لهذا قتلهم النبي يا بطرس

محمد جلال القصاص

الناس فريقان، عامة وخاصة، أو ملأ (أشراف وسادة) ومستضعفون (عامة
الناس)، أو(متبوعين) و(أتباع )، أو(مستكبرين) و(مستضعفين) كما يسميهم
القرآن. أو(الكَذَبَة) و(الغافلين) كما ينطق لسان الحال، المجتمع
الكافر يتركب من هاذين الفصيلين من خلق الله.

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -


الناس فريقان، عامة وخاصة، أو ملأ (أشراف وسادة) ومستضعفون (عامة الناس)، أو(متبوعين) و(أتباع )، أو(مستكبرين) و(مستضعفين) كما يسميهم القرآن. أو(الكَذَبَة) و(الغافلين) كما ينطق لسان الحال، المجتمع الكافر يتركب من هاذين الفصيلين من خلق الله.

من هم الملأ؟ ومن هم المستضعفون؟ ولم هؤلاء غافلون وأولئك كاذبون؟ وما علاقة ذلك بالرد على بطرس؟

أولا: من هم الملأ؟
الملأ في اللغة هم الأشراف من الناس كأنهم ممتلئون شرفا، قال الزجاج: "سمّوا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه". والملأ أيضا حسن الخلق ومنه الحديث: «أحسنوا الملأ فكلكم سيَرْوى» (خرَّجَهُ مسلم).
والشرع خصص المعنى وجعله دِلالة على نوعية معينة من أشراف القوم وسادتهم وهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، من جحدوا أو عندوا ظلما وعلوا، الذين يتولون الدفاع عن الجاهلية ضد الإسلام وأهله، وفي التنزيل: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف:60]، {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:66]، {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] وهؤلاء قريش مَن بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن قتلى المشركين يوم بدر -أبو جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة-: «أولئك الملأ».

هذا الصنف من الناس يعرف الحق جيدا ثم يقلب الحقائق للناس، يبذل قصارى جَهده ليصد الناس عن دين الله، وهذه بعض المشاهد تصف حالهم.

المشهد الأول:
الوليد بن المغيرة يسمع القرآن ويصفهُ بأحسن الأوصاف: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه"، يقول هذا في نادي قومِه، ويحسب القوم أن الوليدَ أسلم، فمن قبله عدا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقتله وعاد من عنده مسلما.
ولكن الوليد لم يسلم.
ماذا حدث؟
لمَ يقول الوليد هذا الكلام؟!
"الحج قد قرب، وستأتي العربُ إلى مكة ويسمعون لكلام محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم الذي هذا وصفه، فاتفقوا على قولةٍ واحدةٍ تقولوها في محمد صلى الله عليه وسلم ولا تختلفوا فيظهر كذبِكم"، هذا قوله.
جلس هو وأمثالُه من المعاندين المستكبرين الحاقدين على الإسلام والمسلمين.. جلسوا يلفقون تهمة ًللإسلام ولنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.. جلسوا يتشاورون.. يتفقون على كذبه يضحكون بها على عوام الناس، ويعرضون آرائهم والوليد كبيرهم في مجلسهم.. وهو كبير قريش كلِّها يومها، نقول ساحر.. نقول شاعر.. نقول كاهن.. نقول كاذب.. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردُه، ويُسند إليه الأمر: قُل أنت يا أبا عبد شمس نسمع.
ويصمت الوليد.. يجولُ بفكره.. يحاول أن يجد نقيصة في الرسول صلى الله عليه وسلم أو في منهجه، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:18-23].
يحاول.. ويحاول.. وأنّى له؟! فالرجل هو الصادق الأمين، ومنهجه هو هو الذي وصفه منذ قليل بأن له حلاوة وعليه طلاوة...الخ.
ويعجز الوليد عن أن يأتي بنقيصة في محمد أو في دينه، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل، يقول: قولوا ساحر، ثم يُدَلل على قوله وهو كاذب عند نفسه وعند من يسمعونه: ألا ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجه، والابن وأبيه {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ} [المدثر:24-25].
ما ذا يحدث في هذا المجلس؟
الوليد مقتنعٌ بالقرآن، وكذا رفقائهُ، ويجلس هو وهم يلفقون كذبه للرسول وللقرآن كي يصدوا بها عوام الناس عن الدين الإسلامي.
إنهم الملأ.. يعرفون وينكرون.

المشهد الثاني:
يقسم الملأ من قريش أن ما يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الغلام الأعجمي الذين يبيع ويشتري عند الصفا، ثم يُجاء بهذا الغلام فإذا به أعجمي لا يتكلم العربية.. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[النحل:103 ].
والسؤال: هؤلاء القوم وهم يقسمون على أن محمدا صلى الله عليه وسلم يأتي بالوحي من عند هذا الغلام أليسوا كانوا كاذبين عند أنفسهم؟
بالطبع هم كانوا كاذبين عند أنفسهم، ولكنهم فقط يبحثون عن حجة يطفئون بها نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
إنهم الملأ لا همَّ لهم إلا محاربة الدعوة.

المشهد الثالث:
حاول أبو جهل أن يغتال النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في المسجد الحرام، فلما أحبط الله كيده، ورده بغيظه لم ينل خيرا، ففاءَ إلى نفرٍ من سادات قريش كانوا قد وقفوا قريبا منه كي يمنعوه من بني هاشم بعد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين هؤلاء النفر النضر بن الحارث، وقف يخاطبهم قائلا: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
فها هم أولاء وقد اجتمعوا على قتله يقرون بأنه ليس شاعرا ولا كاهنا.. ولا أيا شيء مما يرمونه به.. فلم يعادونه إذا؟
إنهم الملأ يعرفون وينكرون.

المشهد الرابع:
يدخل الملأ من قريش على أبي طالب وهو في مرضه الذي مات فيه، وينادونه خذ لنا من ابن أخيك وخذ لابن أخيك منا حتى لا تسمع بنا العرب، ويعرضون المال، والسلطان، والطب، وكل ما بأيديهم وما يستطيعونه، ويرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يخرجون للناس يكلمونهم بعكس ما رأوه وسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا نزلت الآيات الأُول من سورة ص، قال الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}[ص:4ـ8] هذه الآيات تسرد التقرير الذي قدّمه الملأ لعامة الناس بعد المفاوضات مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي طالب حين حضرته الوفاة، ويرسم الخيالُ مشهدا، كأن ـمن يتكلم من الملأـ يقف على عتبة الدار يصرخ بأعلى صوته.. وكانوا جمعا.. دخل الملأ على أبي طالب يفاوضونه وبقي عامة الناس خارج البيت ينتظرون ما تؤول إليه المفاوضات.. خرج الملأ يستنفرون الناس بالصوت العالي، وكثيرون لا يتدبرون الخطاب وإنما يسيرون مع الجلبة والصياح {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}... خرج يصرخ في الناس متعجبا يدلل على باطله بتعجبه: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}؟!
وما العجب في هذا... بل العجب كل العجب أن جعلتم مع الله الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم يجمع ليوم الجمع لا ريب فيه فإلى جنة أو نار.. آلهةً أخرى!!
وثانية يصرخ متعجبا يدلل على باطله وهو كاذب عند نفسه: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} ؟!.. وما العجب في هذا.. ولو كان غيرُه ما تغير القول..
ثم يصرخ ثالثة يدلل على باطله -وهو كاذب عند نفسه- {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}؟
وهل أتاكم من نذير من قبله، وهل نزل فيكم كتابا من قبل وكنتم تقرءونه؟!
ويصرخ رابعة يدلل على باطله -وهو كاذبٌ عند نفسه- يقلب الحقائق ويتكلم بغير ما رأى من النبي صلى الله عليه وسلم داخل الدار: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي يريد به محمدٌ صلى الله عليه وسلم شيئا.. مالا أو سلطانا.. يكذب على القوم، يكذب وهو يعلم أنه يكذب فقط ليضل قومه، النبي صلى الله عليه وسلم لتوه رفض كل هذا.. عرضوا عليه المال والسلطان وكل ما بأيديهم وما يستطيعونه ورفض رفضا قاطعا، وهذا المتكلم سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لتوه ثم يخرج للناس يكذب عليهم.
إنهم الملأ لا همَّ لهم إلا صدِّ الناس عند دين الله.

والملأ موجودون منذ ظهر الشرك في عهدِ نوحٍ عليه السلامن وفي عجالة أعرض على حضراتكم حال الملأ في القرون الأولى، وغرضي بيان كيف أنهم يعرفون الحق وهم له منكرون.

قوم نوح يجادلون نبيهم عليه السلام فيدحض حجتهم، حتى لا يبقى لهم ما يدافعون به عن باطلهم، الطبيعي بعد هذا هو الإيمان، أليس كذلك؟
ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32]. جودلوا ودحضت حجتُهم، ولم يؤمنوا، العذاب ولا الإيمان، والعياذ بالله.

وقومُ عاد ينادون نبيهم هوداً عليه السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70].
يفهمون الرجل، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين، ثم انظر إلى موقفهم بعد هذا البيان، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود:32] أما أن يؤمنوا فلا، يرفضون الإيمان، ويستعجلون العذاب، نعوذ بالله.

وقومُ ثمود يطلبون الآية فتأتيهم، ثم ماذا؟ هل آمنوا؟ أبداً لا بل عقروا الناقة وقالوا قولة مَن قبلهم: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].

وقوم لوط {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف: 82].
لِمَ يا قوم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]. ألهذا؟!!
والقائلون بقول قوم لوط اليوم كثر، لا كثرهم الله.

وقومُ خليل الله إبراهيم عليه السلام: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:24].

وإن تعجب فمن أهل مدين قومِ شعيب عليه السلام نبي الله شعيب عليه السلام يبلِّغ رسالة ربه فيؤمن بعضهم، ويكفر بعضهم، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة: {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [الأعراف:87]، أفي هذا عيْب؟ ينادي بحرية الاعتقاد ولم يرفع سلاحا ولم يعلن جهادا.
ولكن انظر ما ردّ الملأ: {قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، الموقف من الدعوة ورجالها هو هو، نفس المنطق يتكرر، ولا يكاد يتغير، يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه. وليت الأمر يبقي على هذا فالبلية به -على عظمه- خفيفة، بل يقلبون الحقائق لقومهم، يكذبون على من ورائهم، و يعلنون أنه لا هوادة، ولا مقام مع الحق وأهله.

هذا هو منطق الملأ في كل مكان وزمان، وفي سورة إبراهيم دليل يقطع بذلك، في أول السورة تنقل الآيات نبأ الذين من قبلهم -من قبل قريش وكفار هذه الأمة- قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، فلم تبق منهم أحدا، تنقل حالهم مع رسلهم وكأنهم نفر واحد في كل الأزمنة والأمكنة، ثم تنقل الآيات على لسان الكافرين جميعا قولة واحدة، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13] مفاصلة تامة.
وقد قال الله عنهم في موضع آخر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123].
 


المسألة الثانية: لماذا يكره هؤلاء الدعوة؟

قضية الملأ هي السلطة لمن؟
لهم بقوانينهم وأعرافهم؟ أم لله في شكل شريعته التي يطالب بها النبي والمصلحون؟
هذه هي قضيتهم الأولى، ولذا هم لا يقبلون الدعوة أبدا لأنها تنزع من أيديهم السلطة، وهذا بيِّن جدا في مواقفهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد أنبياء الله كلهم، وهذه بعض المشاهد كشواهد.

المشهد الأول:
في كتب السير أن عتبة بن ربيعة قال: "يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا -وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون- فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِطَة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الوليد اسمع قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال فاسمع مني قال: أفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:1-3] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها فلما سمع بها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلفه -أو خلف ظهره- معتمدا عليهما ليسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت قال: فأنت وذاك، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلسوا إليه قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم" انتهت الرواية.

التعليق: القضية التي تشغل عتبة ليست الإيمان بالله وإنما الظهور والغلبة.. والسيادة، يقول: "فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به".

المشهد الثاني:
(تروي كتب السير أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الأخنس بن شريق) أ. هـ

التعليق: المشكلة عن أبي جهل هي لمن تكون السيادة والشرف. (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه). والمشهد القادم يؤكد هذا الاستنباط.

المشهد الثالث:
في كتب السير أن المغيرة بن شعبة قال: "إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فقال والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة فقلنا نعم ثم قالوا فينا السقاية فقلنا نعم ثم قالوا فينا الندوة فقلنا نعم ثم قالوا فينا اللواء فقلنا نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله لا أفعل".
قضية الشرف والزعامة هي التي تعنيه، وهي التي تمنعه من إتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حظ أنه يكذب، ولا يستحي من ذلك، وسأعود إلى هذه بعد ذلك إن شاء الله ونحن نتكلم عن مكر الملأ.

المشهد الرابع:
تحدث الوليد بن المغيرة يوما وهو بين أصحابه قائلا: "أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين؟!! فأنزل الله تعالى فيه فيما بلغني: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 ـ 32]، وهذا المشهد أيضا يشهد على أن قضية الملأ الأولى هي الزعامة.

المشهد الخامس:
في البداية والنهاية لابن كثير ج3/65 أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبى جهل وأبى سفيان، وهما جالسان، فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس. قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي! فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل. فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهما فقال: «أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للأصل، وأما أنت يا أبا الحكم، فو الله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا». فقال أبو جهل: بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك.

التعليق: أبو جهل ينسب النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، ويعجب أن يكون النبي (المتبوع) (الآمر الناهي) غلام من بين الشيوخ، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاص ببني عبد شمس، ولكن أبا جهل قد علته العصبية القبلية وهو يجاري بني عبد شمس كلهم كما صرح بذلك في مواقف أخرى، وأبو جهل يعجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غلاما، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم غلاما، كان قد تجاوز الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم ولكن أبا جهل حقد عليه إذ لم تكن له الرياسة فراح يرمي بحجة.. أي حجة.
ولاحظ أن أسلوب التصغير المنطوي على الكبر في قول أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم (يا ابن أخي) علما بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عمر أبو جهل.

المشهد السادس:
مسيلمة الكذاب حين وفد على النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتكلم في رحله بين قومه قائلا: إن جعل لي محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) الأمر من بعده تبعته، وكتب بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: إن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريش قوم لا يعدلون.
التعليق: مسيلمة من (الملأ) ؛ (سيد) من (سادات) بني حنيفة، كل ما يعنيه أن تكون له الإمارة على الناس.. أن يكون هو صاحب الأمر والنهي يقول: "إن جعل لي محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) الأمر من بعده تبعته".

المشهد السابع:
بعد أن كتب الله الغلبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وفتح مكة وتوافدت عليه العرب تعلن إسلامها، شكّل نصارى نجران وفدا من ستين رجلا، ولما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة -أُسقفهم وحَبْرُهُم الأول- على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له كُرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كُرز: تعس الأبعد -يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.
فقال كُرز: ولم يا أخي؟
فقال أبو حارثة: والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره.
فقال له كرز: فما يمنعك من إتباعه وأنت تعلم هذا؟
فقال أبو حارثة: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.

القضية عند أبي حارثة هي الشرف وما فيه من نعيم الدنيا، وأبو الحارثة هذا راح يجادل النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبه في دعوى النبوة، جادل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد في جداله حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وددت لو أن بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني»من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم، يجادل وكأنه صاحب حق، يجادل وهو يعلم أنه كاذب، يجادل عن باطل، يجادل كي يبقى على ما فيه من نعيم الدنيا، إنه الحرص على الشرف، همُّ الملأ الأول.
 

المشهد الثامن:
المقوقس ملك مصر قال لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: "إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر".
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك".
وكان تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحال المقوقس هو: «ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» .
ذاتُ القضية.. المُلك.. السيادة.

المشهد التاسع:
هرقل عظيم الروم كان ممن لهم علم بالكتاب، وكان يعلم أنه قد بقي نبي، وأنه يخرج في هذا الزمان، وحين وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم راح يسأل ويستخبر حتى استيقن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأبي سفيان: "إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي"، وحاول بالفعل أن يدعو قومه للإسلام، فدعاهم وغلّق عليهم الأبواب ثم ناداهم: "يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه" وحين رأى نفرتهم (لَحَسَ) قوله وضنَّ بملكه، وكفر بما قد علم. فلعنة الله على الكافرين.

المشهد العاشر:
القائمون على أمر النصارى عموما، وزكريا بطرس خصوصا من هؤلاء الذين يعرفون الحق وهم له منكرون، ويستدل على ذلك بكذبه على قومه، لماذا يكذب؟ هل اشتبه عليه الأمر؟ وإن كان -وهو بعيد جداـ فلم لا يرجع بعد أن بينا له؟! إنه كالملأ الذين لا همَّ لهم إلا محاربة الدين، إنه كغيره ممن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}[الفرقان:31].

وأخيرا فيما يتعلق بهذه المشاهد:
بتتبع حال الملأ مع الأنبياء عليهم السلام، تجد أن قضية الملأ واحدة لم تتغير، فرعون وقومه:
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 45 ـ 47 ].
القضية عند فرعون وقومه هي لمن يكون السلطان في الأرض؟ لهما أم لبني إسرائيل؟
يدل على هذا ما جاء في سورة يونس على لسان فرعون: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] فالكبرياء هنا تعني السلطان.
وقوم نوح {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}[الشعراء:111] والمعنى كما يقول القرطبي في تفسير الآية: (أَنُؤْمِنُ لَك نَحْنُ وَأَتْبَاعك الْأَرْذَلُونَ فَنُعَدّ مِنْهُمْ) ولم يكن أتباع نوح عليه السلام من الأرذلين، وإنما هم الملأ يلقون بأي حجة كي لا يتبعون.
يقول القرطبي رحمه الله معللا عدم إتباع الأشراف للرسل (قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم; فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا).
وفي جملة واحدة يقول بن كثير: (وَالْغَالِب عَلَى الْأَشْرَاف وَالْكُبَرَاء مُخَالَفَته كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارهمْ مُقْتَدُونَ} ). و(مترفوها) رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافهمْ.. قَادَتهمْ وَرُءُوسهمْ فِي الشِّرْك.



المسألة الثالثة: كيف يحارب هؤلاء الدعوة؟


مما مضى تبين لنا أن الملأ هم حراس النظام، أو هم المستفيدين من الوضع القائم قبل مجيء الدعوة الإسلامية، وأن قضيتهم الأولى هي أن تبقى لهم السيادة.. الأمر والنهي.. الطاعة من الناس، ولذا تجد أن الثابت عند الملأ هو الحفاظ على واقعهم.. نظامهم.. سلطانهم.. وما عدا ذلك متغير يتم تحريكه وإقصائه إن أثَّرَ سلبا على نظامهم، فهم يستعملون كل ما بأيديهم للحفاظ على واقعهم.. نظامهم، ولا يثورون إلا على من يسعى لتغيير واقعهم، ولعل النقطة التالية تبين الأمر:

حال الجاهلية مع الطيبين:
كانت الجاهلية تحب الحبيب محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ تحبه وهو لا يعكف على أصنامهم، ولا يشهد مشاهدهم، ولا يستقسم بأزلامهم... تحبه وهو يفيض في الحج من عرفة لا المزدلفة مثلهم، تحبه وهو يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء، و حين قال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" سَبُّوه وآذوه وفي الشِّعْبِ حاصروه، ثم أخرجوه وقاتلوه.
و(ورقة بن نوفل)، ونفر آخر من الحنفاء كانوا بين ظهرانيهم يتكلمون بأنهم مخطئون لا يتبعون حقا، ولم يتعرضوا لهم بشيء اللهم إلا (زيد بن عمرو بن نفيل) حين أخذ يأمرهم وينهاهم وكلوا به عمه -وأخيه لأمه- الخطاب بن نفيل (أبو عمر رضي الله عنه) فحبسه في إحدى الشعاب كي يكف (أذاه) عن قريش.
وصالح عليه السلام يناديه قومُه {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا} [هود:62] ومعلوم أن صالحا عليه السلام لم يكن مرجوا لمشاكلته قومه وإنما لحسن سيرته بينهم... أحبوا صدقه وأمانته وحسن فعاله، وحين تكلم بالرسالة راح رجاءهم وجاء تهديدهم وتكذيبهم. { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ* فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [القمر:23ـ25].
وموسى عليه السلام تربى في قصر فرعون، وبالطبع لم يكن على دين فرعون، وما آذاه فرعون ولا سعي في قتله حتى تكلم بالرسالة فكان ما كان.
وهذا حال الأنبياء جميعهم، فالصحيح عند أهل العلم أن العصمة ثابتة لأنبياء الله قبل وبعد البعثة النبوية. ومع ذلك لم تبدأ العداوة بين نبي وقومه إلا بعد أن بدأ يتحرك لتغير واقع الجاهلية.
فالجاهلية ما كانت تعبأ بشخص صالح، وإنما بشخصٍ مُصلح. بل هي تفرح بالصالحين المنشغلين بأنفسهم... تنظر إليهم بعين الاحترام والتوقير... ترجوهم وتخلع عليهم أرفع الألقاب -الصدق والأمانة مثلا- أما حين يتحركون لتغير الأوضاع في المجتمع حينها تشتد الجاهلية وتتنكر لكل معروف عندها قبل غيرها، وتبذل كل جهدها في الحفاظ على مجتمعها.
فرعون ينادي في قومه:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. والدين هو الحال ُ التي يكون عليها القوم، يقول بن كثير في تفسير الآية: "يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلّ مُوسَى النَّاس وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتهمْ".
فأخشى ما يخشاه فرعون هو أن تتغير عادات القوم وتقاليدهم.

وتدبر هذا الموقف من قوم نبي الله لوط عليه السلام حين أراد أن يغير مجتمعهم القذر أنظر بما أجابوه قال الله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:54ــ 56].
ونبي الله شعيب لم يحمل سلاحا ولم يعلن جهادا على الكفر وأهله بل أخذ بمبدأ المسالمة والتغيير بالكلمة {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائفة لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87].
ولكن الجاهلية لا تطيق كل محاولات التغيير حتى التي لا تتبنى مبدأ القتال سبيلا للتغير: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا...} [الأعراف:88 ].
فمنطق الجاهلية مع كل الحركات الإصلاحية الجادة: "لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا" هذا هو قول جميعهم كما يحكيه ربنا تبارك وتعالى على لسان كل الجاهليات من يوم كانوا إلى حين نزول القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13].
هذا هو منطقهم جميعهم -قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم- كما نصت الآية السابقة لهذه الآية... لم تستثن الآية أحدا.

أردت أن أقول:
ـ إن الجاهلية مجتمع ذو عادات وسلوك، يقوم عليه نفر من الناس.. من يسميهم القرآن الكريم بـ (الملأ)، وهي تحافظ على مجتمعها وسلوكها ضد كل محاولات التغيير. وهي تتنكر لكل الأعراف والقوانين التي سنتها هي لتسير عليها حين ترى في الأفق بشائر التغيير. وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه لا بد من المواجهة بين الجاهلية وكل حركات التغيير الجادة، وأن (القنوات الشرعية) ضيقة مسدودة لا يمكن الوصول منها إلى المجتمع الصالح الذي يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالجاهلية تقف غير بعيد تخاطب السائرين في (القنوات الشرعية) وغير (الشرعية) بما قالته كل الجاهليات من قبل "لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا" وحينها إما أن تسييس حركات (الدعوة السلمية) التي تسيير في قنوات الجاهلية الشرعية وبالتالي تسلك السبل التي تضلها عن الصراط المستقيم فتتبنى خطابا مَدَنِيّا، وتراعي حق (الآخر) الذي لا يرضى أبدا أن يكون مواطنا من (الدرجة الثانية) كما أمر الله ورسوله، والذي يطالب بمساحة واسعة من حرية إقامة الكنائس و(التبشير) بكفره بين أظهر المسلمين. وإما أن تتصادم مع الجاهلية وتقف في وجهها.
هذا هو ما يقوله تاريخ الصراع بين الحق والباطل منذ تحرك ركب الإيمان... من نوح إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.

والحال اليوم هو هو بأم عينه، فالصالح في نفسه الذي أغلق عليه باب داره، وترك مال كسرى لكسرى ومال لله لله، تحمله الجاهلية على رأسها. و (المشاكس) الذي لا تتعدى مشاكسته (القنوات الشرعية) تتفهم الجاهلية أحواله ولا تصطدم معه إلا حين يخرج من (القنوات الشرعية) كما كان الحال مع الحنفاء (ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث)، وفقط يكون صدامها معه من أجل ضبطه وحمله على عدم الخروج من (القنوات الشرعية).
بل أحيانا -وتدبر معي- تكون هذه النوعية من الصالحين في أنفسهم التاركين لغيرهم نوع من الدعامات أو قل من الحُلِي التي تتزين بها الجاهلية، فهي أحيانا تدعي التسامح والحرية ومراعاة شعور (الآخر) وتستدل على ذلك بوجود هذا النوع من الطيبين بين أظهرها.



يعود السؤال: كيف يحارب الملأ الدعوة؟
الملأ يستخدمون كل وسيلة للحفاظ على واقعهم (نظامهم)، ولا يتحركون ضد أحد إلا حين يتهدد نظامهم، وهم يستعملون كل وسيلة لذلك. ويمكن إجمال الطرق التي يستعملها الملأ في محاربة الدعوة في محورين أساسيين:
المحور الأول: محور خاص بالمخالفين (أتباع الدين الجديد) الخارجين على نظامهم. وفي هذا المحور وسيلتين يستعملهما الملأ:
i. محور أمني (التخويف).
ii. ومحور اقتصادي (التجويع ).
iii. التشهير بأهل الحق وإلحاق النقائص بهم، وهذا يشترك مع ما بعده.
iv. مجادلة بالباطل.. طرح شبهات وتساؤلات حول المذهب الجديد.

المحور الثاني: محور خاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد، مَن لا زالوا على كفرهم.. (مذهبهم).. (تحت نظامهم) يأتمرون بأمرهم.
ويأتي على رأس هذه الوسائل (المكر) (الكيد) (تزيين الباطل) للأتباع، وباقي الوسائل المستعملة هناك مع المخالفين حاضرة، إذْ أنها قائمة لكل من خالف أمرهم، وخرج على سلطانهم.
 

أولا: المحور الأول الخاص بمن تمردوا على الملأ ورفضوا سلطانهم، يستعملون ضدهم التجويع (الحصار الاقتصادي) والتخويف (التهديد الأمني) و(التشهير) بهم وإلصاق النقيصة بشخصهم إن كانوا شرفاء أصحاب جاه بين الناس، ويقيني بأن الشواهد على هذا حاضرة في ذهن كل من يقرأ كلامي هذا، فهذا الأمر هو الذي يلحظه كل أحد يقرأ السيرة النبوية، وهذا هو الذي يتكلم عنه كل من أراد أن يتكلم عن الفترة المكية في البعثة المحمدية، وأستحضر بعض الشواهد المجملة من باب التذكير.

خير شاهد على هذا قَوْلَةَ أبي جهل التي يرويها ابن هشام وغيره، (أن أبا جهل كان إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة أَنّبَهُ وأخزاه وقال له تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، وَلَنُفَيّلَنّ رأيك، ولنضعنَّ شرفك؛ وإن كان تاجرا قال والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به).
وعَقَدَ ابنُ هشام فصلا أسماه (ذِكْرُ عُدْوَانِ المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة) وقال تحته: "ثم إنهم عَدَوْا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر" أ. هـ.
ومشهور ومعلوم في السيرة النبوية أن المشركين كانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم ـ يتصنعون ذلك {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}[الفرقان:41]، ومن أتباع النبي ـصلى الله عليه وسلم يقولون تبعه العبيد والفقراء وغير ذلك، وهو دأبهم في كل زمان ومكان{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111].

ونلاحظُ في تعاملِ الجاهليةِ مع الدعوةِ هو أن الأسلوبَ كان يتصاعدُ مع نمو الدعوةِ، فقد كان الأمرُ في بدايتهِ إهمالا.. لم يتلفتوا إليه وهو يتحنث الليالي ذوات العدد في الغار، ولا حين بدأت الدعوة سرية، ثم حين جاهرهم كان الرد كلاما، ومحاولةً للوصولِ إلى حلٍ وسطٍ،، وكانوا يراعونَ الأعرافَ القبليةَ، ثم حين لم يُغنِ هذا طوَّرت الجاهليةُ أساليبها وتنكرتْ لأعرافها، وعذبت أبنائها بل وقاتلتْهم وقتلتهم، وهي التي تقول: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)!!!
ولستُ هنا معنيا بتتبع الأمثلة وحصرها وإنما ببيان السياق العام الذي تتحرك فيه الجاهلية.. أبين عِلل الأفعال، وخلفيات النفوس بما يبدوا من تحركات أصحابها.

