تنظيم الهيئة: هل سُمّي الإلغاء بغير اسمه؟
مقالٌ غاية القوة، صالت فيه الكاتبة -سلمها الله- وجالت، صادعةً بالحق، ضاربةً بكلماتها فوق عنق الباطل، نافذةً بأسهم عباراتها في صدور أهله، مهاجمةً قرار تقييد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأغلال، فاضحةً قبح من يدعمه، مظهرةً بحججٍ بينةٍ فضل وقيمة الهيئة كجناحٍ حلق به هذا البلد، منذرةً بعاقبةٍ وخيمةٍ لكسره، إذ رضي أعدائنا عن ذلك.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
بين محادثاتٍ عدّةٍ خضتها الأيام الفائتة مع بعض الصديقات حول قرار تنظيم الهيئة، وبِضعِ رسائل وصلتني، استوقفتني رسالةٌ واحدةٌ، وآلمتني أيّما إيلام!
تقول كاتبتها: "أنا طالبةٌ بالمستوى الرابع بجامعة كذا…، على علاقةٍ بشابٍ منذ عامٍ، ثم قررنا أن نلتقي، ومن بداية الفصل الدراسيّ ونحن نتحيّنُ الفرص ليحضر لأخذي صباحًا قبل دخولي بوابةَ الكلية، ثم يعيدني ظهرًا، وكان كلما حدد موعدًا تردّدت، واعتذرت خوفًا من رجال الهيئة أن يرتابوا بأمرنا عند البوابة، فيوقفونا، أو يقبضوا علينا في أحد الشوارع أو المجمّعات".
تقول: "بعد قرار ما سُمّي (تنظيم الهيئة) وصلتني هذه الرسالة: "خلّينا نطلع الأحد، ولا تقولين هيئة ما هيئة"! فشعرت بضيقٍ دهم قلبي فجأةً، ومع أني كنت من المهاجمين للهيئة دومًا، فقد حزنت حين تذكرت أن أولئك الرجال بهيبتهم وصلاحياتهم هم فقط من كان يحول بيني وبين الخروج طيلة هذا الوقت، بل ويحولون بين أمثالي -ممن لا يردعهم دينهم- وبين ما يسعَون إلى مقارفته من منكرٍ وإيذاءٍ لأنفسهم والآخرين".
سألتها: "برأيك ما إيجابيات القرار؟" أجابت: "والله إنّ من سعى في هذا الأمر، ما فعل خيرًا بنا ولا ببلادنا".
عرضت رسالتها لأنها استحلفتني أن أنشرها، وإلا فجهود الهيئة في محاصرة المنكر لا تحتاج إلى دليل، وهذه البلاد بمواطنيها وملايين المقيمين فيها وإن كان الخير والصلاح غالبَيْن عليهم، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة وجود انحرافاتٍ أوجب الله على ولاة الأمر ردعها ومنع أسبابها.
وما يغيب عن كثيرين أنّ سـرّ قوة الهيئة لا يكمن فيما نعرفه من إنجازاتها الظاهرة فحسب، بل في الهيبة التي ألقاها الله لرجالها في رَوع أهل الأهواء والشهوات، فما منعته هيبتهم من جرائمٍ وانتهاكاتٍ أضعاف أضعاف ما منعته أفعالهم.
وهنا مكمن الخطر في قرار (التنظيم) الكارثيّ الذي جرّد رجل الهيئة من صلاحياته لتسقط هيبته! إن هذا القرار لغرابته وسرعة صدوره يتحدى المنطق والعقل، إذ كيف يمكن أن تكسر الدولة في غمضة عينٍ جناحها في الضبط العقديّ والأخلاقيّ الذي حلّقت به منذ تأسيسها، بل كيف تلغي من غير تروٍّ وتمحيصٍ سـرّ تفردّها واختلافها عن غيرها؟
وكيف أمكن اتخاذ هذا القرار في هذه اللحظة التاريخية التي تخوض فيها المملكة حربًا مفصليةً في اليمن، وتتعرض لتهديداتٍ وتحدياتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ تحتّم عليها تعزيز الجبهة الداخلية والنأي عن ما يستفز المجتمع ويثير قلقه ومخاوفه.
وليس من الحكمة ولا مصلحة البلد واستقراره أن تَحمل ملفات مئات الآلاف من الحوادث والقضايا الإضافية لتلقيها دفعةً واحدةً على كاهل رجال الأمن في الشرطة والمكافحة، فيما تعطّل من كان يتصدر لها من موظفي الدولة في الهيئة!
كيف يستقيم أن تأمر رجل الشرطة أن يترك ما تحت يده من جرائم التخريب والقتل والاعتداء والسرقات لينشغل بمتابعة المتحرش والمُشعوذ؟ أو تأمر رجل المكافحة أن يؤجل ملاحقة أطنان المخدرات التي تغزو بلادنا ليهتم بملاحقة الابتزاز وحفلات المجون والشذوذ؟!
