تركيا :العثمانلية التائهة
علي فريد
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لن يتركونا.. وإن تركناهم!!
الذين فشلوا منذ مائة سنة في إسقاط القسطنطينية بحملة الدردنيل في الشمال؛ أسقطوها بإشعال الثورة العربية في الجنوب!!
إنهم الروم أصحاب القرون!!
وسيعودون.. وسنعود !!
***
لا يمكن أن نعرف الآن حقيقة ما حدث.. كلها روايات متضاربة نستطيع تصديق أكثرها غرائبية بذات السهولة التي نستطيع بها تصديق أكثرها معقولية!!
والحقيقةُ _غالباً_ رفاهيةٌ يصعب الحصول عليها!!
تركيا _في العموم_ أشبه بلعبةِ المتاهة.. لا تكاد تنتهي فيها من دهليز حتى يسلمك الدهليز لدهاليز، وفي كل دهليز ممراتٌ بِغُرَفٍ تخرج منها حيات وعقارب وأشباح ومهالك..
هي شبكة صيادٍ تَقّلبَ بها سمكُ الرَّعاد ألف مرة، وكلما حاولتَ تفكيكها تشابكت في يديك مرة أخرى مع صعقة أو صعقتين من السمك الملتف بها!!
فلا تطمع _والحال هذه_ في الحصول على رفاهية الحقيقة!!
***
هذا العثمانلي التائه لم ينجح في شيء قدر نجاحه في إصابة الناس بالتيه.. أنتَ معه متذبذب بين الفكرة ونقيضها.. بين خيالك العاطفي عن سليمان القانوني وهو يرد على استغاثة ملك فرنسا معتبراً فرنسا ولايةً تابعة له، وبين خيالك الواقعي عن عبد الحميد الثاني وهو يقود سفينة عثمانية تائهة تجري بهم في موج كالجبال.. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم!!
يعطيك أردوغان كلَّ ما تريد.. كفرَ العلمانية المحض وإيمانَ الإسلام الخالص.. ثم يتركك متأرجحاً بين صحيح العقيدة في الولاء والبراء والمفاصلة، وبين صحيح الفقه في استصحاب الواقع ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح!!
حيناً: ترى فيه وجهاً عثمانياً بقناعٍ أتاتوركي.. وحيناً: ترى فيه وجهاً أتاتوركياً بقناعٍ عثماني، فإذا نزعتَ القناعين عن الوجهين تداخلت أمام عينيكَ الوجوهُ والأقنعة حتى لا تكاد تعرف وجهاً من قناع!!
تنظر لظروف المنطقة وأوضاعها فتشعر أنه سدٌ أخير_وإن لم يكن منيعاً_ بينك وبين السيل الذي يوشك أن يُطَيِّن معالم المنطقة ليعيد بناءها حسب الخطة الجديدة.. ثم تنظر مرةً أخرى لظروف المنطقة وأوضاعها فلا تستبعد أن يكون هو ذاته دفقةَ ماءٍ شديدةٍ في هذا السيل الطامي!!
تتذكر (إنجرليك).. ومعها تتذكر التسعينات_وما أدراك ما التسعينات_حين أفتى علماء الدين وحَفَظَةُ الملة بجواز الاستعانة بالكفار في صد المسلمين المعتدين.. ثم تتذكر أنك أقنعتَ نفسَك حينها بصحة الفتوى من قبيل (الحديبية) و(ثلث تمور المدينة).. ثم ترى مآلَ الأمر بعد أن باض الكفارُ في ديارنا وفرّخوا، واتخذوا بلادنا قاعدةً لضرب بلادِنا، ولم يتركوا في نخيلنا تمرةً واحدةً إلا أكلوها ثم باعوا نواها لنا.. فلا تعرف هل المجازر التي حدثت بعد صدور الفتوى أقل حدة من المجازر التي كان يمكن أن تحدث لو لم تصدر الفتوى!!.. ثم تنتقل لمستوى آخر في المجازر لتقارن بين المجازر التي كانت ستحدث للمسلمين في تركيا وما حولها لو نجح الانقلاب وبين المجازر التي تحدث الآن للمسلمين في العراق والشام منطلقةً بعضُ أسبابها من تركيا.. فيهولك الأمر حين تكتشف أنك صرتَ تُفرِّق _في بحر الدماء دون أن تدري_ بين دم مسلمٍ ودم مسلمٍ آخر.. والمسلمون عدول تتكافأُ دماؤهم ويقوم بذمتهم أدناهم.
