لا تخدعنك الدنيا
وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألا ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر..
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، ويقول: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
ولقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق والناس كنفيه (عن جانبيه) فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: « » قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال: « ». قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: « » (رواه مسلم).
هذه هي حقيقة الدنيا حقيرة هينة لا تساوي شيئا، قال عليه الصلاة والسلام: « » (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح).
فلله در أولئك الرجال الذين عرفوا لماذا خلقوا، ومن أجل أي شيء وجدوا؛ فما تعلقت قلوبهم بالدنيا فصدق فيهم قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
إن الذين ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وزخرفها ومتاعها الفاني ، يتصرفون وكأنهم قد خلقوا للبقاء والخلود في هذه الدنيا مع أن الله تعالى يقول : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، ويقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34-35].
لماذا خُلقنا؟
بين الله تعالى الغاية التي من أجلها خلق العباد فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، هذه هي والله الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده، لا شريك له في ذلك فهو سبحانه المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثير من الناس؟
لقد انعكست المفاهيم، وانتكست الفطر عند أولئك الناس فاستحق كثير منهم أن يدخل تحت قول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
حقيقة الدنيا
لقد بين الله في كتابه أن الدنيا متاع زائل وحطام فان فقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي وهو حديث حسن)، فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، شتان بين هؤلاء وبين من عرف حقيقتها فأقبل على الآخرة يطلبها ويعمل لها فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19-22]، إن المفتون بالدنيا قد عاش فيها أعمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124-127].
اتقوا فتنة الدنيا
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «
» (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).ولكن ومع كل هذه التحذيرات من الله ورسوله لا تجد إلا قلوبا ميتة، وعقولا مسلوبة، لشغوف أهلها بحب الدنيا وبهرجتها الزائفة الزائلة، خربوا آخرتهم الباقية وعمّروا دنياهم الفانية، تنافس كثير من الناس من أجل الدنيا، وتقاطعوا، وتدابروا من أجلها، فضاعت حقوق، فكم من ضعفاء ومساكين ضاع حقهم من أجل أن يأكله غني مستكف، وكم من صاحب حق ذهب حقه أدراج الرياح من أجل محاباة المسؤول لخصمه، وكم وكم نرى من خصومات وتعديات من أجل الصراع للبقاء على وجه هذه البسيطة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] .
لقد أنسى الناس حب الدنيا والتشاغل بها طاعة الله عز وجل الخوف منه، ألا يعقل أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود:102]» (متفق عليه).
» (رواه الترمذي، وهو حسن صحيح)، وقال : « » (متفق عليه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه مسلم)، وقال : « . ثم قرأ: {وهذه هي النتيجة الحتمية لكل ظالم، ولا مناص عنها ولا مفر منها، والجزاء من جنس العمل.
فلو أنّ الناس لم ينظروا إلى ما منّ الله به على غيرهم، فيحسدوهم، ويحقدوا عليهم، ويطمعوا بما في أيديهم لعاش الناس إخوة متحابين متعاونين على البرّ والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، آمرين بالمعروف، متناهين عن المنكر.
قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألا ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر. فلو ترك الناس بعضهم بعضا بما أنعم الله على كل منهم لساد الحب، والفرح، والإخاء، ولعم الأمن والسلام، والرخاء لأن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
» ( متفق عليه)، ودونك يا من خدعتك الدنيا وزينتها، وركنت إليها، وقاتلت من أجلها، وتركت أمر الله دونك هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه مسلم).فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة.
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا،، ولا إلى النار مصيرنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.