فنكون بذلك قد أرهقنا رجال الأمن وشتتنا طاقتهم، وأضعفنا فاعليتهم وكفاءتهم في القيام بمهامهم الأساسية حين أسندنا إليهم غيرها، وقد يعجزون عن تغطية ما كانت تقوم به الهيئة من عملٍ، وهنا نكون قد تركنا مكانها خاليًا!
من غرائب "التنظيم" الجديد إلغاء مادة (11) من التنظيم السابق، المتعلقة بوجود رجال الشرطة مع رجال الحسبة في الميدان, والسؤال: كيف تمنع الشرطيّ من مرافقة المحتسب ثم تأمر ذلك المحتسب بالرجوع للشرطيّ عند كل بلاغٍ ومع كل ضبط؟! والنتيجة: تعقيدٌ وفوضى وتأخيرٌ عند التعاطي مع المخالفات.
والأغرب من ذلك أن دور رجل الهيئة وفق (التنظيم) يقتصر على النصح وكتابة البلاغات عن المخالفين والمجرمين، ولكن إن كان لا يحق له أن يتابع أو يتحرّى أو يتثبت أو حتى يسأل عن أي معلوماتٍ، فكيف بالله عليكم سيبلِّغ؟ وكيف سيؤخذ بلاغٌ كهذا على محمل الجدّ؟
وباختصار؛ التنظيم الجديد يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: إن رأيت أمام عينيك من يتحرش أو يسكر أو يزني فقل له: "لا تفعل ذلك هداك الله"، ثم اتركه وانطلق إلى المركز لتسجل في مذكراتك الرسمية بلاغًا للمكافحة أو الشرطة ثم انتظر!
فكيف بعد هذا كله يُلام من يقول أن هذا القرار هو الضربة الأولى والأقوى لتفكيك الجهاز وإضعافه، ثم إلغائه؟!
المتابع الدقيق المنصف يُدرك أن رجال الهيئة يتعرضون منذ عشرين عامًا لأقذر مؤامرةٍ وأشرس حربٍ إعلاميةٍ منظمةٍ, ظلمٌ عظيمٌ تحت سمع وبصر الجميع! وأدعياء الليبرالية أصغرُ وأحقرُ من أن يكون لهم إرادةٌ وقيمةٌ، إنما كانوا مجرد عبيدٍ لأهوائهم وشهواتهم, ومطايا وأدواتٍ لعدوٍ خارجيٍّ، وظّفهم لتشويه سمعة المحتسبين، وتأجيج الرأي العام، وإيغار صدر المسؤول والمواطن على رجل الهيئة، وذلك بالترصد والتربص وتلفيق التهم وافتراء الكذب وتضخيم الأخطاء.
فكثيرٌ من القضايا التي تم تصعيدها عبر الصحف والفضائيات لا يعلم كثيرٌ من الناس أنها انتهت لدى الأمارة أو المحاكم بإثبات براءة الهيئة! بل حتى الأخطاء الفعلية التي وقع فيها بعض رجال الهيئة ما كانت تقتضي أكثر من معاقبة الأفراد أنفسهم، لا شنّ الهجمات المتتالية على كامل عمل الجهاز!
علمًا بوجود أخطاء وتجاوزاتٍ خطيرةٍ قد تحدث من بعض موظفي الدولة في كل القطاعات، بل هناك قضايا مرفوعةٌ من مواطنين وجهاتٍ ضد أطباءٍ ومعلمين ورجال شرطةٍ ومرورٍ وغيرهم، لم نجد من يهاجم أو يشوّه أو يجرّم القطاع الصحيّ أو العسكريّ، بل لماذا لم نسمع أصلًا عن تلك الأحداث والقضايا؟! الجواب ببساطة: أنّ رؤوس الإفساد لم يكن تعاطيهم الإعلاميّ أمينّا عادلًا ولا نزيهًا بريئًا مع الحقائق وقضايا الوطن، بل كالعادة يتم طمس بعض الحقائق، وتدليس البعض، وتوظيف البعض الآخر لخدمة أهدافٍ ومصالحٍ دنيئة!