ثم لا تلبث أن تلعن هذا الوضع كله حين تكتشف أن مُنَظِّري الحديبية وعشاقَ فقه الواقع أوصلونا إلى لحظةٍ صرنا نوازن فيها بين إمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الشمال وإمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الجنوب.. وكأنه لا خيار أمام المسلمين إلا أن تُسفكَ دماؤهم بما جنته عقولهم!!
وحين تبتعد عن المشهد قليلاً ثم تُعيد التفكير فيه.. تكتشف أن النتائج التي تطلبها ليس لها منطلقات في أرض الواقع، وأنك تعيش وتفكر في صندوق مغلق اسمه (النظام العالمي) له منطلقاتٌ مضادةٌ تماماً للمنطلقات التي تتخيل أنتَ جريَانها في الواقع؛ فصرتَ _كلما رتبتَ نتيجةً على منطلق_ تشعر بلا معقولية النتيجة مع ذلك المنطلق؛ لغفلتك عن غياب المنطلق الذي تتوهم حضورَه.. حتى اجتمعت بين يديكَ مئاتُ(النتائج غير المعقولة) لمئات (المنطلقات المتوهَمَة).. ومع تتابع الزمن وتطاول الأمد تَسرّبَ إلى نفسك وترسّبَ فيها (لامعقوليةُ) منطلَقِكَ ذاته.. وإذ أنت بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يغلبك الشك في منطلقك فتكفر به وتصبح رقماً في صندوق النظام العالمي؛ وإما أن تكسر هذا الصندوق وتخرج إلى شمس الله المشرقة لترى منطلقاتك بنتائجها كشمس الله المشرقة!!
وقد غبرنا زمناً نطيع سادتنا وكبراءنا داخل الصندوق ملفِقِين وراءهم بين الأبيض والأسود ومُوفقِين معهم بين الظل والحرور ومساوِينَ بسببهم بين الظلمات والنور.. ولكي يتماشى الإسلام مع (صندوق النظام العالمي) جمعنا فيه الأشتات والأضداد والمتناقضات حتى صار أكثر دينٍ يجهله الإسلاميون هو الإسلام ذاته، وصارت المباديء كالسيدة الفاضلة التي يغتصبها أبناؤها بدعوى الحفاظ عليها.. وكأننا_ لشدة حرصنا على عدم تشويه الإسلام_ لم نعد مسلمين!!
