ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!
محمد علي يوسف
فقط هناك شرطان ينبغي أن يتحققا فيمن تشملهم تلك المغفرة الواسعة:
الإيمان بالله
ثم سلامة الصدر وترك الشحناء والبغضاء والحقد والغل والكراهية
- التصنيفات: التقوى وحب الله -
حين سمع الصديق أبو بكررضي الله عنه هذا السؤال القرآني كانت إجابته المباشرة: "بلى واللّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا". وبالفعل ترجم الصديق تلك الإجابة عمليًا وعفا عن مسطح.
رجل أنفق عليه الصديق أعواماً وقيل أنه قد تربى في حجره يتيماً ثم يكون المقابل أن يخوض في عرض ابنته وزوجة نبيه مع من خاضوا في الإفك المبين ومع ذلك يتناسى الصديق كل هذا ليعود إلى عطائه والإغداق على مسطح من جديد
ويعفو..
أمر مذهل يقف المرء أمامه طويلاً مشدوهًا متأملاً
كيف فعلها؟!
كيف استطاع تحملها وحمل نفسه عليها وإنها لكبيرة إلا على من وفقه الله لاحتمالها؟!
كيف قابل هذه الإساءة البشعة بإحسان فضلا عن صفح وغفران؟!
أمر مذهل حقاً، لكنه على إدهاشه وروعته لا يفترض أن يكون خاصًا بسيدنا أبي بكر، بل ربما لا أكون مبالغاً لو قلت بيقين جازم أنني لا أتصور مسلمًا صحيح الإسلام تام الأهلية يعي معنى هذا السؤال ثم يملك أن يجيب بإجابة غير تلك التي أجاب بها الصديق رضي الله عنه، وهل يتصور أحد أن تكون إجابة مسلم عن هذا السؤال: نعم يا رب لا نحب أن تغفر لنا؟!
هل يتخيل مخلوق أن يجرؤ مؤمن بالله واليوم الآخر على رفض المغفرة؟!
أعتقد مستحيل
كل مسلم سيجيب بلى يا رب نحب أن تغفر لنا لكن ليس أي مسلم من سيستجيب للشرط ويعفو ويصفح
هذا اليوم الذي نحن فيه وليلته له علاقة وثيقة بهذا المعنى
معنى المغفرة المرتبط بالصفح والعفو وسلامة الصدر
حديث من أعجب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي رواه سيدنا معاذ بن جبل وأيضًا روي عن كثير بن مرة الحضرمي وفي رواية ثالثة سيدنا أبو موسى الأشعري والروايات صححها الألباني في تخريج كتب السنة وفي صحيح الترغيب ولفظها: « »
في رواية أبي ثعلبة الخشني بإسناد حسنه الألباني يقول الحبيب النبي: « ».
موطن العجب في ذلك الحديث برواياته هو تلك المغفرة الشاملة التي تتبدى في هذه الكلمات الجامعة:
« » و« ».
تأمل الشمول والعموم الذي يجعل المرء في حالة من الذهول أمام تلك المغفرة الواسعة ممن قال عن نفسه «
».يزيد تلك الدهشة أن هذه المغفرة على عمومها لم يُذكر عمل معين مرتبط بها بل جعلها الله كهديه وعطية في هذه الليلة الكريمة من ذلك الشهر الذي قال عنه النبي: «
».فقط هناك شرطان ينبغي أن يتحققا فيمن تشملهم تلك المغفرة الواسعة:
الإيمان بالله
ثم سلامة الصدر وترك الشحناء والبغضاء والحقد والغل والكراهية
إذاً فهي مغفرة شاملة أيضا لكن الاستثناء لصنفين
أهل الشرك والكفر وهذا مفروغ منه متحقق بقول الله: « »
ثم أهل الحقد والشحناء والتدابر والتباغض.
