( عمـل المبضع في بدنـي، أهون علي من أنْ أرى فلسطين بُتـرتْ من دولة
الخـلافة، وإنّكم لو دفعتم مـلء الدنيا ذهبـا فلن أقبل، إنّ أرض
فلسطين ليست ملكي، إنمّـا هي ملك الأمة الإسلامية، و ما حصل عليه
المسلمون بدمائهـم لا يمكن أن يباع، و ربما إذا تفتـّت إمبراطوريتـي
يومـا، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل) السلطان عبد الحميد بن
عبد المجيـد، السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الخلافة العثمانية،
أمام هرتـزل والحاخات اليهود بعد أن أغروه بالمال ليعطيهم
فلسطين.
لله درُّ الأتـراك، وما عـزَّوا بـه هذا الديـن، فما زال الله تعالى
يستعملهـم في عـزّ أمة الإسلام، حتـى يومـنا هـذا،
اليوم تتجه قافلة الحرية إلى غزة لفك الحصار عنها، ولعمري، هذه
هي الحريـة، وليست حرية
الاختلاط، والدعارة، واللخانـة التي يدعو
إليها صبيان السفارات الأمريكية في بلادنـا، فأين حريتهم التي يزعمـون
من قافلة الحرية ؟! وما بالهـم صامـتون ؟! أعليهـم شعار الخزي، أم
شنـار المهانـة، والعار ؟!
ولكـن .. دعونـا الآن من هذه الشرذمة التي حـقّ لها أن توصـف بما وصف
الله تعالى {يفسدون في الأرض ولا
يصلـحون}، وتعالوا لنعطـر المقام بمآثر الترك عندما كانوا
خلفاء الإسلام،
ولعـلّ من عجائـب التاريـخ، وما لا يعرفه أكثـر الناس، أنَّ أول
عملية استشهادية بالتفجيـر في الإسلام، قـد نال شرفـَها قائـدٌ عسكري
تركـي من عظماء
الجهاد الإسلامي، يوما ما فـي ذلك المكـان، هنـاك حـول
جزيرة قبرص التي تنطـلق منها اليـوم قافـلة الحريـّة الذي تتجـّه إلى
غـزّة.
وتعالوا بنـا لنرجع بمخيّلـتنا إلى مشهد من تاريخنـا المجيـد فـي
ظـلّ الخلافـة العثمانيـة، فنحـن الآن كأنـّنا نشاهـد معركة بحرية في
البحر المتوسـط يخوضها الأسطـول الإسلامي :
( قتـل والي البندقية في كورفو " أندريه لورينادو " الأسرى
العثمانيين ومثَّـل بجثثهم، فقاد السلطان (أبا يزيد الثاني) حملة
همايونية ضد البندقية واليونان سنة 905 هـ، 1399م، وحاصرت البحرية
العثمانية جزيرة قبرص، وأسـرت والي كورفو، أندريه لورينادو، وقاصصته
على ما فعل بالأسرى العثمانيين.
وفي نفس
الوقت اصطدم قسمٌ من الأسطول العثماني بقيادة كمال رئيس،
بالأسطول البندقي بقيادة الأميرال أنطونيو كريمالدي، وذلك على مسافة
قريبة من جزيرة سابينيزا إلى الغرب من رأس مـورا الجنوبي الغربي،
واشتركت في المعركة 400 سفينة من الطرفين، ولما أحاطت سفن البندقية
بسفينة قائـد جناح الميمنة ( بُراق رئيس ) وحاولت أَسْرَه فجَّــر
مُستودع البارود الذي كان في سفينته، فاستشهد هـو، ومـن معـه فـي
السفينة، ولكنه دمَّـر وأغرق القسم الأكبر من سفن أسطول البندقية
المحيطة بسفينته، وقُتـل الأدميـرالان البندقيـّان : أرمينيو ؛
ولوريدانو، وتشتـَّت الأسطول البندقـي فغـرق مـن غرق، وهرب مَن نَجـا
في 28 / 7 / 1499م، وأطلق الأتـراك على جزيرة سبينيـزا اسم : جزيرة
براق رئيس، وحاصر العثمانيون لابانتو مدة شهر ونيّف، ثم فتحوها فـي
30/8/1499م، فالتف البنادقة علـى جزيرة كفالونيـا، وحاولوا أخذ "
بريفيزا " لكن الأسطول العثماني لاحقهم وشتتهم، وقاد السلطان (أبا
يزيـد الثانـي) حملة من أدرنة في نيسان سنة 906هـ / 1500م، وجاء مع
الأسطول العثمانـي إلـى قلعة مودون البندقية في جنوب يالْمـورا
فاستسلمت قلاع " نافارين، وفنـار، وميلونا، ومودون، وكورون "، وبذلك
تَمّت تصفية قواعد البندقية في المـورا، فأرسلت فرنسا لنجدة البندقية
حملةً بحرية بقيادة الأدميرال ريفنستين تضم عشرة آلاف بحـار، فحاصروا
قلعة ميدللي مدة نصف سنة 1501م، ثم هرب الأسطول الفرنسي عندما هاجمه
الأسطول العثماني، وغرقت السفن الفرنسية قرب جزيرة ( جيرغيو: جوها )
الواقعة جنوب غرب المورا، ونجا من الفرنسيين الهاربيـن عدد محدود
للغاية، ثم أخذ العثمانيون قلعـــة ( دراج: دراتش )، آخر قلعة
للبنادقة في ألبانيا، وذلكفي 13-8- 1502م) ..