أردوغان ليس أكثر من رئيس دولة علمانية وطنية ديمقراطية في صندوق النظام العالمي، يعمل بآلياته ويسير_طوعاً حيناً وكرهاً أحياناً_ بمنطلقاته.. إلا أن أصحاب الصندوق لا يريدون في هذه المنطقة الخطيرة (عقائدياً واقتصادياً) أحداً يمكن أن يزعجهم بمجرد التفكير في التعامل الندِّي معهم أو رفع رأسه لتُساوي رؤوسَهم، أو المساومة الشديدة في فتح الأسواق لمنتجاتهم وبضائعهم أو فتح القواعد لصواريخهم وطائراتهم.. ولأنهم يعرفون الخلفية العقائدية التي جاء منها أردوغان ومفاصلتَها للنظام العالمي، ويعرفون أيضاً أن مجيئه كان حسب قواعد النظام العالمي الديمقراطي؛ فإن خشيتهم من إمكانية خلخلة أسس النظام الفكرية من الداخل تظل مسيطرةً على نفوسهم وعقولهم وهواجسهم رغم ما يظهر من أردوغان بين الفينة والأخرى من مخالفة لأصوله العقائدية.. وحتى لو كان أردوغان عندنا وعندهم لا يبدو بهذه الصورة إلا أنه في تصورهم يمكن أن يكون تجربةً يُنسج على منوالها ويُسار على أثرها.. وهم لا يسمحون بالتجارب إن وصل الأمر للجذور ؛ فاستلهام الإسلام أو إعطاءُ بعضِ مَظاهِرِهِ شيئاً من حرية الحركة قد يُقبل في جزيرة العرب أو مصر أو الشام أو غيرها من المناطق التي يتعاملون معها حسب ظروفها.. ولكنه مخيف جداً في منطقة كانت_منذ تسعين سنة فقط_ عاصمة الخلافة الإسلامية ومقر راياتها الخفاقة.. وإن غاب هذا المعنى عن بعضنا في زحمة التصورات السياسية والاقتصادية فإنه لا يغيب عن الصليبيين وأحفادهم.. وكلهم صليبيون!!
***
لقد فشل الانقلاب.. لكن هل سينجح أردوغان؟!
الحمد لله على نعمة فشل الانقلاب.. ولكن هل سيأتي انقلاب آخر يقال فيه كما يقال الآن عن انقلاب مصر: الحمد لله على نعمة الانقلاب؟!
مقتل تركيا_غالباً_في جنوبها، كما أن مقتل العرب_غالباً_في شمالهم.. ثم تتكاثر المقاتل حتى لا تعرف من أين تأتي الضربات!!
سيعودون ثانيةً وثالثةً ورابعة.. بنفس الطريقة أو بطرق أخرى.. كما فعلوها بعد حملة الدردنيل الفاشلة في الشمال.. فَثوُّروا العرب في الجنوب ليسيطروا على تركيا من جنوبها.. ثم أسقطوا العرب في شمالهم بسوريا والعراق.. ليسيطروا بعدها على شمال العرب وجنوبهم وشرقهم وغربهم.. وعادوا وعدنا من حيث بدؤوا وبدأنا!!
أغلب ظني أن نجاح الانقلاب كان سيجعل من الخليج محطةً ثالثة له بعد تركيا والعراق والشام.. هذه طبائع الأشياء.. تطول الفترة الزمنية الفاصلة أو تقصر.. لقد كان فشلهم في الدردنيل مدوياً.. ولأنهم _كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم_: "أسرعهم إفاقةً بعد مصيبة وأوشكهم كرةً بعد فَرّة..." ؛ فقد أفاقوا في جنوب تركيا العربي وكروا بعد الفَرّة؛ فطوقوها من جهاتها الأربع ثم دخلوا الخليج ففتتوه إلى ما ترون.. وإنهم لعائدون لتفتيتٍ جديد!!
ومن أعجب العجب أن أردوغان _على ما فيه_ لا يزال حتى الآن، (أقول: حتى الآن) درعاً واقياً لصنفين من أعدائه: الذين يُبغضونه في الخليج، والذين يكفرونه في العراق والشام.. ولو اعتبر هؤلاء أن هذا الانقلاب الفاشل حملةَ دردنيل أخرى ثم نظروا إلى ما حدث بعدها من أهوال في العقد الثاني من القرن العشرين؛ لعرفوا ما الذي كان ينتظرهم إن سقط أردوغان.. ولا أدري والله كيف يفرح عاقلٌ بانهيار سَدٍّ كان يأتيه من بعضِ شقوقهِ بعضُ غرق، ولو انهار لجاءه سيلٌ عَرِم.. وما فكرة (إدارة التوحش) بصالحةٍ في كل حين أو مجديةٍ في كل مكان.. وقد عرفتم ما ينتظركم فتجهزوا له.
