فتنتني نساء غزّة !
ملفات متنوعة
هل أتاكم نبأ نِسوةٍ ارتقَين في سلّم الإنسانيّة والكرامة فسطع وهجهنّ
على ضحالة سيلٍ من الرجال؟! <br />
أساطير خطَطنها لكلّ راغبٍ في تذوّق معاني الصبر والصمود، والعزّ
والفخار، والتضحية والإيثار، والإيمان والثبات والإصرار...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
هل أتاكم نبأ نِسوةٍ ارتقَين في سلّم الإنسانيّة والكرامة فسطع
وهجهنّ على ضحالة سيلٍ من الرجال؟!
أساطير خطَطنها لكلّ راغبٍ في تذوّق معاني الصبر والصمود، والعزّ والفخار، والتضحية والإيثار، والإيمان والثبات والإصرار، ليس في قصور فارهة، بل على خطوط النار والمواجهة!
مليون ونصف مليون إنسان يعيشون في غزّة، فيهم الشيخ والشاب
والمرأة والطفل، ونواتهم: امرأة!
هي الأمّ التي أنجبَتْ، وأنبَتَتْ، وأرضَعَت مع الحليب حبّ الله تعالى وحب الأرض، وربّتْ على نهج المقاومة والالتزام بالثوابت وكره الظلم، وهي الأخت التي آزرَتْ ودعمَت، وهي الزوجة التي صبرَتْ ورَضيتْ، وهي المناضلة التي شاركت في الجهاد والمقاومة، وهي الأرملة التي أعالَت، وهي زوجة الأسير التي واجهت الحياة بكل عزيمة ورضا، وهي النائب والداعية والأسيرة والاستشهادية...!
فتنَتْني نساء غزّة!
كيف تحدَّيْنَ الحصار؟ كيف استطعن -بأقل القليل من مقوِّمات
الحياة- أن يعِشن ويُحسِنَّ التعاطي مع الوضع، فيقوى أطفالهنّ
بثباتهنّ ويرضخوا -راضين- لواقع الحال؟ أتقنَّ بامتياز سياسة التأقلم
وتسخير الموجود للعيش الكريم، ولو بكفاف، وتقبّلنَ كلّ ما يجري، لأن
القلب قد تعلّق بالله جلّ في علاه، وعرفنَ أن هذه الدنيا عرضٌ زائل،
وأنّ الجائزة عند اللهِ، والقرار!
في أول أيام (الرصاص المصبوب) تخرج من المستشفى حيث يرقدُ ابنها
الشهيد، وهي تردِّد من الأدعية ما يبرِّد قلبها، وتقول بكل ثباتٍ
وإيمان راسخ كالجبال: اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها،
الحمد لله، والله مذ تزوجت في عام خمسٍ وثمانين دعوتُ أن يرزقني الله
جل وعلا بستٍّ من الأولاد، ويرزقهم الشهادة في سبيله، وهذه أول دعوةٍ
تُستجاب، اللهمّ وحِّد الأمّة على كتاب الله وسُنّة رسوله.
أيُّ عقيدةٍ أثمرَت هذا الموقف المُشرِّف لامرأةٍ فقدَت للتو فلذة كبدها؟! هي واللهِ نفسها العقيدة التي أنتَجَت أم نضال فرحات، التي كانت تُعطي السلاح لأبنائها المجاهدين، وتطلب منهم الثبات عند لقاء العدو، وتستقبل أجسادهم الممزقة، وتحمد الله جل وعلا أن منَّ الله عليها باستشهادهم! خاطئ من يظنّ أن أم نضال هي الخنساء الوحيدة في غزة، فغزّة كلها خنساوات، تعلّقن بالأرض، فربطن أولادهنّ بتربها، فبات العشق يجري في الدماء، والتحرير حلمٌ لا بد قادم.
