ورحل ابن غديان بقية الصالحين

ملفات متنوعة

في عصر يوم الثلاثاء الموافق للثامن عشر من شهر جمادى الآخرة لعام
واحد وثلاثين وأربعمائة وألف كسفت شمس من شموس هذه الأمة، وأفل قمر من
أقمارها، وطويت صفحة من صفحات النور..

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

ففي عصر يوم الثلاثاء الموافق للثامن عشر من شهر جمادى الآخرة لعام واحد وثلاثين وأربعمائة وألف كسفت شمس من شموس هذه الأمة، وأفل قمر من أقمارها، وطويت صفحة من صفحات النور، وسقطت ورقة من ورق شجرة العلم في هذه الأمة، ما كادت الأمة تفيق من مصيبة ما حل بها في سواحل فلسطين حتى رزئت بمصابها في وفاة علم من أعلامها الكبار، إنه الشيخ العلامة عبد الله بن غديان ذلك التقي الخفي، العالم العابد، الفقيه الأصولي، العفيف الزاهد، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً.


لعمرك ما الرزية فقد مال *** ولا شاة تموت ولا بعير
ولكـن الرزية فقـد حـرٍّ *** يموت بموته خلقٌ كثير
 


إن نسيت شيئاً فلن أنسى ذلك اليوم من أيام صيف الرياض عندما عقدت العزم على زيارة مسجده العامر بجانب دار الإفتاء، لقد انطلقت في زحام مدينة الرياض الذي لم أعتد عليه، فجعلت الصور تتزاحم في ذهني، كنت أظن أني سأجد شيخاً كعادة بعض من ينتسب إلى العلم يرتدي ذلك المشلح الفاخر ويتبعه هالة من طلبة العلم، ويصيبك كثير من العناء قبل أن تظفر منه بإجابة سؤال أو جلسة خاصة، دخلت المسجد تلفتُّ يمنة ويسرة فلم أر شيئاً مما كان يدور في ذهني، صليت تحية المسجد وجعلت أترقب ذلك الشيخ فقلت في نفسي: لعله لم يصلّ اليوم في مسجده، لعله حبسه حابس، لعله ولعله....، وفجأة إذا بشيخ نحيل الجسم، غترته لا زالت على كتفه، حاسراً كمي ثوبه، ينفض عن يديه ووجهه قطرات من ماء الوضوء، وإذا به يتجه إلى المحراب... يفتح مكبر الصوت... يقيم الصلاة.
 


عند تلك اللحظات أصابني الإحباط، وخيل إلي أن ذلك الرجل المتواضع رث الهيئة إنما هو مؤذن ذلك المسجد، فجعلت أصبّر نفسي وأحتسب الأجر في أكثر من 400 كيلو متر قطعتها لكي ألقى الشيخ، دخلت في الصلاة وأنا أفكر كيف سأرجع تلك المسافة دون أن أرى الشيخ أو أسلم عليه، انقضت الصلاة والتفتَ ذلك الإمام إلى المأمومين فإذا وجه عليه من نور الإيمان ومهابة العلم ما الله به عليم، ولكن ورغم ذلك لم يدُر في خَلدي أنه الشيخ الذي شددت رحالي للقائه.

وفجأة ما هي إلا لحظات وإذا الناس تبادره بالسلام وتقبيل رأسه، حينئذ سألت عنه من في المسجد، فقالوا لي: ذلك هو الشيخ ابن غديان ـ رحمه الله ـ، تقدمت ومعي اثنان من طلبة العلم، وبمجرد ما ذكرنا له زيارتنا له ورغبتنا في الجلوس معه ما كان منه إلا أن أخذ بأيدينا إلى زاوية من زوايا المسجد فحظينا منه بجلسة كانت من أمتع الجلسات العلمية طاف فيها بنا حدائق العلم، وسقانا من رحيقه.

نعم لقد رحل الشيخ الغديان، وبرحيله فقدنا رجلاً من أعلم الناس بأصول الفقه، ومن أخبر الناس بكتب الفقه، ومن أعمق الناس فهماً لكتاب الله، ومن أزهد الناس عما في أيدي الناس، رحل ورحل معه الزهد في زمن تسابق فيه الكثيرون إلى ملذات الدنيا، والتزلف لأهلها، رحل وفي حياته عبرة ودرس يصرخ في وجه كل من أغرته زهرة الحياة الدنيا.
 


رحل الغديان فليبكه من كان باكيا، لتبكه المحاريب والمساجد، لتبكه حلقات طلبة العلم، لتبكه المطولات التي لطالما جردت بين يديه، لتبكه تلك الإذاعة التي أرسلت أثير صوته نديا هادئاً ينبعث نوراً وهداية لدروب كثير من الناس في كل بقاع الأرض، لتبكه دار الإفتاء، ليبكه ذلك المكتب الذي لطالما جلس عليه يجيب على استفسار سائل، أو يفرج كربة عان، ليبكه الزاهدون، ليبكه العابدون، ليبكه الصالحون.

