ما يخفيه زكريا بطرس عن مستمعيه

محمد جلال القصاص

لا يعرف التاريخ أحد كُتب عنه ثناءً ومدحاً من أتباعه ومن معاديه
كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يمدحون خُلُقه وخلقته وكل شيء، ولم
يعرف أحد مدحه أعدائه كما مدح أعداء رسولِ الله رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم.

  • التصنيفات: الأدب مع الله وكتابه ورسوله -



لا يعرف التاريخ أحد كُتب عنه ثناءً ومدحاً من أتباعه ومن معاديه كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يمدحون خُلُقه وخلقته وكل شيء، ولم يعرف التاريخ أحد أحيط بهالة من التعظيم والتبجيل في حياته وبعد مماته كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أحد مدحه أعدائه كما مدح أعداء رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر صنفت فيه مصنفات مشهورة ومعروفه. ولم يعرف التاريخ أحد تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم كهذا الخنزير بطرس.
ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم شرفت به المصنفات الكبيرة، وشرف به المختصون في جميع الفنون والعلوم.
ووالله تتردد كلماتي خجلى أن تكتب عن الحبيب صلى الله عليه وسلم فمهما كتبتُ لا أجد نفسي قد وفيت شيئا. ولكن أراعي المقام وأضع خطوطا رئيسية تبين كذب من يتكلم عنه من الحاقدين أمثال بطرس الكذاب.
 


النبي صلى الله عليه وسلم في بيته:
لماذا النبيُ صلى الله عليه وسلمَ في بيته؟ لماذا ألقي الضوءَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟
الرجل في بيته يكونُ على حقيقته، لا يتكلفُ أمام أهلهِ وأولادهِ، فإن تجملَ خارج البيت، فإنه لا يستطيع أبدا أن يتصنع أمام أهله، ولذا آثرت أن ألقي الضوءَ على شيءٍ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، ليعلمَ من جهل أي الرجال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ما كان جبارا ولا كان شهوانيا يقضي الليل مع النساء كما يفترون عليه صلى الله عليه وسلم.
 


أول من آمن به أهل بيته:
أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم هم أهل بيته، زوجتُه السيدةُ خديجةُ رضي الله عنها وعلي بن أبي طالبٍ الذي كان في بيته، وزيدُ بنُ حارثة، وبناتُه صلى الله عليه وسلم، وكذا أخصُّ أصحابه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
لم يتخلف أحدٌ من خواص محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بل لم يتلكأ منهم أحد، كلهم آمنوا به وصدقوه فور سماعهم خبرَ نبوته صلى الله عليه وسلم.
يقولُ أحدُهم: "إن إيمانَ أهلِ بيت محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهِ دليلٌ على صدقه، فأعرف الناس بالرجل أهلُ بيته وخاصتُه".
وصدق, فإن أحدنا قد يُخفي على الناس عيبه، لا يُظهرُ عيبَه في الشارعِ ولا في المجالس العامة، ولكنه ينبسط في بيته أمام زوجته وأبناءه، وينبسط بين خاصّة أصحابه والمقربين منه فتبدوا سريرتُه فلولا أنهم يعرفون منه الخير ما اتبعوه ولاتهموه في خبره وكذبوه وما صدَّقوه، أليس كذلك؟!
أقول: وأن يحبَ الرجلَ زوجتُه وأبناءُه فهذا أمر طبعي، أما أن يحبَّه خادمُه وعبدُه الذي يملكُه فهذا لا يكون كثيرا. وأن يفضّل الرجلُ العبوديةَ والغربةَ مع شخصٍ، على الحريةِ في وطنه مع أبيه وأمه وأعمامه وأخواله وإخوانه، وهو بعدُ شابا صغيرا، فهذا لم نسمع به إلا مع النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
كان زيدُ بن حارثةَ حرا أخذته اللصوصُ وهو غلام فباعوه عبدا بالشام، واشتراه حكيمُ بن حزامٍ من الشام وحملهُ إلى مكةَ وانتهى به المطافُ مولا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ورحل حارثةُ ـأبو زيدـ بين أحياء العرب يبحث عن ابنه الذي أخذته اللصوص واسترقُّوه، وهو حرٌ ذو نسب... خرج يطوف البلدان وهو يقول:
 


بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ *** أَحَيّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي وَإِنّي لَسَائِلٌ *** أَغَالَكَ بَعْدِي السّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ
ُتذَكّرْنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا *** وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ *** فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا * * * وَلَا أُسْأَمُ التّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي * * * فَكُلّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلُ

 


خرج هذا الأب المفجوع يقطع الصحاري بحرها، ووجد ولده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح يناشده أن يَبِيعَهُ ولدَه بما شاء.. يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري منه ولده بما يشاء من ثمن. فأجابه النبيُ صلى الله عليه وسلم بما لم يتوقعه. قال لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -يخاطب زيداـ: إنْ شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك، فأجاب زيد: بَلْ أُقِيمُ عِنْدَك. يقيم عند من؟
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختار زيدٌ البقاء عبدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الرجوع حرا مع أبيه. ماذا رأى زيدٌ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم كي يختار العبودية معه في مكة بعيدا عن أهله وداره، على الحرية مع أبيه وبين أمه وإخوانه وهو بعد صغير السن؟
لك أن تتخيلَ ما كان من حسن عشرة وطيب خلق جعلت زيدا لا يرحل من دار الغربة والعبودية إلى أبيه وأمه، واسمع :
قَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ عَلَى الْحُرّيّةِ وَعَلَى أَبِيك وَأُمّك وَبَلَدِك وَقَوْمِك؟
فَقَالَ زيدٌ: إنّي قَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي أُفَارِقُهُ أَبَدًا.
وأنشد يقول:
 


أَحِنّ إلَى أَهْلِي، وَإِنْ كُنّ نَائِيًا *** بِأَنّي قَعِيدُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ
فَكُفّوا مِنْ الْوَجْدِ الّذِي قَدْ شَجَاكُمْ *** وَلَا تُعْمِلُوا فِي الْأَرْضِ نَصّ الْأَبَاعِرِ
َإِنّي بِحَمْدِ اللّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ *** كِرَامِ مَعَدّ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ

 


لم ينته الأمر عند هذا الحد.
تجمَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو خيرٌ من ذلك. فأخذ بيدِ زيدٍ وقام إلى الملأ من قريش ينادي فيهم: "اشْهَدُوا أَنّ هَذَا ابْنِي، وَارِثًا وَمَوْرُوثًا" فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ، ولم ينته الأمر عند ذلك أيضا. بعد أن رحل أبوه تجمل النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أكثر من ذلك أيضا، تجمل بما هو أكثر من عتقه، وبما هو أكبر من تبنيه، فقد زوجه من بنت عمته زينبَ بنتَ جحشٍ رضي الله عنها. ومن يعرف عادات العرب في الزواج يعرف حجم هذا الكرم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أرأيتم أكرمَ من هذا؟!
لا والله.
فما له لا يؤمن به، وهذا حاله معه؟!
 


مشهد آخر:
جاء الْمَلَكُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء فأخذه وضمَّه ضما شديدا حتى بلغ منه الجَهَدَ ثم أرسله، وقال له: أقرأ والحبيب صلى الله عليه وسلم يجيب: ما أنا بقارئ، ثم أخذه ثانية وضمه ضما شديدا حتى بلغ منه الجهد وناداه: اقرأ يا محمد، والحبيب يجيب: ما أنا بقارئ، فأخذه الثالثة وضمه ضما شديدا وناده اقرأ يا محمد، والحبيب يجيب: ما أنا بقارئ. فقال الملكُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}ورَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، ودَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها ينادي: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي.... غطوني بالفراش. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، وجلس يحدث زوجته بما رأى يقول لها:َ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ: ،وهذا محل الشاهد، كَلَّا وَاللَّهِ... لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبدا. والله إنك لتصل الرَّحِمَ... وتَصْدُقُ الحديث... وَتَحْمِلُ الْكَلَّ... وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ... وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
هكذا وصفتهُ زوجتُه وهو بعد لم يوحى إليه، كريم شهمٌ هينٌ لين، قريب يجيب، هذا حاله صلى الله عليه وسلم كما تصفه زوجته، وهو بعد لم يوحى إليه.. هذا حاله في الجاهلية.