يجتمعون على ضوء الشموع، تحت سقف البيت الذي يهتزّ في كل لحظة، وأصوات القصف تتعالى في سماء غزّة، ومع كل قذيفة تنفجر تبلغ القلوب الحناجر، ويصرخ الأطفال من الهلع، ويقدِّر الله جل وعلا أن يحصد الموت بناتها الخمس في نفس الوقت، وتحمد الله جل وعلا أن تبقّى لها أربع! أيُّ رضًى قد مُزِج مع دمائهنّ؟ ألسنَ من لحمٍ ودم؟ ألسن بشرا؟ بلى وربي هنّ الأصل وما دونهم نسخ متكرّرة!
ألم تكن أم موسى عليه السلام أُمّا؟ أوحى إليها الله جل وعلا أن تضع ابنها في الصندوق، وترميه في اليمّ، وهو بعدُ وليد، فاستجابت لوحي الله جل وعلا، لأن يقينها به أقوى من أي عاطفة بشريّة قد تردعها عن الامتناع عن الاستجابة، فحريٌ أن نفقه ما يحدث مع نساء غزّة، إن نظرنا بنفس العين التي تفهّمت موقف أم موسى، فهؤلاء غلبَ تمسكهنّ بالشرع الربّاني على رضوخهنّ للطبع الإنساني، فطوبى لهنّ وحسن مآب!
ارتقى الشهيد العالِم المجاهد نزار ريان مع أفراد عائلته كلها، بعد أن قصف الصهاينة منزله في جباليا، وعرف العالم يومها، أن الشهيد كان متزوجاً من أربع، في مقرٍ واحد، نقطة يمكن التوقّف عندها قليلاً لتسليط الضوء على أمرٍ شرعيٍّ وهو التعدّد الذي -وإن أقرّت به المسلمات كتشريع- إلاّ أنهنّ يرفضنه كواقعٍ يُعاش. فالمرأة عندها كرامة وغيرة، ولا يمكن أن تشاطر زوجها مع غيرها من النساء! هذا هو المفهوم السائد عند جلّ المسلمات، مهما بلغت درجة التزامهنّ بالشرع، (ولئن أراد زوجي التعدّد فليطلّقني أولاً لأنني لن أرضى بضرّة!)، ولكن زوجات الريّان حجّة على كلّ مَن تنتحب كلما طُرِح موضوع التعدد أمامها، وكأنها أعزّ من عائشة زوج الحبيب عليه الصلاة والسلام! عشنَ هنّ الأربع مع زوجٍ واحد، واستشهدنَ معه في وقتٍ واحد، ويكأنّ أيّ واحدةٍ منهنّ لن تتحمّل الحياة من دون زوجها وصويحباتها، فاصطفاهنّ الله تعالى جميعاً للارتقاء شهداء!
وأعودُ قليلاً بالذاكرة إلى الوراء.. إلى حدَثَين بهرا العالم أجمع، قامت بهما نساء غزة، ووالله الذي لا إله غيره، قد سبقن فيما فعلنَ رجال الأمّة، وأعطينهم دروساً في الشجاعة والعزيمة، والتحدي والثبات، و(الرجولة)!
أول موقفٍ كان منذ سنتين، يوم حاصر الصهاينة سبعين من المجاهدين في مسجدٍ في بيت حانون، فاستجابت النساء لدعوة النائب جميلة الشنطي، وسِرنَ إلى المسجد، بالرغم من كل المخاطر، وإمكانية مواجهة الموت هناك، ولكنّ الغاية أسكنت في نفوسهنّ كلّ نزعةٍ إلى التخاذل والخنوع، أو الخوف من الترسانة الصهيونية، فهبَبْن هبّة قلبٍ مشفقٍ وجِل على المجاهدين المحاصرين، وتمكنّ بفضل الله جل وعلا من فك الحصار عنهم، بعد أن ارتقى ثلاث شهيدات، وجُرِح عدد كبير منهنّ، في مشهدٍ مهيب، أعاد إلى الأذهان أم عمارة والمجاهِدات في العصر الأول، وجعل العدو يُقِر بأنّ ما فعلته نسوة بيت حانون هو (أسطورة) كما قال رئيس حركة (ميريتس) يوسي بيلين!