بماذا نفسر تسليط أضواء الإعلام وتخصيص صفحاتٍ كاملةٍ وبرامجٍ لأسابيع متواصلةٍ لحادثة فتاة النخيل التي أساء موظف هيئةٍ واحدٍ التعامل معها، ثم لا نجد أدنى اهتمامٍ بنشر آلاف القصص لفتياتٍ ساعدتهنّ الهيئة وأنقذتهنّ من براثن مبتزٍّ أو متحرشٍّ أو مُشعوذٍ؟
لماذا لا ينشر إعلامنا قطّ ما تحققه الهيئة من إنجازاتٍ وجهودٍ مباركةٍ في مجابهة السحر والشركيات والخمور والفساد وكل ما يخالف الشرع؟ أم أن مصالحَنا وسلامتَنا لا تسرّهم بل لا تعنيهم أصلًا؟
لماذا لا نجد أيّ خبرٍ أو تقريرٍ أو مقالةٍ تتناول التطوير الذي تسعى له الهيئة وما تفرضه مؤخرًا على منتسبيها من دوراتٍ تأهيليةٍ وتدريبيةٍ في الكليات الأمنية وجهات التدريب المختلفة؟ لماذا ضجّ الإعلام وولول وناح لمتبرجةٍ نهرها محتسبٌ، بينما لم يتعاطف مع العشرات من رجال الهيئة الذين تعرضوا لصنوف الاعتداءات من المجرمين ما بين إطلاق رصاصٍ وطعنٍ وضربٍ؟ وكيف يتعاطفون معهم وهم من حرّض ضدهم واستعدى السفهاء عليهم حين وصفهم بالدواعش والعصابات المسلحة؟!
وأنا هنا كمواطنةٍ أحمّل أولي الأمر -من علماءٍ وأصحاب قرارٍ- المسؤولية أمام الله عن هذا (التنظيم) وتبعاته، وأضمّ صوتي لصوت المطالبين بمراجعته والتراجع عنه.
وأذكّر كل محبٍّ مخلصٍ لهذا الوطن بواجبه وأمانته في السعي بكافة الوسائل السلمية المشروعة والمتاحة للمطالبة بتصحيح هذا القرار، فحماية العقيدة والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم وظائف الدولة وثوابتها وواجباتها، وعلى ذلك نصّ نظام الحكم.
ولتُؤدَّى الأمانة وتبرأ الذمة أوكل ولاة الأمر مهام تلك الشعيرة لرجال الحسبة, تلك المهام الجليلة التي لا تتأتى بمجرد الوعظ والإرشاد، بل تحتاج للإلزام والأطر على الخير والصالح العام, وتغيير المنكر ومنعه, فكيف يتحقق ذلك في ظلّ تقييد رجال الهيئة وانتزاع صلاحيتهم في الضبط والمتابعة والإيقاف! ونخشى شُؤم تضييع مثل هذا الواجب العظيم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: « » [مجموع الفتاوى لابن تيمية] (14/479) ، وبأدائه تُحفظ الأعراض وتُصان الحرمات، فيكون الأمن والتمكين بحول الله.
ولا أنسى أن أهيب برجال الهيئة أن يسارعوا إلى توكيل مجموعةٍ من المحامين والقانونيين، ليتولّوا مهمة تقصي وجمع كل ما كُتب عبر الإعلام ضدهم كموظفي دولةٍ، من تحريضٍ وافتراءاتٍ وإساءةٍ، ثم مقاضاة من كان وراءها.
من الغرائب والطرائف على هامش القرار:
*احتفاء إيران والغرب بـ(التنظيم الجديد)، وكل من لاحظ ذلك سيدرك حتمًا حجم خطورة القرار وكارثيته، فآخر ما يمكن أن يصدّقه عاقلٌ أن هؤلاء يريدون لنا الخير!
*تكرار عبارة: "ليس برجلٍ من يظن أنه لا يحمي عِرضه إلا الهيئة"! والأصل أن أعراض أهل العفاف غالبًا في مأمنٍ بإذن الله، ولكن هذا لا يعني إنكار وجود المخاطر ووجود غير الأسوياء، والطريف أن بعض من رددها يجعجع حول الرجولة والمسؤولية وحماية أسرته وهو مستلقٍ على ظهره في إحدى الاستراحات لا يعرف عن حال تلك الأسرة شيئاً!
*مؤلمٌ أن تكون بضائع الأسواق وشجر البراري وغزلان المحميات أغلى وأهم من عقائد الناس وأخلاقهم وأعراضهم! فحراس الأمن ومراقبي المحميات يستخدمون صلاحياتهم في إيقاف المخالفين وردعهم، بينما نجرّد الأخيار المخلصين الأكفاء في الحسبة من صلاحياتهم!
*بعد صدور (التنظيم) وموجة الاعتراض عليه من قِبل العامة، كتب بعض أدعياء (الحرية وحق التعبير) يهاجمون منتقدي القرار ويطالبون بتكميم أفواههم, ونقول لهم: يا أدعياء الحرية لسنا عبيدًا فتتكلمون ونخرس، وتجاهرون بباطلكم فنستحي من الحق ونضعف!
حمى الله بلادنا من كل شرٍّ، وسدّد ولاة أمرنا للخير.
ريم آل عاطف