***
تبدو تركيا الآن كمضمارٍ كبير يصهل فيه فرسٌ واحد: أردوغان
هذا هو الظاهر.. والباطن يعلمه الله، ثم المتحركون فيه!!
الأخبار التي تتوالى تباعاً تؤكد أن الرجل هَبّت رياحُه فاغتنَمَها!!
من سيسأله الآن عن إقالة آلاف القضاة والعسكريين ورؤساء الإدارات والمؤسسات؟!
من المستبعد عقلاً أن نصدق أن هذه الآلاف المؤلفة شاركت (فعلياً) في التخطيط لانقلابٍ فاشل كهذا.. لقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب لتصفية حساباته السياسية مع أبشع مؤسسة عسكرية في الشرق، ثم مع الكيان الموازي.. حليفه القديم الذي أصبح _في تركيا الأردوغانية_ مشجباً تُعلق عليه كلُّ مشاكلها بحقٍ حيناً، وبباطلٍ أحياناً!!
لم أستسغ اتهام الكيان فور وقوع الانقلاب.. هذا أشبه باتهام(الإرهاب الإسلامي!!) بعد كل حدث عنيف في الغرب قبل التحقيق فيه!!
الجميع مقتنع بتورط هذا الكيان.. وأنا منهم.. ولكن لا أظن أن عاقلاً يحتاج إلى كثير تدبر ليعلم أن الدول العربية والإقليمية والعالمية التي نجحت في وأد الثورات العربية أو تعويقها كانت هي المحرك الأول لهذا الانقلاب الفاشل.. وحين يخرج الرئيس بعد ساعةٍ من بدء الانقلاب ليتهم الكيان الموازي تحديداً؛ فإن اتهامه هذا ليس أكثر من تُكأة أُحسِنَ استخدامها لضرب (البردعة) بدلاً من (الحمار) الذي يحتاج ضربُه أو مقاومتُه وقتاً وجهداً غير متوفرين الآن!!
لا تلتفت كثيراً للدعايات التجميلية التي تجعل (العقائديةَ) سبباً في معاداة أردوغان للكيان الموازي.. فلا غولن هو الشيطان الرجيم الذي يناهض أردوغان بسبب الإسلام، ولا أردوغان هو الملاك الرحيم الذي يحارب غولن للدفاع عن الإسلام.. هي مصالح سياسية قد يكون خلفها شيٌ من بُعد فكري قومي توافقت حيناً فتحالفا، ثم تضادت فتنافرا.. وقديماً قالت العرب:"لا يجتمع سيفان في غمد ولا فحلان في قَرَن"، وما إسقاط أردوغان لأحمد داوود أوغلو عنا ببعيد.. وإن من العَبَطِ العَابِطِ والخَبْطِ الخَابِطِ أن يُدخِلَ (إخوانُنا الطيبون) الدينَ في معركة بين رجلين لا فرق بينهما_في التصوف والعلمانية والتعامل مع الغرب والأخطبوطية التنظيمية والبراجماتية السياسية_ إلا كالفرق بين السبّابة والوسطى؛ يختلفان شكلاً وحجماً ولكنهما في النهاية إصبعان في يَدٍ واحدة!!
ربما أكون مخطئاً.. ولكن ضخامة الإقالات تدل على ضخامة الفرصة.. وهذا العثمانلي التائه (صَايعٌ) حقيقي رغم تيهه!! فمن الصعوبة بمكان أن نقتنع بمشاركة كل هؤلاء في انقلابٍ قُطِّعت ذيولُه في ثلاث ساعات فقط!!
هذه مَعَرّةُ الدهر لجيشٍ أنجحَ أربعة انقلابات في خمسين سنة، بعد أن أسقط قائدُه الأولُ نظامَ خلافة استمر أكثر من ألف وأربعمائة عام، وتجذرت فيه العلمانية الأتاتوركية تجذر الظفر في اللحم!!
