الرد على السفيه الذي أباح الاختلاط
حامد بن عبد الله العلي
تذكـَّرت ما قاله العلامة الرافعي رحمه الله:"أتدري يا ولدي ما الفرق
بين علماء الحق، وعلماء السوء، وكلُّهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟
أولئك في أخلاقهم كاللوح من البللور، يظهر النور من نفسه، وهؤلاء
بأخلاقهم كاللوح من الخشب، يظهـر النور حقيقته الخشبية لا
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم،
وبعـد، فقد اطلعت على الفتوى التي تبيح الاختلاط، وما اشتملت عليه من التدليس، والتضليل، وتحريف دلائل الشرع عن الهدى، نسأل الله أن لا يجعل مصيبتنا في ديننا.
ومعلوم أنَّ الفتاوى المضلـِّة على وجهيـن: أحدهمـا أن يعمد المفتى إلى نصوص لا تصح، وفتاوى شاذة، فيعتمد عليها مفتـياً بما يخالف الشرع.
والثاني: أن يستدل بالنصوص الصحيحة، لكنْ ينزلهـا على غير منازلها، ويضعها في غير مواضعها، وهذا الثاني أشـدّ خطورة من الأول، لأنَّ الشبهة فيه أعظم.
وعندما اطلعت على ما تضمنته هذه الفتوى المضلة التي تبيح الاختلاط بين الجنسين في التعليم في مرحلة الشباب، وقـد نُشرت عندنا في بعض الصحف، وفرح بهـا دعاة الإفساد، وأفراخ التغريب، وصبيان العلمنة.
تذكـَّرت ما قاله العلامة الرافعي رحمه الله: "أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق، وعلماء السوء، وكلُّهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ أولئك في أخلاقهم كاللوح من البللور، يظهر النور من نفسه، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب، يظهـر النور حقيقته الخشبية لا غيـر، وعالم السوء يفكـِّر في كتب الشريعة وحدهـا، فيسهل عليـه أن يتأوَّل، ويحتـال، ويغيـِّر، ويبدِّل، ويظهـر، ويخفـي، ولكن العالم الحـق يفكِّـر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كلِّ حالة، يسألـه: ماذا تفعل؟ ومـاذا تقـول؟" الرافعـي في (وحي القلم).
كما ذكّرنـي استدلاله بالنصوص التي تدل على أنَّ المجتمع الإسلامي الأوَّل كان يقع فيه ما يقع في كلِّ المجتمعات الإسلامية عبر العصور، من اختلاط عابـر في الحيـاة العامـة بين الرجال، والنساء، على أنَّ خلط الشباب من الجنسين في مراحل التعليم، مباحٌ في شريعة الإسلام، ذكـَّرني استدلاله الضال هذا، باستدلال ذلك المسترضع من أمّ الجهالة -لاسهل الله عليه- برضاع سهلة بن سهيل لسالم مولى أبي حذيفة -وهو حديث صحيح- على جواز أن ترضع الموظفة زميلها في العمل ليباح لهما الخلوة!.
كما ربطت أيضا بين هذه الفتوى، وفتوى المدعو: شحرور الذي -وأستسمح القارىء عذراً- أنـزل نصوص القرآن في شأن الحجاب، علـى لباس القطعتين -قطع الله أنفاسه- أما القطعة الواحدة عنده فيبدو أنها عنده مبالغة في الستر!.
والبلوى في الفتوى التي وردت أوَّل السؤال، أنها جمعت بين ثلاث مصائب:
أحدها: الافتراء على الله تعالى، وشريعته المطهرة، وهذا يكفي في بطلانها.
الثانية: أنَّ مفتيها يعلـم يقينا أنهـا ستستخدم، وتُنـزَّل على واقع سيفتح أبواب الشـرّ على مصراعيه، لأنها ستترجم عمليـّا إلى مفسدة عظيمة، إذ يستحيـل واقعـاً وضع أيِّ ضابط يحمي شباب المسلمين من مفاسد الاختلاط في التعليـم، بل إنَّ من يسمح بـه، إنما يرمي إلى هذه المفاسد أصـلا، فهي غايته العظمى.
والثالثة: أنَّ هذه الفتـوى وأشبهاها، إنما يجري توظيفهـا ليُقتحـم بها مجتمـعٌ يعيش أعرافاً إسلاميةً سامية في الأعـمّ الأغلـب، وبيئة محافظـة تقدس العفَّـة في الجمـلة، وقـد حمتـه هذه البيئة المحافظـة من الشرور التي تموج في غيره من البلاد موج البحار،
يُقتحم بهـا هذا المجتمع لتفسده، وتجتثّ فضائله، وتخـرّب أخـلاقه.
