كبوة الإمام الأكبر
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بقدر ما أدهشنا موقف الرئيس الفرنسي في انحيازه إلى تقنين منع
الحجاب, فإن تعليق شيخ الأزهر على الموضوع فاجأنا وصدمنا. وإذا
كان بوسعنا أن نفهم الملابسات التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى التورط في
ذلك الموقف, إلا أن ما صدر عن شيخ الأزهر يستعصي على الفهم,
ولايمكن أن يفسر إلا بحسبانه زلة لسان من العيار الثقيل لم يحالفه
فيها التوفيق من أي باب.
(1)
لقد عبرت انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية عن انتقادهما لموقف الرئيس الفرنسي, باعتباره عدواناً على الحريات (وليس غيرة على الإسلام بطبيعة الحال), ولكن شيخ الأزهر الذي يفترض أنه أحد رموز الغيرة على الدين لم ينطق بكلمة نقد واحدة لذلك الموقف, ولم تكن هذه هي المفارقة الوحيدة, لأن الشيخ حين تحدث في الموضوع معتبراً القرار الفرنسي شأناً داخلياً كان يجلس إلى جواره وزير الداخلية الفرنسي شخصياً, الذي جاء إلى القاهرة خصيصاً لكي يستأنس برأي مشيخة الأزهر مدركاً لأهميته, ومتجاوزاً الحدود التي وصفها الشيخ لتحصين القرار الفرنسي ضد النقد.
أما المفارقة الأكبر فهي أن وزير الداخلية الفرنسي أعلن في أكثر من حديث صحفي أنه كان معارضاً لتقنين حظر الحجاب, ولكنه تبنى موقف التقنين بعد أن انحاز إليه الرئيس شيراك, وأصبح سياسة لحكومة هو عضو فيها, ولأن الوزير الفرنسي نقولا ساركوزي له تطلعاته السياسية وطموحه إلى الترشيح لرئاسة الجمهورية مستقبلاً, فإنه يعتبر أصوات المسلمين الفرنسيين (6ملايين نسمة) رصيداً يريد أن يكسبه إلى صفه, وذلك عامل آخر يشجعه على معارضة القرار, الذي يعلم أنه يستفز المسلمين ويثير غضبهم.. أعني أن معارضته ليست منطلقة من اقتناع شخصي فحسب, ولكنها متأثرة أيضاً بحساباته السياسية المستقبلية.
إزاء ذلك فإن زيارة الوزير الفرنسي للقاهرة بدت خطوة في غاية الذكاء.. لأنه كان قد سمع من شيخ الأزهر انتقاداً قوياً لفكرة تقنين حظر الحجاب, فذلك سيقوي موقفه الشخصي لاريب, وقد يكون عنصراً مساعداً على إعادة النظر في الفكرة خصوصاً أن مشروع القانون لم يعد بعد وفي هذه الحالة فإنه سيقابل بتعاطف وتأييد من جانب المسلمين الفرنسيين, وهي الورقة المهمة التي يسعي للاحتفاظ بها.. أما إذا اتخذ شيخ الأزهر موقفاً ليّناً يشجع الحكومة على المضي في عملية التقنين -وهو ماحدث- فإنه سيكون بوسع وزير الداخلية في هذه الحالة أن يغسل يديه من الموضوع ويبريء ذمته أمام المسلمين الفرنسيين, ملقياً بالمسئولية على مشيخة الأزهر التي سهلت مهمة الحكومة, وسوّغت لها أن تتقدم بمشروعها.
