[27] سيد الاستغفار
سهام علي
- التصنيفات: تزكية النفس - الحث على الطاعات - الأذكار -
عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي اللَّه عنْهُ عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ: «سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْتَ، منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ» (رواه البخاري برقم [6323]).
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: في قوله عليه السلام: «سيِّدُ الاسْتِغْفار أَنْ يقُول الْعبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ»: "قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيّد الاستغفار، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله، ثم ثناها بتوحيد الإلهية بقوله: «لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ»، ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده ولم يكن شيئاً، فهو حقيق بأن يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه، كما ابتدأ الإحسان إليه بخلقه.
«وأَنَا عَبْدُكَ»: اعترف له بالعبودية، فإن الله تعالى خلق ابن آدم لنفسه ولعبادته، كما جاء في بعض الآثار: «يقول الله تعالى: ابن آدم! خلقتك لنفسي، وخلقت كل شيء لأجلك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له»، وفي أثر آخر: «ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب. ابن آدم! اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء»، فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فقد أبق من سيده، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله: «لله أشد فرحا بتوبة عبده من واجد راحلته عليها طعامه وشرابه بعد يأسه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانه هو الذي وفقه لها، وهو الذي ردها إليه»، وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، وحقيق بمن هذا شأنه أن لا يكون شيء أحب إلى العبد منه.
«وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت»: فالله سبحانه وتعالى عهد إلى عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقه بوعده. أي أنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك. وهذا المعنى قد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، والفعل إيماناً هو العهد الذي عهده إلى عباده، والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك، وهذا لا يليق إلا مع التصديق بوعده، وقوله «إيماناً واحتساباً» منصوب على المفعول له، إنما يحمله على ذلك إيمانه بأن الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به، واحتسابه ثوابه عند الله، أي يفعله خالصاً يرجو ثوابه.
«ما استطعت»: أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي، وفيه دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته، وأنه غير مجبور على ذلك، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة، ولا فعل له البتة، وإنما يعاقبه الله على فعله هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية وغيرهم.
ما استطعت تعبر كذلك عن دين الرحمة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
«أعوذ بك من شر ما صنعت»: فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد وبه، وأن الشر مضاف إلى فعله هو، لا إلى ربه، فقال: «أعوذ بك من شر ما صنعت»، فالشر إنما هو من العبد، وأما الرب فله الأسماء الحسنى، وكل أوصافه صفات كمال، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد هذا قوله عليه السلام: «والشر ليس إليك» في الحديث الذي رواه مسلم في دعاء الاستفتاح.
«أبوء لك بنعمتك علي»: أي أعترف بأمر كذا، أي أقر به، أي فأنا معترف لك بإنعامك علي، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك على نعمتك، وأنت أهل لأن تحمد وأستغفرك لذنوبي. ولذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين: نفساً يحمد فيه ربه، ونفساً يستغفره من ذنبه.
ومن هذا حكاية الحسن مع الشاب الذي كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه، فمر به يوماً فقال: "ما بالك لا تجالسنا؟"، فقال: "إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمداً، وبين ذنب مني يستوجب استغفاراً، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك"، فقال: "أنت أفقه عندي من الحسن".
ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية، وترقى في درجات المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسه، وتواضع لربه، وهذا هو كمال العبودية، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل.