العلماء وقيادة الشعوب
صفوت الشوادفي
العُلَماء ليسوا سواء، فمنهم العُلَماء الربَّانيُّون الذين يدعون مَن
ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصبِرون منهم على الأَذَى، يُحيُون بكتاب الله
الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العَمَى...
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وصلَّى الله وبارَك وسلَّم على رسوله الأكرم، الذي علَّمه ربُّه ما لم يكن يعلم. وبعد:
فمن المعلوم الذي لا يخفى، والمذكور الذي لا يُنسَى - أنَّ العُلَماء هم وَرثَة الأنبياء، ولم يكن مِيراثُهم دينارًا ولا درهمًا، وإنما كان عِلمًا نافعًا.
لكنَّ هؤلاء العُلَماء ليسوا سواء، فمنهم العُلَماء الربَّانيُّون الذين يدعون مَن ضَلَّ إلى الهُدَى، ويَصبِرون منهم على الأَذَى، يُحيُون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العَمَى، فهم للخلق قادَة، وللعِبَاد أئمَّة وَسَادَة.
ومن العُلَماء عُلَماء سوء قد فتَنَهم حبُّ الدنيا والثَّناء والشَّرَف، ورَغِبت نُفُوسهم في المنزلة والجاه، وتعلَّقت قلوبهم بما في أيدي الناس، فرَضُوا بالحياة الدنيا واطمَأنُّوا بها، وباعُوا الآخِرة بالأولى، فهانوا على الناس بعد أن كانوا قادَة، وأصابهم الذلُّ والهَوَان بعد أن كانوا سادَة.
وقد سُئِل الحسن البصري رحمه الله: ما عقوبة العالِم إذا أحبَّ الدنيا؟ قال: "موت القلب، فإذا أحبَّ الدنيا طلَبَها بعمل الآخرة، فعند ذلك تَرحَل عنه بركات العلم، ويَبقَى عليه رسمه".
وإذا أحبَّ العالِم الدنيا تَقَرَّب إلى أهلها، وسَعَى لها سَعيَها، وأجهَدَ نفسَه في التقرُّب إلى الحكام والأُمَراء بدلاً من التقرُّب إلى الله، قال الأعمش رحمه الله: "شرُّ الأُمَراء أبعدهم من العُلَماء، وشَرُّ العُلَماء أقربهم من الأمراء".
وأمَّا العُلَماء العامِلُون فهم في الأرض بمنزلة النُّجوم في السماء، بهم يَهتَدِي الحَيْران في الظَّلماء، وحاجة الناس إليهم أعظمُ من حاجَتِهم إلى الطعام والشراب، وطاعَتُهم أفرض عليهم من طاعة الأمَّهات والآباء بنصِّ الكتاب، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء:59].
وقد قال ابن عباس - رضِي الله عنهما - وغيره: "أولو الأمر هم العُلَماء"، وفي الرواية الأخرى: "هم الأمراء".
قال ابن القيِّم رحمه الله: "والتحقيق أنَّ الأُمَراء - أي الحكَّام - إنما يُطاعُون إذا أَمَروا بمُقتَضى العلم، فطاعَتُهم تَبَعٌ لطاعة العُلَماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجَبَه العلم، فكما أنَّ طاعة العُلَماء تَبَعٌ لطاعة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فطاعة الأُمَراء تَبَعٌ لطاعة العُلَماء، ولَمَّا كان قِيام الإسلام بطائفتي العُلَماء والأُمَراء، وكان الناس كلهم لهم تَبَعًا، كان صَلاح العالم بصَلاح هاتَيْن الطائفتَيْن، وفساده بفسادهما، كما قال عبدالله بن المبارك وغيره من السَّلَف: "صِنفان من الناس إذا صَلَحَا صلح الناس، وإذا فسَدَا فسَدَ الناس"، قيل: مَن هم؟ قال: "الملوك والعُلَماء" [إعلام الموقعين].
ولأجل هذا الذي ذكرناه كان العُلَماء قديمًا - رحِمَهم الله - هم قادَة الشُّعُوب وسادَة الناس، تلتفُّ حولهم القلوب، وتَقِفُ وراءَهم الصُّفوف، ويرجع الناس إليهم في النَّوازِل والنوائب، ويَصدُر الحكَّام عن رأيهم في العَوائِد والشدائد، قد علَتْهم الهَيْبَة والوَقَار بفضل اتِّباعهم للسنَّة والآثار.
ونَسُوق إليك - أيُّها القارئ الكريم - موقفًا يُجلِّي هذه الحقيقة، وحوارًا يُضِيءُ قلوب المؤمنين، ويُوقِظ النائمين والغافلين.
قال الزهري رحمه الله: "قدمت على عبدالملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زُهْرِيّ؟ قلت: من مكة، قال: فمَن خلفتَ بها يَسُود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: وبِمَ سادَهُم؟ قلت: بالدِّيانَة والرواية، قال: إنَّ أهل الديانة والرواية لَيَنبغِي أن يُسَوَّدوا، قال: فمَن يَسُود أهل اليمن؟ قال: قلت: طاوس بن كَيْسَان، قال: فمِنَ العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: وبِمَ سادَهُم؟ قلت: بما سادَهُم به عطاء، قال: إنه لَيَنبغِي، قال: فمَن يَسُود أهل مصر؟ قال: قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فمَن يَسُود أهل الشام؟ قال: قلت: مكحول، قال: فمِنَ العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي عبد نُوبي أعتقَتْه امرأة من هُذَيل، قال: فمَن يَسُود أهل خُراسَان؟ قال: قلت: الضحَّاك بن مُزاحِم، قال: فمِنَ العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فمَن يَسُود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: ويلك، فمَن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرَّجت عنِّي، والله لتسودَنَّ الموالي على العرب حتى يُخطَبَ لها على المنابر والعرب تحتها، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، مَن حَفِظَه سادَ، ومَن ضيَّعَه سقط".
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وآله وصحبه.