وأيضا هي تُوظَّـف في ضمن مشروع تغريبي، علماني، ليس هدفه وضع المرأة حيث الحاجة إلى ذلك البتـة، ولكن وضعها حيث تفسد قيمها، وقيم الأسـرة المسلمة، والمجتمـع الإسلامي.
تماما كما قال الدكتور المصلح محمد محمد حسين -رحمه الله- أول ما طارت حمى الدعوة إلى الاختلاط في التعليم، والوظائف في القرن الماضي، قال -رحمه الله-: "ويستطيع الدارس المتأمل أن يرى بوضوح أن المرأة لا توضع حيث الحاجة -صحيحة كانت أو مزعومة- إلى أن توضع، ولكن توضع لإثبات وجودها في كل مكان، ولإقحامها على كل ما ينادي العقل، والعرف، بعدم صلاحيتها له، فليس المقصود سد حاجة موجودة، ولكن المقصود مخالفة عرف راسخ، وتحطيم قاعدة قائمة مقررة، وإقامة عرف جديد في الدين، وفي الأخلاق، وفي الذوق، وخلق المقررات، والمبررات، التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا، وعروبتنا، أمـراً واقعـا، كما تجعل دخولنا إلـى دين الغرب، ومذاهب الغرب، وفسق الغرب، أمرا واقعا كذلك" (أزمة العصر).
ولاريب أنَّ هذه الفتوى المضلّة، إنما وضعت لإرضاء من يريد تحقيق هذا الهـدف، لا لتعظيم شريعة الله، ولا ابتغاء الدار الآخـرة.
كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "كلُّ من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبّها، فلابد أن يقول على الله غير الحق، في فتواه، وحكمه، وخبره، وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه، كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، لاسيما أهل الرياسة، و الذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم، إلاّ بمخالفة الحق، ودفعه كثيراً"
وأنها داخلة في دلالة قـول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «غير الدجال أخوفني عليكم، الأئمة المضلون» رواه أحمد وغيره
وللدارقطني مرفوعاً ذكر أشد الناس عذابا يوم القيامة: «رجل قتل نبيَّا، أو قتله نبيُّ، وإمام جائر يضلُّ الناس»
وقال عمر -رضي الله عنه- لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي.
وقال الحسن: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة
وأنشــدوا:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى *** ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه *** بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
ورحم الله شيخ الأزهر محمد الخضر حسين الذي قال: "فمن أهل العلم من يرى ذا جاهٍ، أو رياسةٍ، يهتك ستر الأدب، أو يعيث في الأرض فساداً، فيتغابى عن سفهه، أو بغيه، ويطوي دونه التذكرة، والموعظة، ابتغاء مرضاته، أو حرصاً على مكانة، أو غنيمة ينالها لديـه.
ومن البليّة أنَّ المترفين، ومن ينحو نحوهم في الزيغ والغرور، لا يكتفون ممن يسوقهم الزمن إلى نواديهم أن يسكت عن جهلهم، ويتركهم وشأنهم، وإنما يرضيهم منه أن يزين لهم سوء عملهم" أ.هـ. (الدعوة إلى الإصلاح)
وإنما عاب الله تعالى على أحبار السوء بقوله: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] لأنهم كانوا يشهدون الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، والسعي في الفساد، فلا ينهون عن ذلك، ويرون حقَّ الله مضيِّعـا، ومال الله يُؤكـل ظلما، فلا يحذّرون من ذلك، رغبةً فيما عند أهل الدنيا من العرض الآفل، والمنزل الزائـل، ومداهنة في دينهم.
والعجيب في شأن هذه الفتوى، أن مفتيها -أيا كان- لا يقول بدلالة ما فيها!.
فالنصوص التي استدلَّ بها كلُّها يحملها -في حياته الخاصة- على محاملها الصحيحة، بينما هـو قد حرَّف دلالتهـا لإباحة الاختلاط في التعليم، لتغرير بنات وشباب المسلمين لإيقاعهم في الفتنة، والفساد!.
فمعلوم قطـعا أنـَّه لا، ولـن يسمح بأن تتوضَّـأ زوجته مع رجل أجنبي في إناء واحد فـي وقـت واحـد! تغسل وجهها حتى تشرع في الرأس، وتمسح شعرها، و تكشف عن ساعديها، وتغسل قدميهـا حتى تشرع في الساق!، كما استدل بالنص محرفاً دلالته!