إذا صح ذلك التحليل فإنه يستدعي سؤالاً ليس بوسعنا أن نجيب عليه الآن, وربما تتضح إجابته مستقبلاً هو: هل كان يمكن حقاً أن يتراجع الرئيس الفرنسي عن قراره أو يعدل فيه لو أن شيخ الأزهر اتخذ موقفاً صريحاً معارضاً لفكرة تقنين منع الحجاب, خصوصاً أنه أوفد وزيراً في حكومته إلى القاهرة للقائه بخصوص الموضوع, وإلى أي مدى يتحمل ما أعلنه الشيخ المسئولية عن تشجيع الحكومة الفرنسية على المضي فيما عزمت عليه؟
(2)
في اليوم التالي لإعلان الرئيس شيراك تأييده لتقنين حظر الحجاب في المدارس، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية( عدد12/17) مقالاً لإحدى كاتباتها ـ مادلين بونتنج ـ انتقدت فيه القرار بشدة, ووصفته بأنه تعبير عن جنون العلمانية, وهو وصف على شدته يخفف من تشخيص الحالة الفرنسية, إذ ليس صحيحاً أن للعلمانية موقفاً واحداً من الدين, باستثناء الاتفاق على تهميش دوره في الحياة العامة. ذلك أن ثمة علمانية متصالحة مع الدين كما في انجلترا التي تتولى فيها الملكة رئاسة الكنيسة, وهناك علمانية مخاصمة للدين انطلقت من فرنسا, التي قامت ثورتها في عام1789 أساساً ضد الملكية وضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية وسلطانها.
إذا كان ذلك هو موقف الثقافة الفرنسية التقليدية من التدين بوجه عام, فإن التدين الإسلامي كان ولايزال له وضعه الخاص, من حيث أنه يستعصي على عملية التذويب بأكثر من غيره لأسباب يطول شرحها, وإن قبل بالاندماج والتفاعل, وبسبب ذلك الاستعصاء فإن الحملة عليه شديدة وتعبئة الغلاة للجماهير ضده لاتتوقف, وفي سياق هذه الحملة كان إصرار نخبة الغلاة شديداً على تخلي المسلمين عن أية خصوصية لهم والانخراط فيما سمي بـ الإسلام الفرنسي الذي أصبح الالتحاق به يقاس بمقدار استعداد المسلم للتخلي التدريجي عن شعائر دينه, وهو ما أصبح معياراً وحيداً للاعتدال في نظرهم.. ومن الثابت أن قضية الحجاب أثيرت في فرنسا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران التي ألزمت النساء بعدم الظهور سافرات في الأماكن العامة.. الأمر الذي كان له صداه الاحتجاجي والغاضب في فرنسا.. سواء بسبب حساسية موضوع المرأة في الثقافة الفرنسية, أو بسبب العلاقات التاريخية الخاصة بين طهران وباريس(لاتنس أن الفرنسية كانت لغة البلاط الشاهنشائي, وأن الإمام الخميني اختار فرنسا منفى له حين أبعد من العراق وأن باريس ظلت أحد معاقل المعارضة الإيرانية).. منذ ذلك الحين اعتبر الحجاب رمزاً للعداء للغرب في الخطاب الإعلامي المبسط مادام أنه كذلك في إيران, وجرى تسويق الفكرة حتى رفضت مدرسة حكومية في سيال قرب باريس قبول تلميذتين مسلمتين في منتصف الثمانينيات لأنهما ارتدتا حجاب الرأس, وثارت ضجة آنذاك اضطر إزاءها وزير التعليم العالي إلى إحالة الأمر لمجلس الدولة, الذي قرر أن الرموز الدينية لاتتعارض مع العلمانية, ما لم تكن مصحوبة بأي شكل من أشكال الوعظ أو الاستفزازات العرقية ولكن التعبئة المضادة استمرت, وتكررت حالات طرد المحجبات من المدارس بل وأعلن المدرسون العاملون بإحدى المدارس الثانوية خارج باريس إضراباً عن العمل لمدة أسبوع احتجاجاً على إعادة قبول تلميذة كانت