لماذا فشلوا إذن ؟!
فتش عن القوة .. مبدأ الأمر ومنتهاه ، وما حولها أدوات مساعدة.. كلُّ أداةٍ بقدرها!!
الشعبُ بعد القوة.. والنخبة الحزبية العلمانية بعد الشعب.. ولا بأس عندي أن تضع نجاة أردوغان قبل الشعب وبعد القوة في الترتيب!!
لا تُغفل الشعب الذي خرج للحفاظ على كيانه من أوباش العسكر مصاصي الدماء.. ولكن قذيفة واحدة من طائرة انقلابية كفيلة بإعادة الناس إلى منازلهم ما لم تُسقطها قذيفة مضادة من مدفع أو طائرة موالية!!
لا تغفل رؤوس النخبة الحزبية العلمانية التي حسبت المكاسب والخسائر محمَلةً بذكريات سوداء عن انقلابات تركيا المتتابعة دون أن يكون شرف المبدأ عاملاً جذرياً في رفض الانقلاب.. فالشرف_غالباً_ كلمة لا محل لها من الإعراب في عالم السياسة.. والعلمانيون عامةً والشرقيون منهم خاصةً كدود الأرض؛ يتخلقون في الجِيَف ويعيشون عليها.. وإذا كانت الديكتاتورية بحراً فالعلمانيون أسماكه؛ إن خرجوا منه ماتوا.. وأغلب ظني أن مصلحة رؤساء الأحزاب تحديداً اقتضت البقاء مع أردوغان الذي يتهمونه_مناكفةً_بالديكتاتورية، بدلاً من الارتماء في أحضان الدكتاتورية العسكرية التي ارتموا في أحضانها سابقاً فعرفوا أنها كالفريك الذي لا يحب الشريك!!
هذه هي الأسباب الكبرى التي أدت لفشل الانقلاب في ظني.. ولو نجح الانقلاب لكان غيابُها سبباً في نجاحه سواءً بسواء!!
أما الذين يقارنون الشعب التركي في 2016م بالشعوب العربية في ثوراتها الحالية فهم مخطئون جداً.. ربما لأنهم لا يعرفون أن تركيا أمُّ الانقلابات وأبوها: انقلاب الستينات الذي افتتح دهليز الانقلابات العسكرية، ثم انقلاب السبعينات الذي سُمي (انقلاب المذكرة)؛ لأن العسكر لم يكلفوا خاطرهم بتحريك الدبابات؛ بل أرسلوا مذكرة للحكومة فسقطت دون أن يهتز شاربٌ تحت أنف أحد، ثم انقلاب الثمانينات الدموي، ثم انقلاب التسعينات الأبيض على أربكان ذي التوجه الإسلامي، والذي سُمي (انقلاب ما بعد الحداثة)؛ لأنه تم بهدوء_كالسكين في الحلاوة_ دون اعتراضٍ شعبوي أو نخبوي أو حلٍ للبرلمان أو تعليقٍ للدستور.
الشعوب نسقٌ واحد، أو تكاد تكون نسقاً واحداً.. لا يتظاهرون إلى الأبد دون قوة تحميهم أو قيادة واعية تُرشدهم وتُرَّشدهم.. وإذا كان لا بد من المقارنة فلنقارن الشعب التركي في2016م بالشعب التركي ذاته في1980م حين وقع الانقلاب الثالث على التوالي في مسيرة انقلابات تركيا الموعودة بانقلاب كل عشر سنوات تقريباً!!