كما أنه لا يقـول بجواز أن تختلط زوجتـه، وبناته، مع شباب الحيِّ في مجلس يتبادلون هموم الحياة، والدراسة..إلخ، ثـم تقوم إحدى بناتـه بخدمـة الشباب! بل هو يمنع الاختلاط على هذا الوجه، ويراه يجـرُّ إلى مفاسد عظيمة، وأنه أعظم مطعن في الرجولة، وعلامة على الدياثة! فإن احتجّ محتجّ عليه بما أورده من نصوص، بيّن أنها وردت على غير هذا النحو المفضي إلى الفتن، وأسباب الإغواء.
فيا للعجـب:
يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ متهماً *** إذ عبتَ منهم أموراً أنتَ تأتيها
أصبحتَ تنصحُهم بالوعظ مجتهداً *** فالموبقـات لعمري أنت جانيها
هذا.. ولاريب أنه لم يأتِ تحريمٌ (مطلقٌ) للاختلاط بين الرجال والنساء في النصوص، ولا وقع في التاريخ الإسلامي فصلٌ تام بينهما في الحياة، ولو كانت الشريعة تأمر بذلك، لكان من قبيل التكليف بما لا يطاق أصلا.
غير أنّ هذه المسألة التي يكثر حولها الجدل، ترجـع إلى أربع قواعد شرعيّـة:
الأولى: أنَّ كلَّ ما لم يرد فيه نص، فهو من قبيل المباح، ما لم يفـضِ إلى محرّم فيأخذ حكم الحرام.
الثانية: إذا تعذّر توفير الضوابط التي تمنع إفضاء المباح إلى محـرم مفسدته أعظم، فالمباح يمنـع سداً للذريعــة.
وليتأمَّل العاقـل -مثلا- كيف يحرِّم بعض الساسة كلَّ الوسائل السلمية لإصلاح السلطة؟، لأنها -عندهم- قـد تفضي إلى فتنة! عملا بهذه القاعدة!
وقـد يوقعون بمن يدعو إلى وسائل الاحتجاج السلمي على فساد السلطة أشد العقوبة،
بينما لا يعملون بهذه القاعدة هنا في مسألة الاختلاط في التعليم لسدّ فتنة الأخلاق!
الثالثة: الأمور تتبيّن بعواقبها، فالخيـر في موضعه، عواقبـُهُ الرشد أبداً، والشرّ عواقبه الغـيّ دائمـا.
الرابعة: كلّ ما كان الأمر أشـدّ ضرراً على المجتمع، كان الاحتراز منه أوجب، ومحاربته ينبغي أن تكون أشــدّ.
أما القاعدة الأولى، فكما نص الفقهاء على تحريم بيع العنب لمن يتخذه خمــراً.
وأما الثانية، فكما ذكر الفقهاء تحريم بيع السلاح وقت الفتنة، لأنّه حتى لو زُجـر الناس عن قتل المسلم، فلا يمكن ضبط ذلك والناس في حال الفتنة، فيُفتى بتحريمه مطلقا.
أما الثالثة، فدلت عليها نصوص كثيرة جدا، فالله تعالى جعل عاقبة طاعته خيرا، {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، وجعل عاقبة معصيته الخسران المبين: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم:9-10].
فإذا تبين أنَّ عاقبة أمر من الأمـور، هـو الشرّ والسوء، فهو معصية لله، والضدّ بالضدّ.
أما الرابعة: فكما نرى نصوص القرآن، والسنة، قـد شددت في التحذير من مداخل الشرك، والقتل، والزنا، وهي أعظم ثلاث جرائم.
فحرمت الشريعة كلَّ ذرائع الشرك: كالصلاة في المقابر، وتعليق التمائم، وصنع التماثيل، وغيرها حتى تلك التي في الألفاظ كقول القائل ما شاء الله وشئت، والحلف بغير الله.. إلخ.
كما حرمت الشريعة في صيانة دم المسلم، كلّ الطرق المفضية إلى الاستهانة به، فحرمت حتَّى سباب المسلم، وترويعه، سداً لكلِّ طرق العدوان التي قد تفضي إلى القتل، أو الاستخفاف بدم المسلم.