قد فصلت في السابق لارتدائها الحجاب.. وفي هذه الأثناء كان اليمين الفرنسي (حزب الجبهة الوطنية) يصعد حملته ضد الأجانب عموماً, والمحجبات خصوصاً. وظلت حملته تلك تكسبه أصواتاً وأرضاً جديدة كل حين, وفي ظل تلك الضغوط شكل الرئيس شيراك لجنة ستاسي لدراسة الموضوع في شهر سبتمبر الماضي التي خلصت إلى عدة توصيات في صدده بينها انها أيدت إصدار قانون يحظر الحجاب في المدارس والمعاهد, وكان مدهشاً أن الرئيس الفرنسي أيد مطلب تقنين الحظر, وطلب من الحكومة إعداد مشروع قانون بهذا المعنى.. كأنما صدق الزعم بأن الجمهورية الفرنسية بكل هيبتها وجلالها يمكن أن يهدد أركانها حجاب ترتديه بعض التلميذات المسلمات, ولم يفت بعض معارضي شيراك أن يلفتوا النظر إلى أنه بخطوته تلك كان متطلعاً إلى انتخابات البلديات التي ستجري في شهر مارس المقبل, وأراد أن يسحب من حزب الجبهة الوطنية ورقة مهمة كان يستخدمها في كسب الأصوات, ومنهم وصف موقفه أنه بمثابة ضربة استباقية ـ إذا استخدمنا قاموس المفردات الأمريكية ـ يفوت بها على الجبهة الوطنية فرصة المزايدة عليه بتبني الدعوة لمنع الحجاب.
إذا صح أن عيّن الرئيس شيراك كانت على انتخابات البلديات فإن تركيزه على هذا الجانب أفقده الكثير, حتى أزعم أن فرنسا خسرت بسبب موقفه هذا ثلاث مرات: فقد خسرت سمعتها في العالم الإسلامي كبلد يجسد الالتزام بالحرية وحقوق الإنسان، وخسرت ثقة مسلميها بملايينهم الستة الذين خرجت مظاهراتهم رافعة لافتات تقول إن القانون المقترح حرب ضد الإسلام وليس ضد الحجاب، وضيعت فرصة اندماج وتفاعل المسلمين مع المجتمع الفرنسي.. حيث من الطبيعي أن يتوجس المسلمون وينعزلوا عن ذلك المجتمع الذي يحرمهم من الالتزام بشعائر دينهم.
(3)
حين تطرق شيخ الأزهر إلى الموضوع في المؤتمر الصحفي الذي حضره وزير الداخلية الفرنسي, فإنه وقع في خطأين كبيرين أولهما أنه كان محايداً إزاء الموقف الفرنسي وغير متحفظ عليه من أي باب, وثانيهما أنه بدا غير مدرك لخلفيات وملابسات وأبعاد الموضوع.
كان بعض الغيورين والمعنيين بالشأن الإسلامي قد توجسوا خيفة مما يمكن أن يصدر عن الشيخ بعد لقائه مع الوزير الفرنسي, وبعد اتصالات تمت في هذا الصدد, فإنه تلقى ثلاثة نماذج مكتوبة تضمنت نقاطاً مقترحة للتركيز عليها في تحديد موقف متوازن وحازم إزاء القضية منها مثلاً أن الزي الذي ترتديه الفتيات المسلمات ليس شعاراً للتميز أو الدعاية ولكنه شعيرة دينية كالامتناع عن شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو الامتناع عن العمل يوم السبت بالنسبة لليهود, وهو في هذه الحالة يختلف عن طاقية اليهود أو الصلبان التي يعلقها بعض المسيحيين, وهي التي لا يؤثم المتدينون إذا لم يرتدوها, بعكس حجاب المسلمات, ومادام أنه شعيرة شخصية تمارس في حدود النظام العام, ولاتتصادم مع مصلحة جماعية للشعب الفرنسي, فلا محل لتقييدها من جانب نظام دستوري وقانوني يحمي حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية من هذه الزاوية فإن القانون المقترح في فرنسا يخص المسلمين بقيد على ممارسة شعائرهم لايوضع على اتباع الديانات الأخرى, وهو أمر من شأنه أن يكرس عزلتهم وغربتهم في فرنسا.