وكانت هذه الحملة العثمانية على دولٍ صليبية أوربيـّة، بعد حملة
سبقتها في محاولة لإغاثة مسلمي
الأندلس وتخفيف الضغط عليهم من
الصليبين، وفي هذا المشهد التاريخي المليء بالأحزان، أعني سقوط
الأندلس، يروي لنا التاريخ، الأبيات التي ألقاها الشاعر أبو البقاء
أمـام السلطان العثمانـي المجاهد بايزيـد بن محمد الفاتــح رحمهما
الله، إذْ قـال فيهــا :
سلام عليكم من عبيد أصابهم *** مصاب عظيم يالها من مصيبة
ثم وصف الحصار الذي يعانون فيه الجوع، والبـؤس :
وشدَّوا علينا الحصار بقوّةٍ ***
شهورا وأياما بجـدّ وعزمة
فلما تفانت خيلنا ورجالنا *** ولم نر من إخواننا من إغاثة
وقلت لنا الأقوات واشتـدَّ حالنا
..
ويقول فيها أيضـا :
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ***
إليه لجادت بالدمـوع الغزيـرة
فياولينا يا بؤس ما قد أصابنا *** من الضرّ والبــلوى وثوب
المذلـّة
إلى آخر الأبـيات .. مـمّا يذكرنا بحـال غـزة اليوم !
غير أنـّه وبسبـب بُعد المسافة بين عاصمة الخلافة الإسلامية في
إسطانبول، والأندلس، وكون الطريق الطويـل مليئـاً بالدول الصليبية
المعاديـة، سقطت غرناطة قبل أن تستطيع الجيوش الإسلامية إغاثة
المسلمين، لكن نجحت دولة الخلافة في تسييـر أسطـولا بحريـا لمساعدة
مئات الآلاف من مسلمي الأندلس من النجاة من وحشية الصليبيين التي
لاتوصـف .
وها هـو التاريـخ يُعـاد، فيحاصر ساسةُ الغرب متحالفين مع
الصهاينة مسلمي غـزة، فيتداعي التـرك الأمـاجـد إلى نجـدتهم، بإطـلاق
أسطول الحريـة من إسطنبـول، لإغاثة أهـل غـزة .
ومعلوم أنـّه لولا تبنـّي الأتـراك لهذا المشروع لفك حصار غزة،
وتحريكهم الشرفاء من المسلمين، وغير المسلمين، ودعمهـم لخـط المقاومة
في غـزّة، لما تحقق هذا الإنجاز الاستراتيجي في فكّ الحصار
عنهـا.
ومن عجائب ما يتكـرّر من مشاهد التاريخ، أنّ الأسطول العثماني الذي
إتجـه إلى الأندلس فتأخـّر بسبب كثرة الاشتباكـات مع أساطيل الدول
الصليبية في البحر المتوسـط، اضطـر أن يدخل في مواجهة أيضا مع الدولة
الحفصيـّة في شمال أفريقيـا التي كانت في تحالف مع الأسبـان ضد
إخوانهم مسلمي الأندلس !