وفي الذرائع المفضية إلى الزنا، حرَّمت على المرأة الخلوة مع الرجل، والتعطّر أمام الرجال، والسفر بغير محرم، وأمرتها بالحجاب، وأمرت بغض الأبصار، ونهت المرأة عن الخضوع بالقول عند مخاطبة الرجل الأجنبي، حتى لقد حـُرّم عليها ضربها بخلخالها لتُعلم زينتهـا.
ولا نجد مثل هذا الذرائع كثرةً، وتأكيداً في غير تلك الجرائم الثلاث.
ثـم إذا نظرنا إلى الاختلاط يبن الرجال، والنساء من هذا المنظار الشرعي، وجدناه ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: اختلاط عابـر يتعذر الاحتراز منه، أو في موضع لا يخشى منه الفتنة، في الغالـب، كاشتغال الجمع بعبادة مثلا،كصلاة النساء في المسجد خلف الرجال في عهده -صلى الله عليه وسلَّم-، والطواف في الحج.. إلخ
ومثل الأماكن العامة التي يشقّ تخصيصها لأحد الجنسين.
وسائر مرافق الحياة العامة التي لابد فيها من اشتراك الجنسين في الاستفادة منها.
وكلُّ النصوص التي استدل بها في الفتوى المضلـِّة المذكورة في سؤال السائل، هـي من هذا القبيل فحسب، وإنما أُخرجت من سياقها، ووضعت في غير موضعها تضليلاً للنَّاس كما بيَّنـا.
والقسم الثاني: اختلاط يفضي إلى الفتنة المحققـَّة غالبا، ولا يمكن توفير ضوابط الاحتراز منها، وعاقبته شرورٌ عظيمة واضحة، وضررُه على المجتمع بالغ السوء بشهادة الواقع المحسوس، وذلك مثل الاختلاط في الدراسة، وفي أماكن العمل، حيث تمكث الفتاة، أو المرأة فترة طويلة بين الرجال، في أجواء داعيةً إلى التعارف، وتكوين العلاقات، بما تقتضيه الجبلّـة الإنسانية، من الانجذاب الفطري بين الذكر، والأنثى.
فلو قيل للشاب الذي يخالط الشابات في فصل دراسي طيلة أعوام الدراسة: لا تنظر إلى ما ترغـب نفسك النظر إليه من مفاتن المرأة، ولا تشتهي ما يشتهيه الرجل من المرأة، ولا تحاول أن تتعرّف على من تعجبك منهـنّ، ولا تبني علاقة معها، ويُقال للفتاة مثل ذلك، لكان من يقول مثل هذا للشباب، مع توفير أسباب الفتنة لهم: كمن يسعى في إفساد الناس بكل ما أمكنه، وهو يأمرهم بلسانه بالصلاح، والعفّة!.
وهذا التناقض القبيح في العقل، والمنطق، لايمكن أن تأتي به الشريعة الكاملة.
حتى إنَّ بعض الجهّال، أفتى بجواز الاختلاط في الأعراس، استدلالاً بأن النساء كنّ يصلِّين، خلف صفوف الرجال في عهد النبوة!!
مع أنَّ النبيَّ -صلى الله عليهوسلم- جعل صفوفهنّ بعيداً، خلف الصبيان، كما جعل مصلَّى النساء في العيد، معزولاً عن مصلى الرجال، وجعل خير صفوفهن آخرها، وشرّها أوّلها، وكلُّ ذلك لتخفيف الفتنة قدر المستطاع، مع أنـَّه في موضع العبادة تؤمن فيه الفتـنة غالبـا، فكيف بغيره؟!!
وعلى أية حال فكلُّ عاقل يعلم أنَّ ثمة فرقاً كبيراً بين القسم الأوّل، والثاني، وأنّ الاستدلال بجواز الأول، على جواز الثاني، من قبيل التلبيس، والخلط، وسوء الفهم، أو إرادة الإفساد في الأرض.
وذلك كمثل من يستدل على جواز بيع السلاح في الأحوال العادية، مع إمكان أن يُقتل به مسلمٌ، على جواز بيعه في فتنة بين المسلمين يقتل بعضهم بعضها!.
ولا يخفى على عاقل متجـرّد من الهوى، أنَّ الاختلاط في التعليـم -من القسم الثاني- مفضٍ إلى فساد عريض، وهاهي المجتمعات التي ينتشر فيها هذا الاختلاط، تعاني ما تعانيه من الآثار المدمـّرة لانتشار الزنا، والعلاقات المحرمة بين الجنسين.
