ما الهدف الذي يتفق عليه جميع الناس؟
خالد بن منصور الدريس
تطلّبت غرضًا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحدًا، وهو طرد الهم: فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلًا إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم. فمن مُخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مُصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.
- التصنيفات: تزكية النفس -
لطالما نظرت إلى أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي رحمه الله على أنه أخي الأكبر، الذي استمر في توجيهي وإرشادي في مرحلة التأسيس المنهجي والفكري، وفي هذه الآونة أجتاز لحظات فاصلة من عمري أعبر فيها عتبات منتصف العمر (كما يسمى)، وربما لهذه المناسبة هبت نسائم حنين تجتاحني هذه الأيام للعودة إلى بدايات قراءاتي وطلبي للعلم.
وهذا الحنين لعل سببه تطلعي أن أصحّح مساراتي التي طرأ عليها بعض العوج، ولربما تدفعني رغبة دفينة أن أجري مراجعة لنفسي ومقاصدي وغاياتي وأنظر كم تغير منها وكم بقي؟ ولماذا تغيرت وكيف وقع ذلك؟
في خضم ذلك كله عدت قبل أيام لكتاب من كتب ابن حزم التي صاغت وجداني وفكري في مرحلة التأسيس، واسمه: (رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل) وأعدت قراءته، فوجدتني كأني أقرأ نفسي، لقد أُنسيت الكتاب وذهلت عن كثير من معانيه لطول العهد، ولكن جملة كبيرة من الآراء نُقشت في سلوكي الفكري بدون أن أعلم أن ابن حزم (أخي الأكبر) هو الذي أرشدني إليها، فرحم الله أبا محمد كم له من يد بيضاء علي، مع مخالفتي له في مسائل من الأصول والفروع ليست بالقليلة إلا أن فضله علي في المنهجية والتفكير أمر أقر به فلنعم المعلم كان، ولم تذهب تلك العصريات سدى حين كنت أمكث بعد الصلاة الوسطى في المسجد أقرأ في (إحكامه) و(محلاه) ولله ما أحلاه!
في ذلك الكتاب المركزي في تكويني الفكري قرأت كلامًا لأبي محمد، أحببت أن أشارك القراء الكرام في تدارسه لأهميته وعمقه.
يقول رحمه الله تعالى: "تطلّبت غرضًا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحدًا، وهو طرد الهم: فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلًا إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم. فمن مُخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مُصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.
فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء، ويعاقبه عالم الحساب على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئا سواه.
أغراض الناس:
وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه إذ في الناس من لا دين له فلا يعمل للآخرة، وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت، وفي الناس من لا يُريد المال ويُؤثر عدمه على وجوده ككثير من الأنبياء عليهم السلام، ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة، وفي الناس من يُبغض اللذات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المُؤثرين فَقد المال على اقتنائه، وفي الناس من يُؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة، وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها.
مخاوف أهمَت الناس:
وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرده عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم؛ بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له؛ فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة، وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم، وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن نفسه هم فوتها، وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه.
وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب، واكتنز من اكتنز، وركب من ركب، ومشى من مشى وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.
آفات اللذات:
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضًا نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو إختلاس راغب، أو اقتناء عدو مع الذم والإثم وغير ذلك.
ما عداه ضلال وسخف:
ووجدت العامل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدر موصلًا إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم؛ بل يُسر؛ إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب وزايد في الغرض الذي إياه يقصد، ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذًا بذلك فهو غير مؤثر في ما يطلب، ورأيته إن قُصد بالأذى سُر، وإن نكبته نكبة سُر، وإن تعب فيما سلك فيه سُر، فهو في سرور متصل أبدًا، وغيره بخلاف ذلك أبدًا.
فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهمّ، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف" أ.هـ.
يعجبني في ابن حزم: تعلقه بالآخرة مع كونه نشأ نشأة مترفة، وعاش في ظروف ارستقراطية، ومع كل عنفوانه الفكري وذكائه الصلب، تنساب كلماته الزهدية بإضاءات إيمانية روحية وبإيقاع رائع يلتصق بالفؤاد.
ويعجبني فيه: إلحاحه في البحث عن فكرة مركزية يمكن أن ترجع إليها كل رغبات البشر، لقد توصل رحمه الله إلى فكرة (دفع الألم النفسي) التي أسماها (طرد الهمّ)، ولا شك أن الوجه الآخر لها وضدها هو (طلب السعادة)، والتعمق في كلام ابن حزم ينتهي بنا إلى أنه وضع يده على فلسفة عميقة في فهم الدوافع البشرية، فالدافع الجوهري الذي يحرك كل الدوافع الفرعية، هو الفرار من الهم والغم وما يتولد عنهما من حزن واكتئاب وألم نفسي.