ثانيا: بخصوص المحور الثاني الخاص بمن لم يتبعوا الدين الجديد، من لا زالوا على كفرهم (مذهبهم) ..يأتمرون بأمرهم، قلتُ أن أولى الوسائل المستعملة في صدِّ الأتباع عن دين الله هو (المكر) و(الكيد) و(الخديعة)، يمارسها الملأ في حق أتباعهم؛ فخطاب الملأ لأتباعهم يأخذ شكل التنظير لباطلهم، نوع من الحجج والبراهين يلقون بها لأتباعهم كي يبقونهم على ما هم عليه، ونوع من التشهير والتشويش وإلصاق النقائص بالمخالفين الرافضين كي ينصرف الناسُ عنهم.
يدل على هذا -ويوضحه- الحوار بين الفريقين حين يلتقيان بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، وتدبر:
يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:31 ـ 33].
الآيات تتكلم عن مكر الملأ بأقوامهم، و(المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة) يحاول الملأ التبرؤ من تهمة صد أتباعهم عن الهدى بعد إذ جاءهم، ويكون رد العوام.. الذين اتبَعوا... الذين استضعِفوا.. ({بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا وتغرونا وتمنونا وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء) ويتابع ( {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً}أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهاً وأشياءً من المحالِ تضلونا بها).
ويقول السعدي رحمه الله معلقا على قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} : (أي: بل الذي دهانا منكم، ووصل إلينا من إضلالكم، ما دبرتموه من المكر، في الليل والنهار، إذ تحسنون لنا الكفر، وتدعوننا إليه، وتقولون: إنه الحق، وتقدحون في الحق وتهجنونه، وتزعمون أنه الباطل، فما زال مكركم بنا، وكيدكم إيانا، حتى أغويتمونا وفتنتمونا).

فالملأ بالاحتيال والخديعة يُغرون ويُمَنُّون ويحسنون الكفر ويَدْعون الناس إليه، وهذا ما يعنيني هنا، وهو بيان أن الملأ يكذبون على قومهم، بيان أن من أساليب الملأ في محاربة الدعوة هو التوجه بخطاب (فكري) لأتباعهم يصدونهم به عن الحق. وهذا واضح جدا في كل المشاهد التي يحكيها القرآن عن الأتباع والمتبوعين حين يتواجهون بين يدي الله عز وجل.

في سورة (ص) يقول الله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَار * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:59 ـ 63].

فهنا الأتباع يلقون بالتبعة على (الملأ)، ويقولون لهم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} (يعنون: أنتم قدمتم لنا سكنى هذا المكان، وصلي النار بإضلالكم إيانا، ودعائكم لنا إلى الكفر بالله، وتكذيب رسله، حتى ضللنا بإتباعكم، فاستوجبنا سكنى جهنم اليوم).

وفي موضع آخر، يقول الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
({قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} أي أخراهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعين لأنهم أشد جرما من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل).

وفي سورة الصافات يقول الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:22ـ34].
فهنا يحشر الذين ظلموا وأزواجهم -شبهائهم ونظرائهم- وما كانوا يعبدون من دون الله، ويدور الحوار بين الأتباع والمتبوعين، يقول الأتباع لأسيادهم {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}أي: (من جهة النصح.. مجيء من إذا حلف لنا صدقناه).

أقول: جميع مواقف العتاب بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين في يوم القيامة وفي النار -عياذا بالله- يتكلم فيها الأتباع عن مكرٍ مكره الملأ عليهم.. عن كيد كادوهم به، والكلام على حقيقته لا نعلم له صارف.

والقرآنُ يتحدثُ عن أن الملأ يكيدون كيدا، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}[الطارق: 15] لاحظ يؤكد الفعل بالمفعول المطلق، ويكيدون كيدا تعني (يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن).

والشيطان وهو المتبوع الأول لكل من خالف الحق يقول لأتباعه يوم القيامة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، أي (نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم، فاستجبتم لي وإتباعا لأهوائكم وشهواتكم).

هذا هو حال الملأ في صدهم عن سبيل الله حين يتكلمون إلى متبوعيهم، ولعل هذا يوضح قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
في كل أمة الكافرون يقاتلون {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}في ذات الوقت الذي يجادلون فيه بالباطل لإزالة (دحض) الحق {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}.
مع المؤمنين قتال ودفع بكل ما في أيديهم ومع قومهم جدال بالتي هي أحسن، وقد تتداخل الأساليب وتتبدل، فتجدهم أحيانا يرهبون قومهم ليبقوا على ما هم عليه، وتجدهم حينا يجادلون المؤمنين ليشككوهم.
 


المسألة الرابعة: من هم المستضعفون؟


هم القسم الثاني من الناس في تركيبة الجاهلية التي واجهها الإسلام ويواجهها كل الدعاة، هم (المستضعفون).. (الأتباع).. (أخراهم).. وهذه كلها مصطلحات شرعية وصفهم بها القرآن الكريم في الآيات التي مرت بنا، وهي أوصاف لأحوالٍ مختلفة تبدوا عليهم، فهم (مستضعفون) فيما يبدو لنا ليست بأيديهم أسباب القوة، وهم (أتباع) يُؤمرون فيأتمرون، ويُنْهون فينتهون، وهم (أخراهم) يدخلون النار بعد أسيادهم، يتقدمهم أسيادهم وهم يأتون بعدهم متأخرين عنهم. وهم (العامة) وهم (الجماهير) في مفهوم (مثقفي اليوم).
والمفسرون يفسرون كل واحدة من هذه بالأخرى فعند ذكر المستضعفين -مثلا- يقولون (الأتباع)؛ وهي أوصاف متعدد تدل على أعيانهم ويفهم منها السامع حالهم والمراد من ذكرهم.



