حرق الأسواق والاستعجال على بيع القاهرة
عامر عبد المنعم
هل يعقل أن تقرر حكومة دولة في أي مكان في العالم بيع قلب العاصمة للأجانب دون الرجوع لأحد؟ وهل من المنطقي أن يتم نقل حكومة بدون أي دراسة مقنعة إلى المجهول في الصحراء وبيع مقارها وممتلكاتها دون مناقشة أعضاء هذه الحكومة؟ وهل يوجد برلمان في العالم لا يناقش قرار طرده من العاصمة ولا يدري أعضاؤه أين سيقيمون جلسات مجلسهم ولا كيف ومتى؟.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
هل يعقل أن تقرر حكومة دولة في أي مكان في العالم بيع قلب العاصمة للأجانب دون الرجوع لأحد؟ وهل من المنطقي أن يتم نقل حكومة بدون أي دراسة مقنعة إلى المجهول في الصحراء وبيع مقارها وممتلكاتها دون مناقشة أعضاء هذه الحكومة؟ وهل يوجد برلمان في العالم لا يناقش قرار طرده من العاصمة ولا يدري أعضاؤه أين سيقيمون جلسات مجلسهم ولا كيف ومتى؟.
للأسف هذا ما يجري في مصر، فالحكم الحالي يعرض ممتلكات الحكومة المصرية في وسط القاهرة للبيع، ويفتح مزادًا هو الأخطر بعد بيع شركات القطاع العام، لبيع الوزارات ومباني الحكومة بما فيها مجمع التحرير دون الرجوع لأحد، وبسرعة الصاروخ، تصر الحكومة المصرية على تنفيذ المخطط الصهيوني لبيع قلب القاهرة للمستثمرين الصهاينة والأجانب، ولا أصوات تعترض أو تحتج، ولا يوجد إعلام يناقش هذه الكارثة، ولا صوت للسياسيين الذين يتحدثون في كل شيء وكأن في أفواههم ماء.
في خطوة جديدة تؤكد الاستعجال في التنفيذ أعلن الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية منذ أيام عن استعداد الحكومة لبيع ممتلكات 18 وزارة من أراضي ومباني في وسط العاصمة بزعم نقلها إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وطالب مدبولي الوزارات بضرورة إرسال الرسومات الهندسية للمباني التي سيتم إخلاؤها لوزارة الإسكان، لإعداد التصور النهائي والتقييم المالي والفني للمباني والأراضي التي سيتم عرضها للبيع للمستثمرين الأجانب.
وتأتي تصريحات مصطفى مدبولي لتؤكد أن الدوائر الخارجية التي تخطط لا يعيقها تبدل الأنظمة السياسية، ولا يوقفها حالة التردي السياسي والصراعات، فالمخطط يسير كما هو، وبكل تفاصيله، حتى وإن تغيرت الحكومات والأنظمة.
التصور الصهيوني لقلب العاصمة
لقد استطاع مكتب الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية تمرير مخطط بيع القاهرة من خلال هيئة التخطيط العمراني ووزارة الإسكان، وفرض التصور الصهيوني للقاهرة عام 2050 بعد طرد المصريين والحكومة من قلب القاهرة وبيع كل شيء للشركات متعددة الجنسيات، وتأسيس مستوطنة ذات حكم ذاتي مستقل كمحمية غربية صهيونية في شرق النيل، وملخص المخطط يدور حول ما يلي:
1- تقليل الكثافة السكانية شرق النيل، بطرد السكان إلى غرب النيل من باب التمهيد للحلم الصهيوني من الفرات إلى النيل.
2- طرد الحكم المصري من قلب العاصمة وبيع كل ممتلكات الحكومة المركزية، للصهاينة والمستثمرين الأجانب وللشركات متعددة الجنسيات.
3- سيتم تأسيس حكم جديد لقلب العاصمة (المركزية) يسيطر عليه الأجانب من ممثلي الشركات العالمية التي ستشتري ممتلكات الحكومة والمواطنين.
4- تأسيس مستوطنة أشبه بالمنطقة الخضراء في العراق خاضعة للنفوذ الأجنبي، تكون نواة للتوسع المستقبلي، لابتلاع المزيد من أحياء القاهرة التي سيتم إزالتها، بزعم أنها مناطق عشوائية خطرة وغير آمنة، وتكشف الصور المنشورة في المخطط الصهيوني الفرق الشاسع بين شرق النيل الخاضع لسيطرة الأجانب حيث الأبراج وناطحات السحاب، وغرب النيل الفقير حيث يعيش المصريون، وسيكون النهر بمثابة خط الفصل العنصري الجديد.
5- إخراج أسواق القاهرة التي عمرها من عمر العاصمة، إلى الصحراء، وتهجير سكانها وهدم الأحياء في إطار الشعار المضلل الخاص بحملة إزالة العشوائيات!
خطورة إخلاء أسواق القاهرة
يعد موضوع إخلاء أسواق القاهرة هو الأكثر خطورة لما سيترتب عليه من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية تفوق التصور، ويبدو الاستعجال في التنفيذ من خلال تصريحات المسئولين المصريين المتكررة حول ضرورة التخلص من هذه الأسواق، بزعم خطورتها وعدم القدرة على تأمينها، ووصفها بالعشوائية لإضفاء مشروعية على قرار التدمير والإزالة.