إضافة إلى ذلك، أشارت الأوراق التي اقترحت على شيخ الأزهر، فإن حظر الحجاب بقانون, يتعارض مع العلمانية, إذا فهمت بحسبانها فصلاً للكنيسة عن الدولة وعدم اعتماد دين معين عقيدة رسمية للدولة, وما يقتضيه ذلك من حقوق للمساواة بين مختلف الأديان, في حين أنه يخص المسلمين دون غيرهم بقيد على شعائرهم.. الخ.
فيما بدا فإن شيخ الأزهر نحى جانباً ماقدم إليه من مقترحات وقال كلامه الذي أحدث الزوبعة حيث ركز على ثلاث نقاط: الأولى أن الحجاب تكليف شرعي ليس لأحد أن يتحلل منه, والثانية أن الدولة غير المسلمة ـ مثل فرنسا ـ لايلزمها هذا التكليف, وإذا ما اختارت أن تتخذ موقفاً يتعارض معه فهذا حقها ( كرر ثلاثا!) والثالثة أن المسلمة التي تعيش في ظل تلك الدولة عليها أن تمتثل لما يصدر فيها من قوانين على اعتبار أنها تصبح في حكم المضطر الخاضع لاستثناء الضرورة.
فوجئ أعضاء مجمع البحوث الإسلامية الذين شهدوا المؤتمر الصحفي بكلام الشيخ, فسجّلوا اعتراضهم عليه ونقدهم له, على النحو الذي سجلته وبثته على الهواء قناة الجزيرة وكانت نقطة الاتفاق بينهم أن الشيخ بما أعلنه عبر عن رأيه الشخصي, لا عن رأي الأزهر أو مجمع البحوث, كما جاء على لسان الدكتور عبدالصبور مرزوق أمين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وقد حاول الدكتور علي جمعة ـ مفتي مصر ـ إنقاذ الموقف عبر إعادة تركيب كلام شيخ الأزهر على نحو يتدارك ما اعتراه من ثغرات وماشابه من قبول ضمني بموقف الحكومة الفرنسية, لكن ذلك لم يغير كثيراً من الموقف, وهو ما أبرزته القناة الخامسة الفرنسية التي بثت تسجيلاً للمؤتمر الصحفي ونقلت آراء بعض المواطنين المصريين, وهو مابين أن شيخ الأزهر يقف في جانب, بينما أغلب علماء المسلمين وعامتهم يخالفونه فيما ذهب إليه.
(4)
في الإعلام الفرنسي, قدم الأزهر بحسبانه معادلاً للفاتيكان عند الكاثوليك, ومن ثم اعتبروا كلام شيخه صكاً يطلق يد الحكومة في تقنين حظر الحجاب, رغم اجماع الأغلبية الساحقة من علماء المسلمين على معارضته سواء في مجمع البحوث الإسلامية أو المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي, ورغم أن معادلة الأزهر للفاتيكان لاتخلو من افتعال وتغليط, ورغم أن دور الأزهر تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة لأسباب يعلمها الجميع, إلا أن موقف شيخه من موضوع الحجاب يبدو أنه سيفتح الباب لتعميم الحظر في دول غربية أخرى, والتقرير الذي نشره الأهرام في12/30 لمراسلها في ألمانيا الزميل مازن حسان, ينعي إلينا ذلك الخبر.. حيث جاء عنوانه دالاً ومختزلاً الموقف هناك في عبارة تقول: سباق بين الولايات (الألمانية) لسن قوانين تحظر ارتداء الحجاب(!)
لا أعرف كيف تعالج المشكلة الآن وربما كانت الفكرة التي طرحت لدعوة مجمع البحوث الإسلامية للاجتماع لمناقشة الموضوع وصياغة موقف أكثر صواباً وتوازناً, تمثل مخرجاً مناسباً, ولست متأكداً من إمكانية عقد ذلك الاجتماع, الذي يبدو أن ثمة عقبات تحول دونه, خصوصاً أن شيخ الأزهر رفض فكرة إصدار بيان توضيحي لتصريحاته.
