التي أتينا عليها، قوة التصوير القرآني، ومدى تأثيره في النفس الإنسانية في إيصال المعاني التي يهدف إليها، ما لا قِبل لبشرٍ بالإتيان بمثله، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].