المسألة الخامسة: لماذا يقبل العامة خطاب الملأ، ولا يرفضوه كما رفضه من خالف الملأ وجلُّهم من العامة، إذ أن أتباع الأنبياء من الفقراء والضعفاء؟

ليس كل العامة لم يقبلوا خطاب الوحي، وليس كل الملأ لم يقبلوا خطاب الوحي، فقد أسلم أبو بكر وأسلم عمر وأسلم الحمزة، وأسلم سعد وأسلم عثمان، وأسلم كثير من الضعفاء. ولكن فصيل من الملأ لم يقبل وجمهرة من (العامة) لم تقبل. والسؤال لماذا لم يقبل مَن لم يقبل من (العامة) خطاب الوحي؟

الإجابة في الآيات السابقة التي تحكي ما يدور بين (الأتباع) و(المتبوعين)، تحديدا في إجابة (المتبوعين) (الملأ) على هؤلاء الضعفاء، يقولون لهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32].
{بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} أي (مشركين مصرين على الكفر) (منعكم إيثاركم الكفر بالله على الإيمان من اتباع الهدى، والإيمان بالله ورسوله)، (خالفتم الأدلة والبراهين والْـحُجج التي جاءت بهم الرسل لشهوتكم واختياركم) كنتم (مختارين للإجرام، لستم مقهورين عليه، وإن كنا قد زينا لكم، فما كان لنا عليكم من سلطان).
وفي سورة الصافات: {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:29] (تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان)؛ ويتضح حالهم من جواب الله لهم حين يدعون بتضعيف العذاب على رؤسائهم في الدنيا بعد أن يتلاوموا وهم في النار، قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
الآية تخبر بأن للأتباع ضِعف من العذاب كما أن للمتبوعين ضعف من العذاب، وهي مشكلة في عقل كل عجول، يحلها شيخ الإسلام بن تيمية بقوله (..فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه؛ لكن قدرته بالدعاء والأمر وقدرة الفاعل (الأتباع) بالإتباع والقبول.... ومن هذا الباب قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67-68]. وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفا من العذاب، ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف، ويقول في موضع آخر: (والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله: إما أن يتبع الظن؛ وإما أن يتبع هواه وكثيرٌ يتبعهما).

فالذي يتضح من مراجعة أقوال المفسرين وما تكلم به شيخ الإسلام عن المقلدين من الكافرين والمبتدعين، ومِن تدبر المواقف في السيرة النبوية أن مكر الملأ يصادف هوىً في صدر العامة، ولذا يتبعوهم، فبمراجعة السيرة النبوية وتدبر المواقف والأحداث نجد أن العامة هؤلاء أقسام.



المسألة السادسة: كيف يحارب هؤلاء الدعوة؟


الحقيقة أن (الجماهير) ـالعامةـ لا تصارع ولكنها ميدان للصراع بين الحق والباطل.. بين القائمين على الحق والقائمين على الباطل؛ فمن الثوابت التاريخية أن الجماهير لا تُسطر التاريخ، ولا تَصنع الحدث، وإنما يُصنع بها الحدث، وتُساق الجماهير بالملأ -أو النخبةـ لأمر قد لا تريده هي، ويكون عكس ما تحركت إليه، وسَرقة مجهود الجماهير، أو سياقة الجماهير صناعة يُتقنها كثير من الـمُغرضين. وقد مرَّ التاريخ بأمثلة كثيرة على ذلك، وجُلّها من واقعنا المعاصر، فحرب (العامة) للدعوة في مهدها الأول كان بتكثير سواد الكافرين، وبطاعتهم، هم يطيعون لشهوة في قلوبهم، لتحقيق أغراض خاصة، أمنية أو تتعلق بتحصيل الرزق واللذات البدنية، وهذا أمر ليس بالهين، فهم الذين يسخرون، وهم الذين يروجون الشائعات، وهم الذين تنتشر بهم الفاحشة هنا وهناك، هم ميدان السباق وأدواته -والملأ هم الذين يستعملونهم-؛ قد يكون الفرد من (العامة) لا وزن له في مجريات الأحداث، ولكن جملة العامة وزنهم ثقيل جدا، ولولاهم ما استطاع الملأ شيئا، فهم كما يقول ابن القيم (حميرهم ودوابهم) وأنى السير الطويل بلا دواب أو حمير؟

وهذا حالهم فما العلم معهم؟
مع وجود هذا الفصيل من الناس لا يمكن أبدا أن تسيرَ الدعوةُ بشكلٍ صحيح، لا يمكن أبدا أن يفهمَ الناسُ الحق. ذلك لأنهم هم يتكلمون لقومهم بغير الحقيقة.. كما بينّا من قبل، وتكون لهم الغلبة والسيطرة على الناس، فيمنعون عنهم الدعوة، أو يمنعون الدعوة أن تصل بمفهومها الصحيح للناس، كما يحدث من بطرس الآن.
أسأل: وهذا حالهم فما العمل معهم؟
من يتكلمُ بكلامٍ يعرف هو قبلَ غيره كذبه. ما العمل معه؟
من يتكلمُ بكلامٍ غيرِ معقولٍ ما العمل معه؟
من يكذب وهو يعلم أنه يكذب ما العمل معه؟
نحاوره؟.. نبين له؟
هو يعرف أنه كذاب.. هو يتعمد الكذب.. هو يعرف وينكر... هو يثير الفتنة بين الناس بتساؤلاته.. هذا الصنف من الناس لا يريد بيانا أصلا.. هذا الفصيل من خلق الله لا دواء له إلا القتل، ولهذا الفصيل من الناس شرّع الله الجهاد.
السياق العام الذي جاء فيه تشريع الجهاد في الإسلام.. هو إزالة العقبات من طريق الدعوة... إزاحة الملأ من طريق الناس.. ثم يضع الناسَ أمام خيار حقيقي... يعرض عليهم الصورة كما هي.. لا كما زيفها الملأ الكذابون.. يزيح الملأ ثم يخير الناس خيارا حقيقا {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29]، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، وغالبا ما يؤمن الناس؛ ذلك أن عامة الناس عبيد من غلب، عامة الناس لا تتدبر الخطاب وإنما تتبع أسيادها ومن يترأس فيهم، أو تبحث عن ثقة وتتبعه. أو تخاف على رزقها فتتبع أسيادها.
 

فهنا نقطتان:
الأولى: أن هدف الجهاد هو إزالة الملأ من حياة الناس.. إزالة العقبات من طريق الدعوة ثم وضع الناس أمام خيارٍ حقيقي، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، وهذا قول الله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29].
الثانية: أن عامة الناس عبيد من غلب، عامة الناس لا تتدبر الخطاب الدعوي وإنما هي مع من غلب. لذلك حالَ سيطرة الملأ عليهم، لا يتدبرون، أو يفقهون ولا يستطيعون أن يتبعون.

الجهاد وسيلة من وسائل الدعوة:
لم يكن الجهاد في الإسلام لشيء.. أي شيء غير الدعوة إلى الله.. غير إزاحة الملأ الذين استكبروا في الأرض بغير الحق ومن ثم عرض الإسلام على الناس، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وشواهد ذلك من السيرة النبوية كثيرة، أذكر هنا بعضها.
- النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن غلب سخينة (قريش) ماذا فعل بها؟
منَّ عليهم بالفداء، لماذا؟ لأن الإبادة ليست مقصدا أبدا.
- والنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هزم هوازن وأخذ نسائهم وأموالهم رد عليهم نساءهم وأموالهم طمعا في إسلامهم وقد أسلموا بالفعل، لماذا؟ لأن الإبادة ليست مقصداً أبدا.
- والنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هزم بني المصطلق وساقهم إلى المدينة المنورة، منَّ عليهم بالفداء فأسلموا جميعا، الإبادة ليست مقصد أبدا.
- وثمامة بن أثال -سيد من سادات بني حنيفة في نجد- بعد أن غلبه وأسره وربطه في المسجد ولو شاء قتله، منَّ عليه بالفداء فأسلم، لماذا؟ القتل ليس هو المقصد أبدا.
- وطيء بعد أن غلبهم وأخذهم ونسائهم وأموالهم وأطفالهم منَّ عليهم بالفداء، لم؟
المالُ والنساء ليسوا مقصدا، والإبادة ليست مقصدا أبدا.