ومن الملفت للانتباه أن الإعلان الحكومي عن إخلاء الأسواق في القاهرة يأتي مصحوبًا بحرائق غامضة لعدد من هذه الأسواق المستهدفة بالإخلاء مما أشاع الشكوك حول دور تخريبي لدوائر مرتبطة بهذا المخطط الصهيوني، تعمل على الإخلاء بالتخريب والحرق، وفرض أمر واقع جديد يضعف من حالة المقاومة المتوقعة ضد السعي الحكومي الذي سيلجأ إلى القوة الجبرية لإنجاز الإزالة في أقرب وقت ممكن.
يمكن تلخيص أبرز مخاطر تفكيك وتدمير أسواق القاهرة في الآتي:
1- هذه الأسواق هي عصب الاقتصاد المصري، وعليها تعتمد الأسواق في كل المحافظات المصرية؛ فهي التي تقوم بتوزيع منتجات المصانع والورش، ومن خلالها يتم تصريف البضائع وتنشيط عجلة الإنتاج الوطني، بالجملة والقطاعي، بالطريقة التي اعتاد عليها الشعب المصري بكل مستوياته.
2- بقاء هذه الأسواق يمنع الانهيار الاقتصادي بأصابع خارجية كما يجري في الدول التي تعتمد على البورصة، فالتعامل يتم بالبضائع العينية وليس بالأسهم التي ترتفع وتنخفض لأسباب غير مفهومة، ولهذا فإن هذه الأسواق التي لها مئات السنين حافظت على المجتمع المصري رغم ما تعرضت له مصر من محن وابتلاءات.
3- هذه الأسواق هي المنافس للمجمعات التجارية الحديثة (المولات) التي تقف خلفها شركات متعددة الجنسيات، وهي تعتمد في مجملها على الصناعة المحلية، وتنمي الصناعات الصغيرة والحرف وتمنعها من الاندثار، بعكس المولات التي تديرها الاستثمارات الأجنبية التي تعمل على تشجيع الصناعة الأجنبية على حساب المنتج المحلي.
4- هذه الأسواق ليست مجموعة من الدكاكين والمتاجر، وإنما هي مجتمعات متكاملة، يعيش عليها ملايين المصريين، الذين يعملون بها، ويسكنون فيها وحولها وقريبا منها، وترتبط بها مهن خدمية يتعيش عليها مئات الآلاف من المصريين، وبالتالي فإن عملية النقل تعني تهجير المواطنين المرتبطين بها وإرسالهم إلى المجهول، فإزالة الأسواق يتبعه إخلاء السكان بالقوة الجبرية بقوة السلطة.
تدمير الاقتصاد الأهلي وتهجير الملايين
وإذا أخذنا منطقة خان الخليلي كنموذج للأسواق التي قال نائب محافظ القاهرة أن الحكومة تنوي إخلاءها؛ فهي أحد أكبر مراكز تراث الفن الإسلامي في العالم العربي، بجانب كونها مقصدًا سياحيًا هامًا ويحظى بشهرة عالمية هائلة، حيث تضم السوق أكثر من 30 حرفة من الحرف اليدوية المختلفة، ويعمل به أكثر من 300 ألف عامل.
ومجرد طرح فكرة إزالة خان الخليلي يوضح حجم العدوانية والرغبة في التدمير، إذ يتنافى مع أي تفكير علمي سليم ويتعارض مع الحرص على الاقتصاد الوطني؛ فهذه السوق جديرة بالاهتمام والتنمية لما تمثله من قيمة حضارية وميزة اقتصادية وثقافية وليس إعلان الإغلاق والطرد إلى الصحراء.
وعلى نحو مشابه لخان الخليلي، وبجانب الأهمية والميزة التفضيلية، نجد أن عدد السكان المعتمدين على أسواق القاهرة العتيقة يصل إلى بضعة ملايين؛ وهذا يزيد الأمر وضوحًا، وهو أن الإخلاء ليس فقط لضرب الاقتصاد، وإنما أيضا لإزاحة السكان بعيدًا عن المستوطنة الجديدة.
وبجولة في أسواق العتبة والموسكي والغورية والأزهر والوكالة نكتشف أن هذه الأحياء هي قلب مصر وليست مجموعة أرقام، وبهذا القلب تحيا العاصمة كجسد حي، وإذا ما تم انتزاع القلب وتدميره تم تدمير مصر.
لا يمكن فصل ما يجري من تدمير لأسواق القاهرة عن مسلسل تدمير الاقتصاد المصري منذ الثمانينات، الذي بدأ بالخصخصة وبيع شركات القطاع العام، فالمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية نجحت في تبديد ثروة الحكومة وأفقرتها وأجهزت على دورها الاقتصادي؛ فبيعت المصانع وتشرد العمال وتوقف الإنتاج، ونجح التعاون المصري الإسرائيلي في الثمانينات والتسعينات في تدمير الزراعة المصرية، وها هي الدائرة تدور الآن على الاقتصاد الأهلي لإسقاط مصر بالضربة القاضية.
نحن أمام أغرب مزاد تشهده مصر حيث كل شيء معروض للبيع، ولا رقيب، في ظل مناخ من الخوف، يجعل السكوت هو سيد الموقف، والتزم العقلاء الصمت حيث الصمت خيانة، وكأن المصريين تم تخديرهم حتى الثمالة، وترويعهم حتى باتوا يرون الوطن يباع أمام أعينهم قطعة قطعة، بالقطاعي وبالجملة، ولا يجرؤ أحد على مجرد الاحتجاج، ولا حتى الكلام