وهذا الدافع المركزي الجوهري ليس حسيًا بل هو في الأساس يعود إلى منطلق نفسي وجداني يُثمر مواقف حسية وفعلية. ويقترب هذا الاكتشاف الذي توصل إليه إمامنا المبجل رحمه الله في جزء منه مع مذهب أخلاقي مشهور يقال له (النفعية) بشقيها: الفردية والعامة، ومن أبرز رواده (توماس هوبز) و(بنتام) وغيرهما، وفحواه أن تحقيق المنفعة واللذة وتجنب الضرر والألم هما المحرك الجوهري للإنسان في أعماله وتصرفاته وسائر أخلاقه وقراراته. إلا أن أولئك الفلاسفة قد مضوا بهذه الفكرة إلى شوط أبعد مما قاله ابن حزم، الذي لم تكن ملاحظته إلا خاطرة ذاتية في كتاب يحمل طابع السوانح والتجارب الشخصية، أما فلاسفة النفعية الأخلاقية فقد صاغوا منها نظرية أخلاقية متماسكة لها أبعادها وآلياتها الشاملة وانعكاساتها على الحياة الاجتماعية والسياسية، وهذا هو الفرق بين الملاحظة الذاتية والنظرية العلمية.
ويعجبني في ابن حزم: تطبيقه لمبدأ منهجي مهم وهو (الاقتصاد في الفروض) فلم يوسع دائرة فروضه عندما قام بالبحث والفرز والتفكر في رغبات الناس ودوافع سعيهم، بل وجه اهتمامه كما يظهر من كلامه الآنف إلى البحث عن سبب وحيد تصدر عنه كل الرغبات الفرعية والدوافع التفصيلية، وهذا ما كنتُ أسميته في: (عادات المفكرين في التفكير) بعادة: التجذير والتجريد، وكلام ابن حزم صريح في استعماله لهذه العادة، فقد قام بنوعين من الحصر لغايات الناس وأهدافهم ثم الهموم التي يسعون إلى طردها، فكانت دوافعهم حسب رأيه:
- إرادة وجه الله والعمل للآخرة.
- فعل الخير والسعي لتحقيق الأمن.
- إحراز الصيت والشهرة.
- اقتناء المال.
- الاستمتاع باللذات الحسية.
- طلب العلم والمعرفة.
والهموم التي يسعى الناس إلى الهروب منها وهي أضداد ما سبق، وسأوردها بتسلسل عرضها عند ابن حزم:
- هم الحساب في الآخرة والحرمان من النعيم المقيم.
- هم الفقر.
- هم الإحساس بالدونية أمام الآخرين.
- هم الحرمان من اللذات الحسية.
- هم الجهل.
- هم الوحدة والابتعاد عن البشر والعالم.
وقد عقب بقوله: "وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها".
بعد ذلك سعى ابن حزم إلى الغوص في الجذور رغبة منه في الوصول إلى القدر المشترك أو الخيط الناظم لكل تلك الأغراض أو الدوافع، فوصل إلى الجذر الأصلي وهو (طرد الهم) ولم يقل (طلب الراحة) أو (السعي وراء السعادة وتحقيقها)، بل أكد على أن مسعى الناس ومطلبهم كان سلبيًا يعتمد على النفي والهروب والفرار، ويتمحور حول الخوف من الهمّ، فهم لا يسعون لتحقيق إضافة لحياتهم أو تنمية لذواتهم أو اكتساب شيء جديد يزيد في عمق وجودهم، بل ركز رحمه الله تفكيره على أن الخوف من الهم هو أقوى محرك لأعمال البشر وسلوكياتهم.
وفي نظرنا أن هذا تضييق للفكرة قد يؤثر سلبًا على حيويتها وشموليتها، ولعل العلامة العز بن عبدالسلام كان أكثر عمقًا ودقة وشمولية حين صاغ بصورة أخاذة في أكثر من كتاب له الفكرة السابقة بحيث جعل محور الشرع وغايات البشر منحصرة: في طلب المصلحة والمنفعة واللذة أواجتناب المفسدة والمضرة والسوء، وقدم نظرية أخلاقية في جوهرها وإن كانت فقهية في مظهرها، اتسمت بعمق وجمال يثيران الإعجاب بحق.