- ولمَ أسلمت هذه الشعوب بعد أن غُلِبَت؟
رأت الأمر على حقيقته.
بنو طيء عادوا يقولون جئنا من عند أكرم الناس -صلى الله عليه وسلم-، وعَدِي حين جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم عاد يقول ما هذا بملك؟ واستوت عنده الصورة على حقيقتها بعد أن كانت مقلوبة مشوشة.
ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط الأسرى بالمسجد أو على باب المسجد ليشاهدوا الصلاة ويسمعوا القرآن. حدث هذا مع ثمامة، ومع بني المصطلق، ومع أسارى طيء، وتتبع التاريخ.. تاريخ الفتوحات الإسلامية، تجد أن الفتوحات الإسلامية، الجهاد في الإسلام لا يستهدف إبادة الشعوب، ولا يستهدف قتل العوام وأخذ أموال الناس ونساءهم كما يفتري النصارى وغيرُهم اليوم، وإنما يستهدف إزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية. وعامة الناس فقط حين ترى المسلمين المستمسكين بدينهم المجاهدين في سبيله وتعاشرهم، فإنها تسلم من فورها، تنتهي غفلتها عن هذا الدين، وينتهي الكذب الذي يمارسه الملأ ليصدوا الناس عن دين الله، فيسلمون لله رب العالمين. والدين متين يتمكن من القلوب حين يعرض عليها.
هذا هو سياق تشريع الجهاد في الإسلام.
ونحن المسلمين نعتقد أن الإسلام رسالة يجب أن يسمعَها كلُّ الناس، يسمعونها سماعا حقيقيا، وأن الشريعة الإسلامية شريعة حق يجب أن تحكم كلَّ الناس.
النصارى يدندنون دائما حول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل بعض الشخصيات دون قومهم.. ابن أبي الحقيق اليهودي.. كعب بن الأشرف اليهودي، وعصماء بنت مروان.. وأم قرفة.. وعقبة بن معيط الأموي القرشي.. والنضر بن الحارث العبدري القرشي.. ومن أمر بقتلهم يوم الفتح، من قتل منهم ومن تاب قبل أن يقتل.


نلاحظ أيها الأحبة الكرام، أن القتل لم يكن هدفا كما قدمنا، وإنما كانت الدعوة هي الهدف، ولم يصدر أمر بإبادة قبيلة كاملة.. ولم يصدر أمرٌ بقتل النساء والأطفال.. أبدا لم يحدث هذا، وإنما أفراد.. فقط أفراد، هؤلاء الأفراد اشتهروا بالمحاربة.
والاشتهار بالمحاربة هي العلة التي من أجلها أهدر رسول الله صلي الله عليه وسلم دماءَ تسعة من المشركين في فتح مكة يوم الفتح رغم عفوه عن جميع المشركين، وهي العلة التي من أجلها قتل من قتل من رؤوس المشركين.. النضر، وعقبة، وكعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق.
وتتبع الشخصيات التي تم قتلها تجدها من هذه النوعية؛ ممن اشتهروا بالمحاربة، من الذين يَعرفون ويصدون عن سبيل الله.
النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ -قرشي من بني عبد الدار بن قصي بن كلاب- من أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه ابن هشام: "كان مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وكَانَ َمِمّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ"، قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَتَعَلّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ واسبنديار، وكان النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذا جلس مجلسا يأمر الناس فيه بعبادة الله ويذكرهم بحال من عصوا قبلهم ماذا فعل الله بهم ومن أطاعوا كيف كان حالهم يأتي هذا الشيطان ويجلس بعد النبي وينادي في الناس: "أَنَا وَاَللّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ فَهَلُمّوا إلَيّ فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ"، ما هذا؟
حرب إعلامية، يذهب إلى فارس يتعلم.. ويجيء يحكي ويشوش إعلاميا على الدعوة ورجالها.

أبو جهل أقسم إن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد بين ظهرانيهم أن يضرب رأسه الشريفة صلى الله عليه وسلم بحجر.. يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وهمَّ أبو جهل.. بل عزم وشمر عن ساقه واحتمل حجرا ضخما، وراح ينفذ ما عزم عليه، ثم إن الله منع رسوله صلى الله عليه وسلم وردَّ الله أبا جهل بغيظه لم ينل خيرا، هنا وقف النضر هذا الشيطان يتكلم بعد محاولة الاغتيال الفاشلة هذه، ماذا قال؟
قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش ٍ، قَدْ كَانَ مُحَمّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، وَقُلْتُمْ مَجْنُونٌ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ".
يعرف الأمر حقيقة، ويقر بذلك بين أصحابة، وثلاثةُ عشرة عاما وهو يسمع آيات الله تتلى فيستهزأ بها، ثم يخرج محاربا مع قريش يحمل لوائهم.. ما العمل مع هذا؟... البيان؟!
هو يعرف الحق تماما، ويصد الناس عنه.
قتله هو الدواء، وهذا ماحدث يوم بدر، قتل صبرا.
وعقبة بن أبي معيط.. وهو ممن يتكلم عليهم زكريا بطرس.
جارٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وقريب منه -من بني أميه هو- وجلس للنبي صلى الله عليه وسلم جلوس المحب، وسمع منه، ثم بتحريض من صديق له تفل تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه، واشتد في أذاه، ثم خرج مع قريش مقاتلا.
ما الحل مع هذا؟.. البيان؟!
هو يعرف ويعاند.
انتهى دور البيان.
لذا كان قتله في منتهى الحكمة.

وبنوا قريظة غدروا حين البأس.. حين القتال، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهودٌ موثقه.. فما العمل معهم؟.. التسامح؟
يغدرون.. لا يمسكون عهدا، ويتواطئون على المسلمين.
القتل هنا للغادرين أمر طبعيي جدا، بل هو العلاج القويم، مع أنه لم يقتل إلا المقاتلة فقط، ويقولون باع نسائهم وذريتهم!!
ونقول: فعل بهم أخف الأمرين إذ لم يقتلهم كما فعل بآبائهم وأزواجهم، أو كما يأمر كتاب النصارى، بل فعل بهم ما يوصي به كتابهم ففي سفر التثنية: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً" أي تستأصلها استئصالاً.
مع أن هناك فارق كبير من جهتين، أن كتاب اليهود يأمرهم بقتل المدن والغدر بها حال القدرة عليها، بل بالخديعة أيضا (استدعها للصلح فإن أجابتك...)، ونحن لا نفعل ذلك، من صالحنا صالحناه ووفينا له، ومن أبدى لنا العداوة نبذنا له على سواء فإن الله لا يحب الخائنين.
ومن كبر في صدره ذبح مقاتلة بني قريظة عليه أن يتذكر كيف كان الحال لو أنهم تمكنوا من المسلمين بمساعدة الأحزاب.. اتجهوا بالفعل للنساء والأطفال كي يبدؤوا بهم.

ومن يكثر الكلام من دعاة الإنسانية حول قتل بني قريظة عليه أن يراجع الدساتير الحالية وكيف قولها مع الخائنين لأوطانهم حين البأس.
ومن يقول أسرى وذبحهم كذب، ليسوا بأسرى، لم يكونوا مقاتلين بل غادرين. حتى من قُتل من النساء، كانت العلة في قتله هو الاشتهار بالمحاربة. وما كان للنساء أن يخرجن من بيوتهن، ما كان لهن أن يقاتلن كالرجال.