ولكن إلى أن يتحقق المراد ويأذن الله بفرج من عنده, فإن الجميع مدعوون لأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء كي يغفر للإمام الأكبر كبوته.
(1)
لقد عبرت انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية عن انتقادهما لموقف الرئيس الفرنسي, باعتباره عدواناً على الحريات (وليس غيرة على الإسلام بطبيعة الحال), ولكن شيخ الأزهر الذي يفترض أنه أحد رموز الغيرة على الدين لم ينطق بكلمة نقد واحدة لذلك الموقف, ولم تكن هذه هي المفارقة الوحيدة, لأن الشيخ حين تحدث في الموضوع معتبراً القرار الفرنسي شأناً داخلياً كان يجلس إلى جواره وزير الداخلية الفرنسي شخصياً, الذي جاء إلى القاهرة خصيصاً لكي يستأنس برأي مشيخة الأزهر مدركاً لأهميته, ومتجاوزاً الحدود التي وصفها الشيخ لتحصين القرار الفرنسي ضد النقد.
أما المفارقة الأكبر فهي أن وزير الداخلية الفرنسي أعلن في أكثر من حديث صحفي أنه كان معارضاً لتقنين حظر الحجاب, ولكنه تبنى موقف التقنين بعد أن انحاز إليه الرئيس شيراك, وأصبح سياسة لحكومة هو عضو فيها, ولأن الوزير الفرنسي نقولا ساركوزي له تطلعاته السياسية وطموحه إلى الترشيح لرئاسة الجمهورية مستقبلاً, فإنه يعتبر أصوات المسلمين الفرنسيين (6ملايين نسمة) رصيداً يريد أن يكسبه إلى صفه, وذلك عامل آخر يشجعه على معارضة القرار, الذي يعلم أنه يستفز المسلمين ويثير غضبهم.. أعني أن معارضته ليست منطلقة من اقتناع شخصي فحسب, ولكنها متأثرة أيضاً بحساباته السياسية المستقبلية.
إزاء ذلك فإن زيارة الوزير الفرنسي للقاهرة بدت خطوة في غاية الذكاء.. لأنه كان قد سمع من شيخ الأزهر انتقاداً قوياً لفكرة تقنين حظر الحجاب, فذلك سيقوي موقفه الشخصي لاريب, وقد يكون عنصراً مساعداً على إعادة النظر في الفكرة خصوصاً أن مشروع القانون لم يعد بعد وفي هذه الحالة فإنه سيقابل بتعاطف وتأييد من جانب المسلمين الفرنسيين, وهي الورقة المهمة التي يسعي للاحتفاظ بها.. أما إذا اتخذ شيخ الأزهر موقفاً ليّناً يشجع الحكومة على المضي في عملية التقنين -وهو ماحدث- فإنه سيكون بوسع وزير الداخلية في هذه الحالة أن يغسل يديه من الموضوع ويبريء ذمته أمام المسلمين الفرنسيين, ملقياً بالمسئولية على مشيخة الأزهر التي سهلت مهمة الحكومة, وسوّغت لها أن تتقدم بمشروعها.