يا من له الأخلاق ما تهوى * ** العلا منها ويتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل * * * يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى * * * وفعلت ما لا تفعله الأنواء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب * * * هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا عفوت فقادرا ومقتدرا * * * لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق * * * لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته * * * ورضا الكثير تحلم ورياء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة * * * وإذا ابتنيت فدونك الآباء



وحين أخبر أبا بكر، وهو صاحبه في الجاهلية بأن الله أوحى إليه، أسلم أبو بكر من فوره وما نظر ولا تردد، لماذا؟
أعرف الرجل بالرجل صاحبه، فلولا أن أبا بكر رضي الله عنه يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم الخير ما أقبل هكذا، ولتردد ولقال وأسمع.
وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كل من كان في بيته، علي بن أبي طالب وأم أيمن وزوجته وبناته وغلامه زيد بن حارثه لم يتخلف منهم أحد.
الدائرة التي تحيط بالنبي صلى الله عليه وسلم وتتعامل معه يوميا هي أول الناس إيمانا به. وكما سبق معنا أن في هذا دِلالة واضحة على صدقه صلى الله عليه وسلم، فهم لو لم يعرفوا منه الصدق ما آمنوا من فورهم هكذا.
بل شهد له من حاربوه بالصدق والأمانة، ولقبوه بالصادق الأمين، ولم نسمع أن أحدا ممن عاصره ذكره بسوء... لا يوجد أحد ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى من قاتلوه وأخرجوه من داره، تكلم في خلقه بشيء، كلُّهم أجمعوا على صدقه وأمانته وحسن خلقه، وهذه الجعجعة حادثة أتت بعد ألف وأربعمائة عام.



وقفة تَزيد الأمر وضوحا:
اتخذ القرآن من حال النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية بين أهله وأصحابه دليلا على صدقه في دعوى النبوة، فمعلوم أن قريشا كذَّبت النبيَّ صلى الله عليه وسلم كحال بني إسرائيل مع المسيح عليه السلام، وكحال كل الأمم التي بعث الله إليها نبيا من أنبياءه.
وفي مواجهة هذا التكذيب، وفي إطار التدليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوى النبوة، اتخذ القرآنُ الكريم من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أهله وأصحابه دليلا على صدقه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [ الأعراف:184]
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[سبأ :46]، وقال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22].
ما وجه الدليل في ذلك؟


يقول أهلُ العلمِ: ذِكرُ لفظِ الصاحب هنا دون غيره، إذ قال صاحبكم ولم يقل محمد ولا النبي، ليذكرهم بأن هذا صاحبهم، لازمهم أربعين عاما، ويعرفوه معرفة الصاحب بصاحبه، جلس بينهم أربعين عاما، لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، إلا مرة أو مرتين، وكان -في خروجه هذا- بين أهل مكة، فهو إذاً لم يتعامل مع غير أهل مكة.
 


والنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ من حاله بين قومه دليلا على صدقه في دعوى النبوة، وقف على الصفا ينادي: لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغيرَ عليكم أكنتم مصدقي؟
قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. (هذه رواية البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما).

فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في بيته وبين أهله في الجاهلية، اتخذها القرآنُ دليلا على صدقه صلى الله عليه وسلم.