قال ابن الأثير: "هو المعادي والشحناء العداوة والتشاحن تفاعل منه". وقال المناوي في فيض القدير: "لعل المراد البغضاء التي بين المؤمنين من قبل نفوسهم الأمارة بالسوء". وقال ملا القاري في مرقاة المفاتيح: "مشاحن أي مباغض ومعاد لأحد لا لأجل الدين". وقال الأوزاعي: "أراد بالمشاحن هاهنا صاحب البدعة".
وبهذا يتبين أن الشحناء التي تحول بين العبد وبين مغفرة الذنوب في تلك اليلة ليست هي العداوة والبغضاء التي تكون لأجل الله تعالى كبغض أهل المعاصي المصرين عليها أو المجاهرين بها فهذه لا تدخل في الحديث بل هي دين يتدين المرء به وتدخل ضمن البراء بدرجاته ولقد صح عن الحبيب صلى الله عليه وسلم قوله: « ».
أما الشحناء المقصودة فهي التي لأجل حظوظ النفس وشهواتها، والتي تحدث على أساس بغيض من الحقد والكراهية السوداء، ويالها من مشاعر قاسية، وبخلاف كونها تحرم المرء من هذه الفرصة السنوية للمغفرة المجانية فإن صدر الحاقد دائما ما يكون ضيقاً حرجًا مليئًا بالحزن يمزقه اللهاث المسعور ويسيل لعاب طمعه على ما فُضل به غيره، وهو لا يرتاح أبداً لأنه يرى أن الكل لا يستحقون ما هم فيه بينما هو وحده من يستحق.
ولو أنه انشغل بأداء ما عليه واجتهد ثم ترك النتائج لمن يخفض ويرفع ومن بيده الضر والنفع لارتاح وأراح
أما لو ظل يمد عينيه إلى ما تمتع به غيره من عرض الدنيا الزائل فإنه سيظل في ذلك العذاب طويلاً إلا لو جرب يومًا أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو بالمناسبة شعور أجمل بكثير من الحقد والكراهية والشحناء.
وبدلاً من سيطرة تلك المشاعر على نفسه لدرجة تجعله يبغض ذلك المحقود عليه فإن عليه أن ينشغل بما ينفعه ويصلح حاله لعله يرزق نقاء السريرة وسلامة الصدر التى لا يعادلها شيء والتي هى من أعظم وأجل النعم وهي معيار الأفضلية كما صح أيضاً عن الحبيب صلى الله عليه وسلم حين سألوه: "أيُّ الناسِ أفضلُ؟"، فأجاب: «
»، قالوا: "صدوقُ اللسانِ نعرفُهُ، فما مخمومُ القلبِ؟" قال: « ».أما أكثر ما يطهر القلب من الحسد وينقي النفس من شوائب الحقد والكراهية الخير للغير هو إدراك الإنسان لمعنى القاعدة القرآنية الجامعة {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
فإن أدرك العبد أن ربه وحده هو من يخفض ويرفع ويعطي ويمنع وأن مطالبه مهما كانت بعيدة وصعبة المنال فلا يأتي بها إلا هو فعلى ماذا يحسد ولماذا يحقد؟!
حينئذ -وحينئذ فقط- يكون الامر مستويًا عنده وتهون الدنيا في نظره ولا يعدل بسلامة صدره شيئاً، اجعل عبارة {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} مبدأ حياتك ثم أتبعها بالبذل والعمل والأخذ بالأسباب دون النظر لما في أيدي الناس وصدقني ستنعم ويسلم صدرك من أسقام الحقد وأدران الغل وأوجاع الحسد ويستبدل كل ذلك بالطمأنينة والرضا وحب الخير للغير
ولتأت عليك ليلة النصف من شعبان وأنت مؤمن سليم الصدر وحينئذ أبشر بتلك المغفرة الشاملة التي لم تكن بفضل ربك من أولئك المحرومين منها، بشرط أن تراجع قلبك وتطهره من الشحناء والتدابر، فلتعف اليوم ولتغفر وتصفح ولتفعل كل ذلك امتثالا لقول ربك {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ} [النور:22].
ولتجبه: بلى يا رب نحب أن تغفر لنا.