إذا صح ذلك التحليل فإنه يستدعي سؤالاً ليس بوسعنا أن نجيب عليه الآن, وربما تتضح إجابته مستقبلاً هو: هل كان يمكن حقاً أن يتراجع الرئيس الفرنسي عن قراره أو يعدل فيه لو أن شيخ الأزهر اتخذ موقفاً صريحاً معارضاً لفكرة تقنين منع الحجاب, خصوصاً أنه أوفد وزيراً في حكومته إلى القاهرة للقائه بخصوص الموضوع, وإلى أي مدى يتحمل ما أعلنه الشيخ المسئولية عن تشجيع الحكومة الفرنسية على المضي فيما عزمت عليه؟
(2)
في اليوم التالي لإعلان الرئيس شيراك تأييده لتقنين حظر الحجاب في المدارس، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية( عدد12/17) مقالاً لإحدى كاتباتها ـ مادلين بونتنج ـ انتقدت فيه القرار بشدة, ووصفته بأنه تعبير عن جنون العلمانية, وهو وصف على شدته يخفف من تشخيص الحالة الفرنسية, إذ ليس صحيحاً أن للعلمانية موقفاً واحداً من الدين, باستثناء الاتفاق على تهميش دوره في الحياة العامة. ذلك أن ثمة علمانية متصالحة مع الدين كما في انجلترا التي تتولى فيها الملكة رئاسة الكنيسة, وهناك علمانية مخاصمة للدين انطلقت من فرنسا, التي قامت ثورتها في عام1789 أساساً ضد الملكية وضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية وسلطانها.
إذا كان ذلك هو موقف الثقافة الفرنسية التقليدية من التدين بوجه عام, فإن التدين الإسلامي كان ولايزال له وضعه الخاص, من حيث أنه يستعصي على عملية التذويب بأكثر من غيره لأسباب يطول شرحها, وإن قبل بالاندماج والتفاعل, وبسبب ذلك الاستعصاء فإن الحملة عليه شديدة وتعبئة الغلاة للجماهير ضده لاتتوقف, وفي سياق هذه الحملة كان إصرار نخبة الغلاة شديداً على تخلي المسلمين عن أية خصوصية لهم والانخراط فيما سمي بـ الإسلام الفرنسي الذي أصبح الالتحاق به يقاس بمقدار استعداد المسلم للتخلي التدريجي عن شعائر دينه, وهو ما أصبح معياراً وحيداً للاعتدال في نظرهم.. ومن الثابت أن قضية الحجاب أثيرت في فرنسا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران التي ألزمت النساء بعدم الظهور سافرات في الأماكن العامة.. الأمر الذي كان له صداه الاحتجاجي والغاضب في فرنسا.. سواء بسبب حساسية موضوع المرأة في الثقافة الفرنسية, أو بسبب العلاقات التاريخية الخاصة بين طهران وباريس(لاتنس أن الفرنسية كانت لغة البلاط الشاهنشائي, وأن الإمام الخميني اختار فرنسا منفى له حين أبعد من العراق وأن باريس ظلت أحد معاقل المعارضة الإيرانية).. منذ ذلك الحين اعتبر الحجاب رمزاً للعداء للغرب في الخطاب الإعلامي المبسط مادام أنه كذلك في إيران, وجرى تسويق الفكرة حتى رفضت مدرسة حكومية في سيال قرب باريس قبول تلميذتين مسلمتين في منتصف الثمانينيات لأنهما ارتدتا حجاب الرأس, وثارت ضجة آنذاك اضطر إزاءها وزير التعليم العالي إلى إحالة الأمر لمجلس الدولة, الذي قرر أن الرموز الدينية لاتتعارض مع العلمانية, ما لم تكن مصحوبة بأي شكل من أشكال الوعظ أو الاستفزازات العرقية ولكن التعبئة المضادة استمرت, وتكررت حالات طرد المحجبات من المدارس بل وأعلن المدرسون العاملون بإحدى المدارس الثانوية خارج باريس إضراباً عن العمل لمدة أسبوع احتجاجاً على إعادة قبول تلميذة كانت قد فصلت في السابق لارتدائها الحجاب.. وفي هذه الأثناء كان اليمين الفرنسي (حزب الجبهة الوطنية) يصعد حملته ضد الأجانب عموماً, والمحجبات خصوصاً. وظلت حملته تلك تكسبه أصواتاً وأرضاً جديدة كل حين, وفي ظل تلك الضغوط شكل الرئيس شيراك لجنة ستاسي لدراسة الموضوع في شهر سبتمبر الماضي التي خلصت إلى عدة توصيات في صدده بينها انها أيدت إصدار قانون يحظر الحجاب في المدارس والمعاهد, وكان مدهشاً أن الرئيس الفرنسي أيد مطلب تقنين الحظر, وطلب من الحكومة إعداد مشروع قانون بهذا المعنى.. كأنما صدق الزعم بأن الجمهورية الفرنسية بكل هيبتها وجلالها يمكن أن يهدد أركانها حجاب ترتديه بعض التلميذات المسلمات, ولم يفت بعض معارضي شيراك أن يلفتوا النظر إلى أنه بخطوته تلك كان متطلعاً إلى انتخابات البلديات التي ستجري في شهر مارس المقبل, وأراد أن يسحب من حزب الجبهة الوطنية ورقة مهمة كان يستخدمها في كسب الأصوات, ومنهم وصف موقفه أنه بمثابة ضربة استباقية ـ إذا استخدمنا قاموس المفردات الأمريكية ـ يفوت بها على الجبهة الوطنية فرصة المزايدة عليه بتبني الدعوة لمنع الحجاب.