 

يسكن في غرفات من طين:
قالوا: كان جبارا لا همَّ له إلا القتل، والزواج، قلنا: لو كان كذلك لاتخذ القصور وجمع الأموال، وقضى الليل مع النساء، ولكن ما كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم.
حين هاجر إلى المدينة اتخذ بيتا من طين (لبن) سقفه من الجريد يطاله الرجل بيديه. بيت كل واحدة من نسائه عبارة عن غرفة من طين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى يؤثرَ في جنبه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي من حديث عبد الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال: «نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا َكرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»وفي رواية أخرى عند أحمد من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها»يقول: ثم راح وتركها، أي أنه لم يمكث حتى يتحول عنه الظل بل قام هو وترك الظل.
 

ودخلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نائم على حصير قد أثر الحصير في جنبه، وجالت عينُ عمرٍ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عمر: فإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ (حفنة أو حفنتين) وَقَرَظٍ ( نوع من ورق الشجر يدبغون به الجلود) فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ.
هذا كل ما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حصير ينام عليه، وحفنه من شعير ووسادة معلقة بالجدار.
فبكى عمر مما رأى، وحُقَّ له.
وناداه الحبيب صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟
يقول عمر: فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَالِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ
قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ: أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟
فقال عمر: بَلَى.
هذا هو همّهُ صلى الله عليه وسلم الآخرة، لا حاجة له في الدنيا.
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعُ تَمْرٍ وَلَا صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّ عِنْدَهُ يَوْمَئِذٍ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ».

 

ليس في بيته إلا الماء:
وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أن رجلا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ يسأل عن شيء يضيفه به، ثم أرسل إلى الثانية والثالثة وإلى كل نسائه وكلهم يجيب: والذي بعثك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ».



وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ، فقيل لها: ما كَانَ يُعِيشُكُمْ. قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا».
تمر وماء، والمنحة لبن.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ».
ومشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.
وعند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وما ترك درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
أجبارٌ هذا؟
لا والله.
 

 

جاء في قصة إسلام عُدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وكان نصرانيا، أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، المسجد فسلم عليه، ثم قام معه إلى بيته صلى الله عليه وسلم، يقول عُدي: فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا; يقول عُدي: فقُلْت فِي نَفْسِي: وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ.
 

ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةً لِيفًا، فَقَذَفَهَا إلَيّ، فَقَالَ: اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ. قُلْت: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ. يقول عدي: فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ، قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي: وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ. نعم لم يكن ملكا ظالما غشوما... كان يجلس على الأرض، ويقف للعجوز طويلا وهو أعظم الناس مسئولية وأكثرهم شغلا. ويسكن في غرفات من طين.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية معلقا على ما ورد في البخاري، من أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة يقول، وقد جعلَهُ عنوانَ بابٍ يقول: فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده -كما هي عند الله- من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثا، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
 

ولم يكن ضيق العيش، وقلة المتاع في بيته صلى الله عليه وآله وسلم فترة من الزمن فقط، بل كان هذا حاله حتى توفاه ربه.
ولم يكن ضيق العيش وقلة المتاع في بيته صلى الله عليه وسلم جبراً عنه، بل باختياره، فقد كان زاهدا في الدنيا، راغبا عنها، يقول: ما لي وما للدنيا.
لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خيبر، وأتت الغنائم، اجتمع حوله نسوتُه يريدون سعةَ في العيش، فخيرهم بين أن يبقون معه على هذه الحال وأن يطلقهن. ونزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 29]، وكلهن اخترن البقاء معه صلى الله عليه وسلم على هذه الحال.
وفي هذا دليل أيضا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مضطرا لهذا، فقد كان عنده سهمه من الغنائم، ولو شاء لصارت الجبال معه ذهبا، بل كانت رغبة عن الدنيا، كما قال هو صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها"، وفي هذه القصة أيضا بيان لمحبة نساء النبي صلى الله عليه وسلم للنبي وحبهم للبقاء معه على هذه الحال، كانوا يحبونه أشد من حبهم لآبائهم وأمهاتهم، عائشة تقول أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟! وحبيبة ترفض أن يجلس أبوها وهو سيد قريش يومها على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول له: أنت مشرك نجس لا تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.



وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي ثلث الليل أو نصفه أو يزيد عن ذلك في الصلاة، يقوم حين يسمع الصارخ.. الديك.. ويصرخ الصارخ في منتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل.. يقف بين يدي ربه يقرأ قرآنه ويسجد له داعيا وشاكرا، قال الله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20].
لم يترك صلاة الليل أبدا.


وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ... ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا -أي متهملا ومُرتلا- إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ. ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ. فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ» .
وروى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ. قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
يقول بن حجر معلقا على هذا الحديث وقد كان بنُ مسعود رضي الله عنه قويا محافظا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما همَّ بالعقود إلا بعد طولٍ ما اعتاد عليه.
وجاء من وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ليلا: عن الْمُغِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ: أما وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟



يقضي ليله يناجي ربه، وهذه بعض أقواله:
مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ربه
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.... أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ... وَلَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْكَ.... أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.
خَشَعَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ لِي غَيْرُكَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ.
اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفرَ لي وترحمَني، وإذا أردتَ فتنة قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حُبَّك، وحبَّ من يحبُّكَ، وحب عمل يقربني إلى حبك.


وكان إذا آوى إلى فراشه يقول بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ".
ينام ذاكرا ويستيقظ ذاكرا.
تقول أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ... تبحث عنه بيدها... تقول: فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ [المصلى] وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

 

منازلٌ كانت للصلاةِ وللتقى * * * وللصومِ والتطهيرِ والحسناتِ
ديارٌ عفاها جورُ كلِّ منابذٍ * * * ولمْ تعفُ للأيام والسنواتِ
إلى الله أشكو لوْعةُ عند ذكرهِمْ * * * سقتني بكأسِ الثكلِ والفظعاتِ
فما العدو إلا حاسدٌ ومكذبٌ * * * ومضغنٌ ذو إحنةٍ وتراتِ
فياربِّ زدني من يقيني بصيرةَ * * * وزدْ حٌبَّهم يا ربِّ في حسناتي
سأذكرهم ما حج لله راكبٌ * * * وما ناحَ قمريٌ على الشجراتِ

 


كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضع رأسه في حجر زوجته ويقرأ القرآن ثم يغلبه النوم فينام ورأسه في حجرها، تدبروا. هذا حال المُجهد الذي ما أن يستكينُ على الأرض حتى يغلبه النعاس وينام. وفي حجر زوجته يقرأ القرآن.
وكان حسن العشرة مع زوجاته يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». لا يفضل واحدة منهن على الأخرى في القسم، ويطوف كل يوم عليهن يسأل عن أخبارهن، ثم يبيت عند التي هو في نوبتها.
 

متواضعا حليما، يرقع ثوبه ويخصف نعله، بساما ضحاكا، كما تصفه زوجته، يقول صاحب الرحيق المختوم: "كان أشد الناس حياء وإغضاء، وإذا كره شيئا عرف في وجهه. وكان لا يُثْبِتْ نظرُه في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلا بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول: "ما بال أقوام يصنعون كذا"، ولَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصفحُ، لا يضرب ولا يسب، ولا يغضب إلا إن انتهكت حرمة من حرمات الله، ولا يعيب الطعام... إن اشتهاه أكله وإلا تركه. يستيقظ من نومه جائعا فيسأل عن طعام فلا يجد فينوي الصيام إلى الليل.


يقول أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه أحمد : «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، لَا وَاللَّهِ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ وَلَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلَّا فَعَلْتَهُ».
يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت" انتهى كلامه رضي الله عنه.