استطاعت الدولة التركية العميقة تهيئة الأجواء الاجتماعية والسياسية لتقبل انقلاب السفاح كنعان إيفرين؛ فأشاعت الفوضى، وعرقلت مسيرة الديمقراطية المزعومة، وخنقت المجال السياسي العام، ودعمت إنشاء جماعات قومية متطرفة ذات توجه يميني ويساري، وساهمت في نشر الرعب والخطف والقتل وقطع الطرق والهجوم على مؤسسات الدولة وحرق مقرات الأحزاب والمقاهي والفنادق والمطاعم السياحية، وأشعلت الفتن الطائفية بين طوائف الشعب حتى وصل معدل القتل سنة 1979م إلى عشرين قتيل في اليوم الواحد.. إضافة إلى ترتيب المظاهرات والاعتصامات العمالية اليومية التي أدت إلى توقف المصانع عن العمل وتغول البطالة والفقر والمخدرات والدعارة!!
لقد تم تهيئة الشعب للانقلاب من خلال إشاعة الفوضى أولاً، ثم التركيز على تصوير المؤسسة العسكرية (خير أجناد الأرض!!) كملاذٍ آمنٍ للشعب التركي الذي لم يكن يدري_في عمومه_ أن مؤسسته تلك هي السبب المباشر في فساد وإفساد الحياة في تركيا!!
وقع الانقلاب المصنوع أمريكياً، واستقبلَه كثيرٌ من الشعب التركي بالترحاب والبهجة!!
ولو بحثتم في أرشيف تلك الأيام (لربما) عثرتم على نسخة تركية مشابهة لـ(تسلم الأيادي) و(قوم نادي ع الصعيدي) و(إحنا شعب وانتو شعب) و(إيفرين لعبها صح)!! .. وربما وجدتم أيضاً كلماتٍ لثعالبِ دينٍ تقول للعسكر (اضرب في المليان) و(ريحتهم نتنة) و(طوبى لمن قتلهم وقتلوه) .. أما جبهات الإنقاذ البرادعية النخبوية، ونشطاء السبوبة، والداعون إلى انتخابات رئاسية مبكرة، والسائرون نياماً في حزب (تركيا الطرية)، وأصحاب اللكلك الفارغ عن الوصاية العسكرية، والعلاقات المدنية العسكرية، والتافهون الذين ظلوا يكتبون بعد الانقلاب: (سليمان ديميريل سيء الذكر)، والصبيان الذين (للأسف كانوا يعرفون)، والسذج الذين كانوا يقولون:(إخوانا اللي فوق فاهمين.. وإيفرين في جيبنا).. وغيرهم ممن ابتُليت بهم مصر في ثورتها.. فيقيني أنكم كنتم ستجدون العشرة منهم بليرة في تركيا الثمانينات.
جلس الجميع على الخازوق.. وسكن الجنرالُ القصرَ بَدَلَ الثكنة ففسدت الثكنةُ والقصرُ معاً.. وبدأ عصر الإرهاب البشع باعتقال مئات الآلاف، ومحاكمة مئات الآلاف، وفرار الآلاف، وإقالة الآلاف، وإعدام المئات، وانتحار العشرات، وتقييد أسماء مليوني مواطن تركي واعتبارهم خطراً على الأمن القومي.. ولاحقاً قال إيفرين
في إشارة إلى من أُعدموا بعد الانقلاب:"هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات بدلاً من شنقهم"؟!
وسقطت سمعة الأتراك إلى الحضيض حتى إنني لا زلت أذكر أن الصورة المتخيلة للرجل التركي في أذهان أبناء جيلي أواخر التسعينات لم تكن تخرج عن صورة (الحلاق الماهر) و(معلم الشاورما والمشاوي) و(رجل العصابات) الشرير الذي يظهر دائماً بين فتاتين جميلتين شبه عاريتين!!
تغيرت الصورة تماماً بمجيء أردوغان.. واستطاع الرجل أن يذيقهم قدراً كبيراً من عسيلة الأمن والأمان والرخاء والحرية والرفاهية.. مع عودة الإحساس القومي بالعنصر التركي الذي ساهم في حكم الدنيا منذ اصطنعه المعتصم ابن(ماردة) التركية وهارون الرشيد العباسي، مروراً بسيطرته على مقاليد الخلافة، وانتهاءً بسقوطها به ومعه!!