أم قرفة، عندها خمسين فارسا من محارمها ويُضرب بها المثل في المنعة وتجهز رجالها لقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.. ما العمل معها؟
كان تجهيز سرية لها في منتهى الحكمة على أنه لم يفعل بها ما يردده الأفاك الأثيم زكريا بطرس، من قلبها على رأسها وشقها بجملين، هذا كله مما لا يصح، وهو من رأس زكريا بطرس، بل قيل أنها قتلت في حروب الردة، والسرية كانت لرجالها ولم تكن لشخصها، وهي امرأة غجرية ثائرة تركت بيتها ووقفت خلف الرجال، تشحذ الهمم.. تعرضت للسيوف فأخذتها السيوف.

وهند بنت عتبة يوم أحد خلف الرجال تضرب بالدف وتشجع، وأثناء المعركة تأكل كبد الرجال، وبعد المعركة على الصخرة ترتجز وتفتخر، ويوم فتح مكة فرَّ الرجال وخرجت هي تضرب الخيل بخمارها وثيابها!! أي امرأة هذه؟! ما العمل معها؟
ما كان لها أن تقف هذا الموقف، ومن وقف هذا الموقف وفعل هذا الفعل فقد تعدَّ حاله البيان وطالب بالسنان.

وعصماء بنت مروان، تولول في بيتها بين رجالها، وتنظم الشعر تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتحرض قومها على قتلهم، وتحريض النساء يذهب بعقل الرجال، لك أن تتخيل امرأة تعير زوجها أو أبنائها بالرجولة (عدم الرجولة يعني)، ماذا سيفعل؟ وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لا نطيقه، لأننا لا نجد له مبررا البته.
هذه النوعية من النساء تؤجج حربا، أشد من الرجال، وقتلهن يريح الناس من شر كثير، فلولا قتل بنت مروان لقتل من حرضتهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وربما انتصر لهم غيرهم وقتل معهم، ناهيك عما تحدثه مثل هذه الأفعال من بلبلة بين الناس تذهب بالوقت والجهد.

هل نقتل النساء؟
أبدا، لا نعرف هذا أبدا، لا النساء ولا الأطفال ولا من لا يقاتل من الرجال، وليس في ديننا أمر بذلك، في الحديث: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا»(رواه مسلم).
الحرص على إسلامهم، لا على قتلهم وأخذ أموالهم ونسائهم.
هل أبادت جيوش المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد النبي صلى الله عليه وسلم شعبا أو قبيلة؟
أبدا، ولو كان شيء من ذلك ما كان أحد بين أظهرنا اليوم.

الرق في الإسلام:
يجمل هنا أن نقف مع قضية الرق في الإسلام، وهنا نبين أمور:
ـ الرق كان موجودا قبل الإسلام، وخاصة الرومانية النصرانية وظلَّ موجودا بعد الإسلام وإلى وقت قريب، فلم يبتدعه الإسلام.
ـ كانت أسباب الرق كثيرة، وأسباب الحرية -للرقيق- قليلة أو شبه معدومة في كل العالم، قبل الإسلام، فجاء الإسلام وحرم كلَّ أسباب الرّق عدا ما كان من الأسرى في الحرب، مع الأخذ في الاعتبار أن الحرب في الإسلام وسيلة من وسائل الدعوة، وليست للإبادة ولا للاسترقاق فهي خيار ثالث بعد الإسلام والجزية، وشرع عددا من المصارف لتحرير العبيد، منها المكاتبة وكفارة اليمين وكفارة الظهار، والتصدق بالعتق بلا سبب، وغير ذلك مما هو موجود في شريعة الإسلام.
ـ الرق في الإسلام مظهر من مظاهر الرحمة في الشريعة الإسلامية، وذلك أن الذي يسترق هو الذي يقتل، فالرق بديل للقتل، وبهذا تعلم أن وضع الرق رحمة وليس نقمة كما يصورونه.
ـ الرقيق في الإسلام ليس كغيره، ففي الإسلام توصية على الرقيق، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}[ النساء: 36]، وصى بهم بجوار توصيته بعبادة الله وبر الوالدين. وفي الحديث حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ قَالَ: «سَمِعْتُ إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). حتى مجرد النطق بالاسم (عبد أو أمة) نهى عنه الإسلام، وعند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي فَكُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَلَا يَقُلْ الْعَبْدُ رَبِّي وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي» (رواه مسلم) وتسامح الإسلام مع العبيد ومراعاته لإنسانيتهم مشهورة معروفة، ففيم الاحتجاج على الرق في الإسلام؟

وفيم الاحتجاج على الرق والنصرانية تعرفه، ولك أن تراجع رسالة بولس أوفسس الإصحاح السادس العدد 5 وهو يأمر العبيد أن يطيعوا أسيادهم كما يطيعون المسيح، جعل السيد للعبد كما المسيح للحر، وفي لوقا الإصحاح الثاني عشر العدد45 وما بعده كلام شديد عن العبيد منه: "وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا"، وهو مثال ينقله دون أن يذمه.

الجزية في الإسلام:
ـ الجزية تضرب في الإسلام على من قهرناه، على من لو شئنا قتلناه، على من لو شئنا طردناه. ومن نضرب عليه الجزية يكون له ما لنا وعليه ما علينا في بلادنا وخارج بلادنا. وإن لم نستطع أن نحميهم فلا جزية لنا عليهم.
ـ والجزية تفرض على القادر عليها، وهي مبلغ زهيد مقارنة بما كان يدفعه هؤلاء إلى حكامهم.
وسياقها العام والخاص لا يشي من بعيد ولا من قريب أنها نوع من الظلم والذل لأهل الكتاب.
وغير القادر منهم نتكفل به، وننفق عليه، فله كفالة اجتماعية بيننا.
ـ ومن قال بأن الجزية للحماية، وأنهم إن دخلوا في الجيش أو تولوا حماية أنفسهم سقطت عنهم الجزية فقوله لا نعرفه.
ـ ومن أراد أن يناقش الجزية في الوضع الحالي فلا ننصت إليه، ذلك أن الجزية تأتي في سياق سيطرة الإسلام بمفاهيمه وتصوراته وعسكره.
ـ ومن أراد إسقاط الجزية وجعلها من الموروث الثقافي، ويدعونا لعدم التحدث فيها إلا من باب التاريخ، فهذا ليس منا وإن انتسب إلينا.
ـ ومن كَبُرَ في صدره أمر الجزية فعليه أن يتذكر حال عباد الصليب حين يَغلبون، عليه أن يستحضر نصوص كتابهم (المقدس)، وأفعالهم في بيت المقدس والأندلس وفلسطين والعراق وأفغانستان وغير ذلك [*] ويقارن حالنا حين نغلب وحالهم حين يَغْلبون، عندها سيعلم أننا حقا أصحاب رسالة سماوية.. ملئها الرحمة للبشرية.

---------------------------------
 

[*] انظر الفصل الأخير من كتاب الكذاب اللئيم زكريا بطرس.
 

المصدر: موقع طريق الإسلام