أقول : ليس هذا حال من يحب النساء، فالأنوثة لا تظهر مع التقشف، والعيش على التمر والماء بين جدران الطين. فمَن لا همَّ له إلا النساء لا يقضي شبابَه كلَّه مع امرأة واحدة عجوز تكبره بخمسة عشرة سنة، وقد تزوجت برجلين قبله وأنجبت أكثر من مرة، ليس هذا حال من يعشق النساء. من لا همَّ له إلا النساء لا يتزوج بامرأة عجوز ثبطة... ثبطة تعني ثقيلة متينة.. بدينة.. تمشي كأنها مقيدة، أم أولاد يبكون ويصيحون ليل نهار عند رأسه...ذلكم سودة رضي الله عنها، ثاني من تزوج الحبيب صلى الله عليه وسلم.
 


ماتت خديجة رضي الله عنها وهي قد تجاوزت الستين من عمرها.. بل قاربت السبعين من عمرها، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدها لا يفكر في الزواج حتى أشارت عليه إحداهن بأن يتزوج فهو أبٌ عنده بنين وبنات، وتزوج من؟
تزوج سودة رضي الله عنها... امرأة كبيرة.. بدينة.. بطيئة الحركة تمشي الهوين كأنها مقيدة.. أم أولاد، وظلت معه وحدها ثلاث سنوات. أي حتى بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سن الثلاثة والخمسين من عمره.


من لا همَّ له إلا النساء لا ينخلع من فراش أحب الناس إليه ويطيل السجود لله، يدعو ربه خوفا وطمعا. من لا همَّ له إلا النساء لا ينخلع من فراش أحب الناس إليه ويذهب للمقابر يزور الموتى ويدعوا لهم. من لا هم له إلا النساء.. لا يقوم من الليل حتى ترم قدماه أو ساقاه، وقد آذنه ربه بالمغفرة على ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولا ذنب له وإنما هو الشعور بعظمة المعبود وتقصير العبد.
من الصعب جدا أن يقتنع عاقل بأن هذا حال شهوانيٍ يحب النساء، أو ملكٍ ظلوم سفاك لا همَّ له إلا القتل.
إنها حالة من الوقار، والسكينة، والاتصال بالله عز وجل.

إنه قلب معلق بما عند ربه، وجسم قد أنهكته علو الهمة وسمو الطلب.
كلمني أحدهم -من المسلمين- بكلام بطرس اللعين، يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم شهوانيا، وكان وكان، فأجبته: أنت متزوج ؟ قال نعم، فقلت كيف بالبيت حين يكون غرفة واحدة ويكون أبنائك كثيرون ومستيقظون، بل كيف بالبيت إن كان به غير أبنائك.. يضج بالأبناء والضيوف، وجداره بجدار المسجد، هل تستطيع أن تأخذ فيه راحتك؟ قال: أبدا.. أبدا.
قلت هذا حال النبي، كان بيته كل واحدة من نسائه غرفة ضيقة.. من الطين... سقفها بالجريد، ملاصقة للمسجد.. إن أراد أن يسجد وكز زوجته لتوسع له مكانا للسجود، وإن رفع يديه رفع سقف الغرفة، وإن خرج من باب الغرفة وجد عددا من الأطفال من أبنائه وأحفاده.
بالله عليك: أهذا بيتٌ يستمتع فيه بالنساء؟!
أهذا حال من يريد المتعة بالنساء؟ !
أفي مثل هذا البيت تظهر الأنوثة وتنتعش؟!
وتابعت: بطرس يكذب، سله عن بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعن ليل النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يقضيه، وعن مطعم النبي صلى الله عليه وسلم وملبسه؟
إنه كذّاب لئيم.
فأجاب: حقا إنه كذّاب لئيم.
 


يبقى يجيش بصدر كثيرين، ويتكلم به النصارى وكأنه كان شغل النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الشيء هو ما ورد من أخبار صحيحة عن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواقع من تتزين له من زوجاته حتى ولو على فراش غيرها، وهي قصة حدثت مرة، كما جاء في سبب نزول الآيات الأول من سورة التحريم، وأنه صلى الله عليه وسلم ربما طاف على زوجاته في ليلة واحدة.
وكل هذا صحيح.