وها نحـن نرى كيف أنّ النظام المصري يتحالف مع الصهاينة ضد غـزّة،
ويشـدّد الحصـار عليهـا، بينما يهـبُّ الأتـراك لنجدة إخوانهم من أهـل
غـزّة وفكّ الحصـار عنهـم !
هذا .. وفـي قافلة الحريـة المتجّهـة إلى غـزَّة سبـع عبــر
أخـرى :
فأولـها : ليتأمـّل العاقـل هشاشة الكيان الصهيوني، وعجـزه،
وسهولة هزيمته أمام العزائـم الصادقـة، فهاهو يقف حائـراً أمام قافـلة
الحريـة، لا هـو قادر على دفعهـا، ولا السماح بهـا، ولكنها مع ذلك
ستكسر الحصار رغم أنف الصهاينـة .
الثانية : أنّ هذا العجز الصهيوني يدل أنَّ سبب بقـاء كيانه، هو
الخيانـات الداخلية في صفوف الأمـة من منافقيـها فحسب، وليس قوته
الذاتية، ولا يرتاب أحـد أنه لو فتح معبـر رفح لوحده، وسُمح لأمتنـا
العظيـمة، بأن تدعم صمود أهل غزة، لكان في ذلك بدء العد التنازلي
لنهاية الصهاينة .
الثالث : إنطلاق القافلة من الناشطين الحقوقيين، وغيرهـم، في ظـلّ
صمت الدول الغربية، يفضح السياسة الغربية المتواطئة مع الصهاينة في
حصارهم الظالم لمليون ونصف إنسان، يعانون أشـد المعانـاة، ويسقط كل
شعاراتهم التي ينافقون فيها عن حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية
..إلخ
الرابع : يفضـح أيضا الأنظمـة العربيـّة المتخاذلة بل المتواطئة
مع أعداء الأمة ضد شعوبـها .
الخامـس : كم في هذه الأمـّة الإسلاميـّة من خيـر عظيم، وأنها لو
خُلـِّي بينها وبين إطـلاق طاقتهـا، لما وقف في وجهـها شيء حتى تتفوق
قياديا على كـلّ العالم، فتقوده إلى الخير، والرحمـة، والرشد .
السادس : صمود أهل غزة، وصبـرهم، وإصرارهم على التمسك بخيار
المقاومة، جاء بالفـرج، وجلب إليهم تعاطف شرفاء العالم، وسخر الله لهم
بـه حتى غير المسلمين،
بينما لو تخلـوا عن المقاومة، ورضوا بما رضيت به فتح لنفسها من
الذل والمهانة، لكان حالهـم حال سلطة عباس المتصهينة الخائنة، وهي
أسوء حال إلى أقبـح مآل .
السـابـع : الواجب على كـلّ منابر النهضـة الإسلامية في البلاد
العربية خاصـّة، والإسلاميـّة عامّـة، بما يدخـل تحت هذه المصطلح
العـام من حركات الإصلاح، ومؤسسات
الدعوة، والعمل الخيري، و غيرها، أن
تلتـفت بقـوّة إلى الظاهـرة المثيرة للدهشـة المتفائلـة وهـي الرجـوع
الكبيـر إلـى الإسلام في تركيـا، وأنْ تمـدّ إليها جسـور التواصل،
لتعـود تركيا إلى الدور الإستراتيجـي الذي ينتظـرها هنـا، لتعيـد
التوازن الذي فقـد بسبب إستفراد الغطرسة الأمريكية، ثم تضعـف كـلّ من
التأثيـر الصهيوغربي والصفوي، ثـم تحـقّق - مع سائـر الحـالة
الإسلامية الجهادية والنهضـة الإصـلاحية الدعـوية على الرقعة
الجغرافية من أندونيسيا إلى موريتانيا - تحولاً إستراتيجيـاً لصالح
حضـارة الإسـلام، يحـول بين التحالف الصهيوغربي واستمراره في إنتهـاك
حقوق أمّتـنا على شتـى الأصعـدة .
وإنه لواضح من الحكمة الإلهية، المندرجة تحت قوله تعالى {ووضع الميزان}، والمقتضية لسنة التدافع
{ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض}، أن جـاء هذا التحــول المـبارك في تركيـا في هذا الوقت
بالذات، {والله غالـب على أمره ولكن
أكثـر الناس لا يعلـمـون} .
والله الموفق وهو حسبنا عليه توكلـنا وعليه فلتوكـل
المتوكـلون