النووي.. والعمر الانتاجي
عمر بن عبد الله المقبل
فلنحاذر أن نعيش على هامش الحياة، ونموت دون أن يكون لنا أثر.
- التصنيفات: قضايا الشباب - تربية النفس - الحث على الطاعات -
شخصان كلاهما عاش أربعين عامًا في هذه الحياة، الأول كان الهدف عنده واضحًا من البدايات، وأدرك أنه لن يعيش مرتين، فاستثمر وقته في أعمال تلتقي مع أهدافه، وتتواءم مع ميوله وميدانه الذي يحسن الجري فيه، وأما الآخر -الذي عاش نفس العمر- فهو شخص عاش عمره الافتراضي، فولد عاديًا وعاش عاديًا ومات عاديًا! مع رجاء الخير لكل من مات على التوحيد، مهما بلغ تقصيره، إن سلم من حقوق العباد.
هذا المعنى الجليل تناوله علماء الشريعة عند بحثهم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم -المخرّج في الصحيحين- : « » (صحيح البخاري: [5986]، صحيح مسلم: [2557])، حيث تحدثوا عن صفة النسأ في الأثر -أي تأخير الأجل-، ومن التوجيهات المشهورة الراجحة في معناه، ما قاله النووي في شرحه على مسلم: "أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك" (شرح النووي على صحيح مسلم: [16/ 114]).
وكأن النووي -رحمه الله- يبين لنا في اختياره هذا أهم المعالم التي قادته للنجاح في حياته.. فالنووي نموذج حاضر، وشخصية ممتازة لتكون شاهدًا على تحقيق أفضل الدرجات في العمر الإنتاجي الذي دلّت عليه هذه البشارة النبوية، فإنه لم يعش سوى خمسةٍ وأربعين عامًا، وملأ الدنيا علمًا، وصارت مصنفاته محلّ عناية العلماء من كافة المذاهب، فما السبب يا ترى؟ إن لذلك أسبابًا كثيرة، لعل من أبرزها: الصدق مع الله، وإخلاص العمل، ثم غيرته على وقته، التي ظهرت آثارها بشكل جليّ في سنيّ التحصيل -اثنا عشر درسًا في اليوم- ثم الانكباب على التصنيف بعد اكتمال الآلة.
كم نحن لدراسة أمثال هذه الشخصيات المتميزة، المؤثرة في عطائها! وهي في نظري من أهم المحفّزات التي تدفع لاغتنام ساعات العمر، والبحث عن موطئ قدمٍ في هذه الأمّة، التي باتت اليوم أحوج ما تكون لكل طاقة شابة من طاقات أبنائها.
نسمع في مقتبل الإجازات أحاديث عن اغتنام الوقت، وتتنوع أمامنا المقترحات، والوسائلُ التي يُعْمَرُ بها الوقت، ولكن قليلٌ من يكون جادًا في ذلك، وتمضي عليه الأيام والأسابيع والأشهر دون إنتاج يُذْكَر، فما السبب؟ لعل من أهم الأسباب: عدمُ وضوح الهدف، وقلةُ الغيرة على الوقت -الذي هو أغلى من المال عند العقلاء- والتخبطُ في تحديد الأولويات، والانهماك في وسائل التقنية -ومنها وسائل التواصل-، وغيرها من الأسباب التي تحدث عنها الكثيرون ممن كتب في إدارة الوقت.
والمقامُ ليس مقامَ تفصيل لهذه المشكلة، ولستُ بصدد طرح مشاريع عملية لذلك، فقد كَتبَ في هذين الموضوعين كثيرون -كما أسلفت-، وإنما هي لفتةٌ من محب لأمته، ولأفرادها -خاصة الشباب- أن يعيد كل واحد منهم النظر في هذا الموضوع المفصلي في حياته.. لينظر إلى الوراء، وليتأمل: متى ولد؟ وماذا أنجز؟
ومما يحسن التنبيه عليه، أننا حين نتحدث عن هذا الموضوع، فإننا لا نعني بالضرور الانشغال بالعلم الشرعي فحسب -ولا شك أنه أشرف ما اشتغل به الإنسان- كلا.. إذْ لا يعقل أن تُوجّه الأمة كلها لذلك، فهذا مصادم للسنن، والأمة محتاجة إلى طاقات كثيرة في كل ميدان نافع من ميادين نفع الخلقِ في دينهم ودنياهم، وإنما المقصود التنبيه على تلك القاعدة النبوية العظيمة التي قالها من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم: «صحيح البخاري: [4949]، صحيح مسلم: [2647])، وقول الله أبلغ: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة من الآية:60]، وكذلك قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد من الآية:17].
» (والمهم أن يعزم الإنسان على نفع أمته فيما يُحْسنه، ثم ينطلق مستعينًا بالله، مستنيرًا بآراء أهل الخبرة والمشورة؛ ليضع له بصمةً في تاريخ أمته، ولْيتذكر أن هذه الأمة ولود، فالأمة التي أنجبت الأئمة الأربعة، وأكابر المجددين في القرون الماضية، كالنووي، وابن تيمية، وابن حجر، وابن عبدالوهاب، والشوكاني، هي التي أنجبت في هذا العصر المعلّمي اليماني، وأحمد شاكر، وابن باز، والألباني، وابن عثيمين، وعبدالرحمن السميط، وغيرهم كثير -رحمة الله عليهم أجمعين- ممن سطّروا أسماءهم بأحرف من نور، وصار لهم أثرٌ مبارك في هذه الأمة.
إنني أنا وأنت وأولئك نشترك في قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل من الآية:78]، فلنحاذر أن نعيش على هامش الحياة، ونموت دون أن يكون لنا أثر.