ولكنه أبدا لم يكن هذا هو السياق العام الذي كان يعيش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى لم يكن حاله أنه يطوف كل ليله على نسائه، ولم يكن حاله أن يذهب يبحث عن المتجملة منهن ويواقعها. لم يكن هذا أبدا حاله صلى الله عليه وسلم؛ بل كان حاله كما قدمنا، زاهدا في الدنيا، متقشفا في عيشه، يدعو ربه: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا. اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. كان حاله أنه لم يتزوج إلا امرأة واحدة عجوز في الأربعين من عمرها وقضى معها ربع قرن من الزمن لم يتزوج عليها، وبدأ التعدد بعد البعثة بثلاثة عشر عاما أو يزيد، وهو صلى الله عليه وسلم قد تجاوز الخمسين من عمره. وكل زواج كان بسبب. فكيف هذا؟

حبُّ النساء فطرة خلقها الله في الرجال، كل الرجال إلا المريض نفسيا أو بدنيا، وهو شاذ لا يقاس عليه. ومعاشرة النساء لها ارتباط قوي برباطة الجأش... الشجاعة، فالضعيف الذي يهتم لأي مشكلة لا يستطيع أن يذهب لأهله، كلما جاءته مصيبة أو لاحت في الأفق ذهبت بعقله وبات ليلتَه يفكر فيما كان وفيما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويذهل عن أهله وإن كانت متجملة متزينة، أما صاحب الشجاعة والبأس، فلا تأخذه المشاكل، وحين يرى امرأتَه متزينة تذهب كل الهموم، فهي صغيرة في حسه مهما كبرت، ويجتمع عليه شمله، ومن ثمَّ ينتفع به أهله. وهذه النوعية من الرجال ورسولنا سيدهم تكون حسنة العشرة في الغالب. لماذا؟

لأن من هذا حاله يستعلي على مشاكل البيت الصغيرة التي تثيرها المرأة، يستعلي على عدد من النقود تنفق هنا أو هناك، ولا يتقصى صغار الأمور. وكما قيل: ما استقصى كريمٌ قط.


وقد رأينا خالدا مثلا يتزوج حيث ينتصر، وقد قال له أبو بكر مرة حين تزوج من بني حنيفة بعد أن هزمهم وقتل رجالهم: أنت امرؤ فارغ القلب. يتزوج ممن هزمهم، ولا بد أن عروسه هذه قُتل أبوها أو أخوها، يتزوج ولا يلتفت لهذا كله، يتزوج وهو في دار عدوه لم يرحل بعد، وهذا حال أرباب الحزم والعزم والشجاعة من يوم كانوا، وسل تعلم.

أما مريض القلب... الضعيف، فهو كالطفل تأخذه النظرة كل مأخذ، وإن ضحكت له امرأة أجلسته عن كل شيء وأخذت بخواطره، وأقامت عنده الخاطرات ولم ترحل.



حال الضعيف أنه لا يذهب لأهله إلا في أوقات محددة ويستعين على ذلك بالدواء، ويجلس يخطط لذلك أياما. وغالبُ من هذا حاله يكون أمره بيد أهله، فإن غضبت عليه أركبت الهمومَ على ظهره وساقته حيث شاءت، وإن رضيت عنه وتدللت سحبته حيث شاءت، وأولئك ليسوا من خيار الرجال. ومن هذا حاله، مع حبه للنساء وأنه لو استطاع لتزوج كل يوم، تجده مع هذا يتعجب ويتساءل: كيف يجمع الرجل بين امرأتين فضلا عن ثلاث أو أربع أو تسع؟ كيف يجمع بينهم مع هموم الوظيفة والحياة؟ يقول لك، واحدة وتفعل بي كذا وكذا، فما بال ذي التسعة؟!


يتعجب، والعجب من حاله هو.
نقول له: لأصحاب العزائم حديث آخر.



حلف البخيل ليأتين بمثله ** * حنثت يمينك يا بخيلُ فكفرِ