الشعوب إذن تتغير بتغير العوامل سلباً وإيجاباً، والتهيئة النفسية لتقبل الانقلاب على أردوغان لم تحدث، وإن كان حدث بعضُها فلم تؤت ثمارها؛ لأن أردوغان عمل _بما قدمه للشعب منذ 2002م_ على تهيئته نفسياً واجتماعياً واقتصادياً لرفض أي انقلاب قادم.. وقد نجح مع الشعب التركي وفشل مع النظام الأتاتوركي!! ومجرد حدوث الانقلاب _رغم فشله_ دليل على ذلك.
القوة أولاً.. وما بعدها تَبعٌ لها.. وقد لا أكون متجاوزاً إن قلت إن (حالة الانقلاب وحالة إسقاطه معاً) حدثتا داخل إطار الدولة بين جناحيها المتصارِعَين المسلّحَين قبل حضور الشعب.. وكان الجناح الأضعف ناصراً والأقل عدداً هو جناح أردوغان الذي قَوّى حضورُ الشعب_بعد ذلك_ ضعفَه وأكملَ نقصَه؛ فرجحت كفة فشل الانقلاب على كفة نجاحه.. وقد رأيتُ ورأى غيري بعضَ اللقطات المصورة لمجموعة من الناس تخاطب _بهدوء وحكمة_ جندياً فوق دبابة.. وكأنها تستثير فيه النخوة الوطنية ليعود من حيث أتى.. كان الجندي يرد عليهم بلامبالاة واضحة حتى جاءت مجموعة من الشرطة (المسلحة) أو القوات الخاصة التابعة لأردوغان مصحوبة بالتكبيرات والهتافات؛ لتتغير نفسية الناس وتتصاعد داخلها وتيرة الرفض ثم تعتلي الدبابة وتساعد في اعتقال الجندي!!
في مصر.. كان الثوار يفعلون ذلك مكتفين باستثارة وطنية الجنود والضباط؛ لأنه لم يكن بجانبهم شُرطي مسلح يساعدهم في اعتقال الجندي المسلح.. وقد اكتشفوا بعد تجربة مريرة أن الرجل العسكري لا يقتنع _غالباً_ إلا بالقوة، وأن الوطنية عنده غير الوطنية عندنا، وأنه لا يفهم في حياته شيئاً غير إصدار الأوامر أو تنفيذها، وأنه لا يرى في المواطن المدني سوى طفل يتيم قاصر لا بد من وجود ولي أمر له يدبر شؤونه وينظم حياته ويحافظ على ماله.. (ويسرقه أحياناً.. أو دائماً)!!
عقلُ العسكري _إن كان يملك واحداً_ لا يعمل غالباً بذات الآلية المنطقية التي يعمل بها عقل المدني.. وليس أضيعَ من وقت تنفقه في إقناع رجل عسكري بالعدول _طوعاً_ عن أمر أصدَرَهُ لينفذه غيرُه، أو أمرٍ تلقاه لينفذه هو!!
لقد خرجت شعوب الثورات العربية بكثافة للحفاظ على ثوراتها من مصاصي الدماء، والمواقف التي شهدتها بنفسي أكثر من أن تُحصى.. بيد أن هذه الشعوب افتقدت لأمرين مهمين: القوة الحاسمة، والقيادة الواعية.. والعار _إن جاز أن نَصُبّهُ على رأس أحد_ فلن يُصبَّ إلا على رأس تلك القيادات التي فشلت _على سبيل المثال لا الحصر_ في الحفاظ على مظاهرة واحدة مثل مظاهرة رمسيس الضخمة.. والأمثلة بعد ذلك قاتلة للقلب والروح لا أحب الخوض فيها أو تذكرها!!