وموقفٌ آخر.. حين اعتصمت النساء عند معبر رفح في بداية هذا العام، في محاولة لفك الحصار من تلك النقطة، فانهالت عليهنّ خراطيم المياه الباردة وهراوات (الأمن المصري)، وأُصيبَت العديد منهنّ بالجروح، وكانت ملحمة! كان جلّ همّهنّ إدخال الأدوية لطبابة المرضى، ولكن أنّى للمعبر ان يُفتَح، والقرار المصري مربوط بمشيئة الصهاينة؟!
ليت شعري هل رأى رجال الأمّة ما فعلت نسوة غزة، فيتعلّموا منهنّ فِعل الرجال؟! المعبر واحد والخطب جلل، فما الذي حرّك نساء غزة نحوه ليكسروا الحصار، ولم يتواجد في رجال (الناحية الأُخرى)؟! وما الذي دفعهنّ لفك الحصار عن المجاهدين في مسجد بيت حانون ولم يسعف رجال أمّتي أن يجدوه في قلوبهم؟! إني بحق أتساءل! أم أنهم ربما ينتظرون الوقت المناسِب، وتهيئة المناخ والظروف المؤاتية؟ فلينتظروا!
نماذج مُشرِّفة لنساء هذه الأمّة التي لا يمكن أن تتخاذل أو تعرف الوهن والهوان!
بالرغم من كل الألم والدموع والحرقة واللهيب المستعِر على فقد الأحِبّة، أو خسران مأوى، أو غياب النصير، إلاّ أن الارتباط بالله جل وعلا، وعشق الأرض، والإيمان أن قضيتهم هي الحق، يجعل أهل غزة يثبتون على ما يواجهون من أهوال، وفي وجدانهم آيات الله تعالى التي يردّدونها في محكم التنزيل: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:104]، ثم ينبض القلب بالأمل {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّ ا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وإنّه لقريب بإذن الله جل وعلا.
ليس بدعاً اختيار هذه البقعة من البطاح للابتلاء العظيم، فالله تعالى قد جعل من هذه الأرض بقعة مباركة، وهو يعلم أن شعبها قادرٌ على تحمّل هذا الإكرام الربّاني بالاصطفاء، فقد ابتُلِي الأنبياء من قبل، وحوصِر المؤمنون في شعب طالب ثلاث سنوات وشُرِّدوا، ولكنّهم كانوا نواة الأمّة المجاهِدة، التي حفظت الإسلام بعون الله جل وعلا، فانتشر بعدها في العالم.
فكفاكم فخراً يا أهل غزّة أن تكونوا نواة الأمّة التي تعلِّم الناس معانٍ اندثرَت لقرون، وأن تُظهِروا الإسلام بحقيقته الناصعة، فلا استسلام ولا خضوع، وإنما جهاد واستبسال، للحفاظ على الأرض، وقتال لليهود أعداء الأنبياء من قبل.
وكلمة حقٌ تُقال في حق أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في غزّة: واللهِ لولا إعدادكنّ العدّة للمواجهة، ووقوفكنّ بإصرار مع الرجال الأشاوس، ولولا تربيتكنّ النموذجيّة للمجاهدين وصناعتكنّ للرجال الحقيقيين، ولولا ثباتكنّ في المحن ومشاركتكنّ الرجل في الجهاد والأسر والشهادة والصبر، لولا كل ذلك، لما استطاع المجاهدون أن يقوموا بما يُمليه عليهم الله جل وعلا والدين والأرض.
والله يا نساء غزّة، إن كانت عزّة الأُمّة في غزّة، فلأنتنّ منبع العزّة في غزّة، فهنيئاً لكنّ بيعكنّ لله جل وعلا، وفي الجنّة تُوفّى الصابرات المجاهدات الصادقات أجورهنّ بغير حساب، وهنيئاً لكن تسطير التاريخ بكل هذا الفخر، بالرغم من ألم الجراح، وتطريزه ببطولاتكنّ المباركة، ولئن أذاقكنّ العدو من الويلات ما يعتقد أنه سيثبطكنّ بها -وقد خسئ-، فعليكنّ بالصبر كما أمركنّ ربكنّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
ألا يكفيكنّ أن الجنان لكنّ تزيّنَت، وأن الله عنكنّ راض؟!
المصدر: سحر المصري - طرابلس - لبنان