وإذا كان هذا الفساد في جزيرة الوحـي، وفي مجتمع قائم على نظام فصل الجنسين في التعليم، وعرفه الجاري هو هذا العرف الحسن المحمود، فمن أفتى بجواز الاختلاط في التعليـم، أو حرض عليه، فهو داخل في قوله تعالى { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وهو من الداعين إلى الفساد، الآمرين بالمنكر، الناهين عن المعـروف، نسأل الله تعالى أن يعافينا من العماية، وسبل الغواية آمين.
وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصيـر..
وهذه فتوى أخرى (للشيخ حامد العلي)..
الحمد لله، والصلاة، والسلام على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وبعد:
لا يختلف العلماء على أنَّ الاختلاط بين الجنسين في التعليم محرَّم، بل هو من أشدّ المحرمات، وما يترتب عليه من مفاسد لا تخفى على عاقل فضلاً عمن يتعلّم العلوم الشرعية، أما العالم بالشريعة، فإنْ خفي عليه هذا، فهو دليل على فقدانه أهلية الفتوى، أو يكون ممن في قلوبهـم مرضٌ عافانا الله.
وقد بلغ من إدراك الناس مفاسده، أنْ صدر قبل ثلاث سنوات قرار من الإدارة الأمريكية -بناءً على أنَّ الإحصائيات أثبتت حصول الطلبة من الجنسين على درجات أعلى في المدارس غير المختلطة- بمنح مدراء المدارس الحقّ في الفصل بين الجنسين، وقالت وزيرة التربية الأمريكية مارغريت سبيلنغ: "إنّ القرار يأتي انسجاماً مع حق كلّ طلاب الولايات المتحدة في الحصول على تعليم جيّد من جهة، وحقّ الهيئات التعليميّة بامتلاك الوسائل التي تكفل تحقيق هذا الهدف من جهة أخرى".. ولفت مراقبون تربويون إلى انتشار المدارس العامة التي تعتمد الفصل الجنسي بشكل كامل في الآونة الأخيرة، حيث ارتفع عددها من أربعة عام 1998 إلى 228 في العام الحالي" cnn 27/10/2006.
وإذا كان التعليم غير المختلط أخذ يتسارع في الأمريكيين بهذه الصورة، لما رأوا مفاسد الدراسة المختلطة، بعدما انتشر حمل السفاح، والإجهاض، والجرائم، فإنه ليس ثمة تفسير لإصرار الجهات الرسمية لدينا، وأذناب الاستعمار الجديد، على نشره في بلاد معروف شعبها بالمحافظة، والفضيلة، ومحاربة الرذائل إلاّ لتنفيذ مخطط الإفساد التخريبي الذي يمهد لطمس هوية المجتمع الإسلامية طمسا تاما؛
ذلك أنَّ الإختلاط في التعليم وسيلة خبيثة يقصد بها عدة أهداف:
أحدها: نشر الرذيلة بين الجنسين.
الثاني: نشر الدياثة في المجتمع.
الثالث: تقبيح الفضيلة، وتهجينها، وجعلها في صورة التخلّف.
الرابع: إبعاد الشباب في مراحل التعليم في بلادنا الإسلامية، عن الأجواء المحافظة، ووضعهم في بيئة متحللة، حتى يسهل تجنيدهم للثقافات الغربية.
وإذا كانت الشريعة المطهَّرة قد حرمت أشد التحريم على المرأة أن تخرج معطَّرة فيجد الرجال ريحها، وأن تسافر من غير محرم، وأن تخلو برجل، وأن تبدي من زينتها ما يستدعي النظر إليها، وأن تخضع بالقول فيسمع الرجال، سدا لذريعة الزنا، الذي هو أقبح جريمة إنسانية بعد الشرك، وقتل النفس، إذا كان الأمر كذلك، فحكـم جعل الشباب، والشابات، في بيئة يختلطون فيها أكثر النهار، بحجة التعليم، أشدُّ تحريما، والمنـع هنـا أظهر في الشريعة من منع كلِّ تلك الذائع التي وردت النصوص بتحريمها.
ولا يعارض حقيقة أن الاختلاط في التعليم هو منبع الفساد، والإفساد إلا أحد شخصين:
مفتون بالغرب، مرتكس في فتنته، حتى عمي عن رؤية ما لديهم من مخازي، لاسيما على المستوى الأخلاقي، والثقافي، والاجتماعي، وأصبح كلّ همّه هـو نقل ما لديهم عندنا، بعجـره، وبجره، والعجيب في شأن هؤلاء المرتكسين، أنه حتى لو ترك الغربيون تجربة مـا، بعد أن وجدوها سيّئـة العواقب، يبقى الأذناب متمسّكون بهـا!.