إذا صح أن عيّن الرئيس شيراك كانت على انتخابات البلديات فإن تركيزه على هذا الجانب أفقده الكثير, حتى أزعم أن فرنسا خسرت بسبب موقفه هذا ثلاث مرات: فقد خسرت سمعتها في العالم الإسلامي كبلد يجسد الالتزام بالحرية وحقوق الإنسان، وخسرت ثقة مسلميها بملايينهم الستة الذين خرجت مظاهراتهم رافعة لافتات تقول إن القانون المقترح حرب ضد الإسلام وليس ضد الحجاب، وضيعت فرصة اندماج وتفاعل المسلمين مع المجتمع الفرنسي.. حيث من الطبيعي أن يتوجس المسلمون وينعزلوا عن ذلك المجتمع الذي يحرمهم من الالتزام بشعائر دينهم.
(3)
حين تطرق شيخ الأزهر إلى الموضوع في المؤتمر الصحفي الذي حضره وزير الداخلية الفرنسي, فإنه وقع في خطأين كبيرين أولهما أنه كان محايداً إزاء الموقف الفرنسي وغير متحفظ عليه من أي باب, وثانيهما أنه بدا غير مدرك لخلفيات وملابسات وأبعاد الموضوع.
كان بعض الغيورين والمعنيين بالشأن الإسلامي قد توجسوا خيفة مما يمكن أن يصدر عن الشيخ بعد لقائه مع الوزير الفرنسي, وبعد اتصالات تمت في هذا الصدد, فإنه تلقى ثلاثة نماذج مكتوبة تضمنت نقاطاً مقترحة للتركيز عليها في تحديد موقف متوازن وحازم إزاء القضية منها مثلاً أن الزي الذي ترتديه الفتيات المسلمات ليس شعاراً للتميز أو الدعاية ولكنه شعيرة دينية كالامتناع عن شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو الامتناع عن العمل يوم السبت بالنسبة لليهود, وهو في هذه الحالة يختلف عن طاقية اليهود أو الصلبان التي يعلقها بعض المسيحيين, وهي التي لا يؤثم المتدينون إذا لم يرتدوها, بعكس حجاب المسلمات, ومادام أنه شعيرة شخصية تمارس في حدود النظام العام, ولاتتصادم مع مصلحة جماعية للشعب الفرنسي, فلا محل لتقييدها من جانب نظام دستوري وقانوني يحمي حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية من هذه الزاوية فإن القانون المقترح في فرنسا يخص المسلمين بقيد على ممارسة شعائرهم لايوضع على اتباع الديانات الأخرى, وهو أمر من شأنه أن يكرس عزلتهم وغربتهم في فرنسا.
إضافة إلى ذلك، أشارت الأوراق التي اقترحت على شيخ الأزهر، فإن حظر الحجاب بقانون, يتعارض مع العلمانية, إذا فهمت بحسبانها فصلاً للكنيسة عن الدولة وعدم اعتماد دين معين عقيدة رسمية للدولة, وما يقتضيه ذلك من حقوق للمساواة بين مختلف الأديان, في حين أنه يخص المسلمين دون غيرهم بقيد على شعائرهم.. الخ.