نرثيه ونبكي عليه وحق ذلك لنا ونحن نرى عقد العلماء الربانيين تنفرط جواهره واحدة تلو الأخرى، نبكيه ونحن نذكر قوله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » [البخاري:100]، نبكيه ونحن خائفون من قوله صلى الله عليه وسلم: « إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال : السفيه يتكلم في أمر العامة» [حسّنه أحمد شاكر في مسند أحمد:15/37]، ومن قوله: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » [البخاري:6496].



إن وفاة مثل هذا العلم من أعلام الأمة ليمثل جرس إنذار يقرع آذان أهل العلم وطلبته أن اصدقوا العزم، وخذوا بالجد، واقتفوا أثر هذا العالم الرباني ومن على شاكلته من أهل العلم الذين ودعوا هذه الدنيا، أدركوا من بقي منهم، انصروهم، عزروهم، اثنوا الركب بين أيديهم، قبل أن تأتي ساعة لا ينفع عندها الندم.



لقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دخلٍ *** فاستيقظوا إنَّ خيرَ القولِ ما نفعَا
 


وبعد هذا كله فإن عزاءنا في وفاة الشيخ - رحمه الله - أن دين الله محفوظ، ومعصوم عن التحريف والتبديل والنقصان بحفظه سبحانه وتعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وفي الصحيحين: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة » وفي رواية: « حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».



وإتماماً للفائدة وتعريفاً بالشيخ لمن لم يعرفه فهذه نبذة من سيرته العطرة:

نسبه:
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن قاسم آل غديان. من آل محدث من بني العنبر من بني عمرو بن تميم، وينتهي نسبه إلى عمود (طابخة) بن إلياس بن مضر من أسرة العدنانيين، ومن جهة الأم يرجع نسبه إلى آل راشد من عتيبة، وترجع عتيبة إلى هوازن. ولد عام 1345 هـ في مدينة الزلفي.
 


الدراسة:
تلقى مبادئ القراءة والكتابة في صغره على عبد الله بن عبد العزيز السحيمي، وعبد الله بن عبد الرحمن الغيث، وفالح الرومي، وتلقى مبادئ الفقه والتوحيد والنحو والفرائض على حمدان بن أحمد الباتل، ثم سافر إلى الرياض عام 1363 هـ فدخل المدرسة السعودية الابتدائية (مدرسة الأيتام سابقا) عام 1366 هـ تقريبا، وتخرج فيها عام 1368 هـ.

عين مدرساً في المدرسة العزيزية، وفي عام 1371 هـ دخل المعهد العلمي، وكان أثناء هذه المدة يتلقى العلم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، كما يتلقى علم الفقه على الشيخ سعود بن رشود (قاضي الرياض)، والشيخ إبراهيم بن سليمان في علم التوحيد، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم في علم النحو والفرائض، ثم واصل دراسته إلى أن تخرج في كلية الشريعة عام 1376 هـ، وعين رئيساً لمحكمة الخبر، ثم نقل للتدريس بالمعهد العلمي عام 1378 هـ، وفي عام 1380 هـ عين مدرساً في كلية الشريعة، وفي عام 1386 هـ نقل كعضو للإفتاء في دار الإفتاء، وفي عام 1391 هـ عين عضوا للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء.
 


مشايخه:
تلقى العلم على مجموعة من العلماء في مختلف الفنون، ومن أبرزهم بالإضافة إلى من سبق:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تلقى عليه علم الفقه.

الشيخ عبد الله الخليفي في الفقه أيضا.

الشيخ عبد العزيز بن رشيد في الفقه والتوحيد والفرائض.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير.

الشيخ عبد الرحمن الأفريقي علم المصطلح والحديث.

الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

عبد الفتاح قاري البخاري أخذ عنه القرآن برواية حفص عن عاصم، يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

وغيرهم من أجلاء العلماء وطلبة العلم.



آثاره :
إضافة إلى ما سبق كان أثناء عمله من عام 1389 هـ إلى قبيل وفاته، يقوم بتدريس الفقه وأصوله وقواعده، والحديث ومصطلحه، و التفسير وعلومه، والعقيدة، والفقه في حلقات منتظمة غالب أيام الأسبوع حسب الظروف بعد المغرب وبعد العشاء، وأحيانا بعد الفجر وبعد العصر، ومن عام 1395 هـ كان - بالإضافة إلى عمله في الإفتاء- يلقي دروسا ًعلى طلبة الدراسات العليا في جامعة الإمام وكلية الشريعة في الفقه والأصول وقواعد الفقه وقاعة البحث ويشرف ويشترك في مناقشة بعض الرسائل، وفي خلال هذه الفترة تلقى عليه العلم عدد كثير من طلاب العلم، كما رشح عام 1381 هـ ضمن من ينتدبون إلى التوعية والإفتاء في موسم الحج، وبقي على ذلك حتى وفاته رحمه الله، ولما توفي سماحة الشيخ عبد الله بن حميد عام 1402 هـ، تولى الإفتاء في برنامج نور على الدرب.

رحم الله الشيخ الغديان وأسكنه فسيح جناته، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، آمين آمين.

 

المصدر: أمين بن منصور الدعيس - موقع المختار الإسلامي