والثاني: طالب لذّة يبتغيها من غير وجهها الحلال الذي أباحه الله، فهو لا يريد أن يمنع سمعه وبصره متعه الحديث، والنظر، والأنس، والسمر، طامعا فيما وراء ذلك، ويجد في اختلاط التعليم سوقا رائجة لمتعته التي ينشدها.
وإذا تُركت المجتمعـات لهذين يقودان دفتها، فلا تسأل عن هلكتها.
ومعلوم أنَّ الأمة الإسلامية، وهي أمّة المعرفة، التي ملأت الدنيا علوما نافعة، يوم كانت أوربا تغرق في ظلمة الجهل.
أنها منذ عصر النبوة إلى أن جاءنا الاستعمار بشروره، لا تعرف الاختلاط بين الجنسين في مجالس التعليم، وتعده من أقبح المنكرات، حتى إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجعل مصلى النساء في العيد منفصلا، فعن جابر -رضي اللَّه- عنه قال: "شهدت مع النبيِّ -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان، ولا إقامة، ثم قام متوكئًا على بلال، فأمر بتقوى اللَّه، وحثّ على الطاعة، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن، وذكرهنّ"، رواه مسلم والنسائي، وفي لفظ لمسلم: "فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن".
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: "الحديث فيه تقديم صلاة العيد على الخطبة، وترك الأذان، والإقامة، لصلاة العيد، وقد تقدم بسط ذلك، وفيه استحباب الوعظ، والتذكير، في خطبة العيد، واستحباب وعظ النساء، وتذكيرهن، وحثهنّ على الصدقة... وفيه أيضًا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لأن الاختلاط ربما كان سببًا للفتنة الناشئة عن النظـر أو غيره" أ.هـ.
وليتساءل العقلاء: وما هي حصيلة هذه العقود من الركض وراء الغرب في قضايا المرأة، سوى ارتفاع نسبة الطلاق، وانتشار التفكك الأسرى، وتحويل المرأة إلى أكثر وسائل الدعاية انتشارا، حتى صارت المرأة وسيلة دعائية لترويج أشد السلع حقارة (الأحذية، وإطارات السيارات)، وسوى استغلال المرأة أبشع استغلال في تجارة الجنس بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، في كلّ مكان، في الفضائيات وسائل الإعلام، والإنترنت، ومواخير الدعارة.
حتى إنّك كلما اقتربت من العواصم الغربيـّة، وجدت المرأة هناك أتعس ما تكون، وقد ضُرب لنا أوضح مثل، في حصول أمريكا على الرقم القياسي عالميا في إهانة المرأة بالتحرش الجنسي في العمل المختلط، وحمل الفتيات سفاحا في المدارس المختلطة، بل في نسبة الاغتصاب،والحمل سفاحا داخل الأسـرة، وانتشار الإجهاض!!!.
وقبل أكثر من عشر سنوات تقريبا، حذرت الدكتورة سارة الجلوي آل سعود من التيار التغريبي في الخليج، وذلك في مؤتمر عن المرأة في الصحافة الخليجية جرى في قطر، قالت عن نشاطاته: "ضاغطة تمارس عملية تحد للدين، والقيم، والأخلاقيات،وإنها استطاعت تغيير كثير من المفهومات الأصيلة المرتبطة بالدين، وأحكامه، وقيمه، وصبغها بالصبغة الغربية في محاولة لإلباس الدين ثوبا غربيا، حضاريا، في قضايا مثل الحرية، والمساواة، والعدالة، والحلال، والحرام، والاختلاط، والحجاب، وتعدد الزوجات، وقامت بعملية تسطيح ثقافي خطير، وانهزام نفسي، وتفاهة في الاهتمامات، ظهرت نتائج ذلك على الناشئة الذين مسخت شخصيتهم الذاتية، وطمست هويتهم.....).
ويبدو أنَّ تحذيرها المبكر، أخذ يؤتي ثماره المـرّة، ووصل الغزو الأخلاقي إلى جوار مكة المكرمة!.
غير أننا على يقين أن هذا التيار سيهزم، وأن دعاة الرشد والهدى سينتصرون في النهاية، كما قال الحق: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
المصدر: موقع الشيخ حامد العلي