فيما بدا فإن شيخ الأزهر نحى جانباً ماقدم إليه من مقترحات وقال كلامه الذي أحدث الزوبعة حيث ركز على ثلاث نقاط: الأولى أن الحجاب تكليف شرعي ليس لأحد أن يتحلل منه, والثانية أن الدولة غير المسلمة ـ مثل فرنسا ـ لايلزمها هذا التكليف, وإذا ما اختارت أن تتخذ موقفاً يتعارض معه فهذا حقها ( كرر ثلاثا!) والثالثة أن المسلمة التي تعيش في ظل تلك الدولة عليها أن تمتثل لما يصدر فيها من قوانين على اعتبار أنها تصبح في حكم المضطر الخاضع لاستثناء الضرورة.
فوجئ أعضاء مجمع البحوث الإسلامية الذين شهدوا المؤتمر الصحفي بكلام الشيخ, فسجّلوا اعتراضهم عليه ونقدهم له, على النحو الذي سجلته وبثته على الهواء قناة الجزيرة وكانت نقطة الاتفاق بينهم أن الشيخ بما أعلنه عبر عن رأيه الشخصي, لا عن رأي الأزهر أو مجمع البحوث, كما جاء على لسان الدكتور عبدالصبور مرزوق أمين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وقد حاول الدكتور علي جمعة ـ مفتي مصر ـ إنقاذ الموقف عبر إعادة تركيب كلام شيخ الأزهر على نحو يتدارك ما اعتراه من ثغرات وماشابه من قبول ضمني بموقف الحكومة الفرنسية, لكن ذلك لم يغير كثيراً من الموقف, وهو ما أبرزته القناة الخامسة الفرنسية التي بثت تسجيلاً للمؤتمر الصحفي ونقلت آراء بعض المواطنين المصريين, وهو مابين أن شيخ الأزهر يقف في جانب, بينما أغلب علماء المسلمين وعامتهم يخالفونه فيما ذهب إليه.
(4)
في الإعلام الفرنسي, قدم الأزهر بحسبانه معادلاً للفاتيكان عند الكاثوليك, ومن ثم اعتبروا كلام شيخه صكاً يطلق يد الحكومة في تقنين حظر الحجاب, رغم اجماع الأغلبية الساحقة من علماء المسلمين على معارضته سواء في مجمع البحوث الإسلامية أو المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي, ورغم أن معادلة الأزهر للفاتيكان لاتخلو من افتعال وتغليط, ورغم أن دور الأزهر تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة لأسباب يعلمها الجميع, إلا أن موقف شيخه من موضوع الحجاب يبدو أنه سيفتح الباب لتعميم الحظر في دول غربية أخرى, والتقرير الذي نشره الأهرام في12/30 لمراسلها في ألمانيا الزميل مازن حسان, ينعي إلينا ذلك الخبر.. حيث جاء عنوانه دالاً ومختزلاً الموقف هناك في عبارة تقول: سباق بين الولايات (الألمانية) لسن قوانين تحظر ارتداء الحجاب(!)
لا أعرف كيف تعالج المشكلة الآن وربما كانت الفكرة التي طرحت لدعوة مجمع البحوث الإسلامية للاجتماع لمناقشة الموضوع وصياغة موقف أكثر صواباً وتوازناً, تمثل مخرجاً مناسباً, ولست متأكداً من إمكانية عقد ذلك الاجتماع, الذي يبدو أن ثمة عقبات تحول دونه, خصوصاً أن شيخ الأزهر رفض فكرة إصدار بيان توضيحي لتصريحاته.
ولكن إلى أن يتحقق المراد ويأذن الله بفرج من عنده, فإن الجميع مدعوون لأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء كي يغفر للإمام الأكبر كبوته.