غربة سادس أركان الإسلام في مجتمعاتنا

وإنما المقصود بغربة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا غياب الالتزام بها بين عموم المسلمين بعضهم مع بعض، في بيوتهم وبين أرحامهم وعائلاتهم، في المدارس والمعاهد والجامعات، في الأسواق والمصانع والمعامل، في الشوارع والأماكن العامة... إلا من رحم الله.

  • التصنيفات: دعوة المسلمين -

نعم... من العلماء من اعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سادس أركان دين الله الخاتم أهمية، نظرًا لمكانة هذه الشعيرة العظيمة في الإسلام، ويكفي أن الله تعالى جعل خيرية هذه الأمة منوط بتحققها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران من الآية:110].

بل وجعلها الصفة الأولى من صفات المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة من الآية:71].

وأحد أهم أسباب النصر والتمكين لهم في الأرض، وهو ما يعني أن ترك هذا الواجب أو التهاون به ربما يكون السبب الأبرز في ضعف المسلمين وهوانهم على أعدائهم، قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

ليس المقصود بالغربة هنا غياب من يقوم بهذه الشعيرة من العلماء والدعاة والمصلحين في المساجد وعلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فدروس العلم والتربية والوعظ والإرشاد وتوجيه الناس لاتباع أمر الله واجتناب نهيه كثيرة ولله الحمد، كما أن رسائل النصح والدعوة إلى الله الخفيفة والمفيدة على وسائل التواصل الاجتماعي -سواء المكتوبة منها أو المسموعة أوالمشاهدة- أكثر من أن تحصى.

وإنما المقصود بغربة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا غياب الالتزام بها بين عموم المسلمين بعضهم مع بعض، في بيوتهم وبين أرحامهم وعائلاتهم، في المدارس والمعاهد والجامعات، في الأسواق والمصانع والمعامل، في الشوارع والأماكن العامة... إلا من رحم الله.

ترى رب الأسرة والقيم على العائلة المسلمة لا يقوم بهذا الواجب كما أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتجد الزوجة تخالف أوامر الإسلام في لباسها وعباداتها وتعاملها مع غيرها... ثم لا تجد مقابل ذلك أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر من الزوج المأمور بذلك.

قد ترى انحرافًا في سلوك الأولاد في هذه الأسرة المسلمة، وعدم مبالاة بالتزام بأهم أركان الإسلام وأوجب واجباتها (الصلاة وغيرها)... ثم لا ترى إزاء ذلك نصحًا وتوجيها من الراعي بخطر ذلك وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة، ليس على الفرد أو الفاعل فحسب، بل وعلى المجتمع المسلم بأسره.

وإذا كان هذا هو حالنا إزاء سادس أركان الإسلام ضمن نطاق الزوجة والأولاد والأصول والفروع، فللقارئ أن يتصور حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن نطاق الأرحام والأقارب من الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وأولادهم...

وإذا خرجنا من نطاق الأسرة إلى المجتمع فإن غربة سادس أركان الإسلام تبدو أكثر جلاءً ووضوحًا، فالطالب في المدرسة أو الجامعة لا ينهى زميله -أو زملاءه- عن المنكر الذي يُفعل أمامه منذ سنوات، والعامل لا يأمر من يصحبه طوال النهار في العمل بالمعروف الذي ربما لا يكلفه سوى دعوته إلى أن يصلي معه إذا حان وقت الصلاة... أما في الشارع والطريق حيث لا أحد يعرف أحدًا فحدث ولا حرج عن غربة الالتزام بالركن السادس من أركان الإسلام.

وأخشى ما أخشاه أن يكون شيوع هذه الظاهرة في مجتمعاتنا انعكاسًا لما يُكاد لهذه الأمة وما يُدبر لها من قبل أعدائها الغربيين، الذين يسعون منذ قرون لإبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم، ويحاولون بشتى الوسائل إحلال العلمانية (اللادينية) في المجتمعات الإسلامية محل تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه.

ولعل أسوأ وأخطر مظهر من مظاهر العلمانية (اللادينية) التي بدأت تتسلل إلى المجتمعات الإسلامية هو الميل إلى عدم المبالاة عند رؤية محارم الله تنتهك، وإلى عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين تُرتكب المعاصي والموبقات أمام أعين المسلمين... وكأننا في المجتمعات الغربية التي لا تقيم وزنا لانتهاك المحرمات، ولا ترى أي بأس في انتشار الفواحش والموبقات بين أبنائها.

نعم... قد لا تجد في المجتمعات الغربية (اللادينية) أحدًا يعلق أو ينهى آخر إذا رآه يرتكب منكرًا وسط الشارع وأمام أعين المارة والعامة، بل ربما يعاقب من يفعل ذلك إذا اشتكى الآخر عليه للسلطات باسم انتهاك الحرية الشخصية المزعومة.

أما في مجتمعاتنا التي تدين بالإسلام فلا ينبغي لهذه الظاهرة أن تجد لها مكانًا في ظل اعتبار ديننا الحنيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا وفريضة كفائية على الأمة الإسلامية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع.

لا يمكن حصر الآثار السلبية والنتائج الكارثية التي تنجم عن غربة هذه الفريضة الإسلامية وعدم تفعيلها في مجتمعاتنا الإسلامية، ويكفي أن نعلم أن التهاون في الالتزام بها سبب في انتشار الفساد بجميع ألوانه في برنا وبحرنا، بل والتعرض لعقاب الله الشديد الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.

ففي الحديث عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (جامع الترمذي: [2340]، وقال: "هذا حديث حسن").

فهل من عودة رشيدة للالتزام بالفريضة التي تنقذ سفينة المجتمع المسلم من الغرق كما أكد الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (صحيح البخاري [2493]).

وهل من تطبيق صحيح لمفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة من الآية:105]، والذي بينه ووضحه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله: أيها الناس، إنكم تقرءونَ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» (جامع الترمذي [2168]، وقال الألباني: صحيح).

 

د. عامر الهوشان