حالنا الآن يشبه _إلى حدٍ كبير_ حال تركيا في الثمانينات.. وليس حتماً أن نستغرق كل هذا الوقت لنصل إلى ما وصلوا إليه؛ فإن التغيير في كل منطقة مرتبطٌ بأحوالها ومواضعاتها وأنساقها.. وأغلب ظني أن المنطقة كلها مقبلة على تغييرات جذرية قد لا تُعطي الفرصة لتغيراتٍ تقليدية.. وإن ذلك لحسنٌ في عمومه رغم ما سيُصاحبه من أهوال!!
وأظنني لن أكون مبالغاً إن قلت: إن المقارنة بين أردوغان ومرسي _غفر الله له وفك أسره_ لن تكون في صالح أردوغان.. فمجرد حدوث الانقلاب بعد كل تلك السنوات من العمل والتدرج في التمكين؛ دليلٌ على فشل كبير يقع وزرُه على أردوغان وصحبه، خاصةً وقد اكتسبوا _من الخبرة الطويلة في الحكم_ عقليةً واعيةً تُحسن التصرف في الملمات.. وهو ما لم يتهيّأ لمرسي وصحبه.. وكلامنا هذا ليس فيه أدنى تبرير لأخطاء مرسي.. بل هو فَهمٌ خاص لا بأس عندي في مناقشته أو رفضه.
بيد أن أردوغان أحسن النهوض بعد عثرته، واستغل الفرصة لإحكام سيطرته.. ولأن الضعفَ مُسقطٌ للتبعات؛ فإن القوةَ مَجلَبةٌ لها.. وإني لأخاف على أردوغان ومنه في وقت قوته؛ أكثر مما أخاف عليه ومنه في وقت ضعفه؛ فما يُمكن أن يُعتَذَرَ به للضعيف قليلِ التمكين لا يُمكنُ أن يُعتذرَ به للقوي المتمكن.. إلا إذا أَدْخَلَنَا (إخوانُنا الطيبون) في متاهة درجات التمكين المتتابعة؛ فكلما تمكن من مِفصل قالوا بقي مِفصل؛ فإذا تمكن منه قالوا بقيت مفاصل.. وهكذا دواليك حتى تكاد تظن أن التمكين لا يتم إلا بامتلاك العالم!!
يبدو الأمر سابقاً لأوانه.. ولكني أظن أن أول ما سَيُقال بعد قليل: ها قد سيطر فكان ماذا؟!
ومقتلُ أردوغان في هذه الـ(ماذا)!!
لقد كسب أردوغان جولةً.. ولكنه يعلم أن أمامه جولات وجولات.. فهل سيخضع حفاظاً على مكتسباته معتبراً ما حدث (قرصةَ أذنٍ) إن لم يعتدل كما يريدون ستتبعها قرصات.. أم سيوغل في تحطيم القرص الصلب للدولة الأتاتوركية وصناعة قُرصٍ آخر في منطقة يعتبر الصليبيون العبثَ بأُسسها التي وضعوها مسألةَ حياة أو موت؟!
إن الهجمة الإعلامية الغربية الشرسة على إقالات وتوقيفات أردوغان للانقلابيين تدل على ما يمكن أن يحدث من هذه الخنازير الديمقراطية المتوحشة التي لم تنبس ببنت شفة حين حُكِم بالإعدام على رئيس جاء بالديمقراطية في الوقت الذي هاجوا فيه وماجوا لأن رئيساً جاء بالديمقراطية يحاول الحفاظ على مكتسبات شعبه الديمقراطية من العسكر أعداء الديمقراطية.. وقد بُحت أصواتنا ونحن نقول إن الديمقراطية عندهم ليست أكثر من صنم عجوة إن جاعوا أكلوه!!
لقد أذل أردوغان غلمانَهم؛ فأخرجهم أمام الكاميرات في صورة مزرية ناكسي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.. جنرالات، عمداء، عقداء، قادة، كانوا قبل قليل ملء السمع والبصر؛ فأصبحوا لا يُرى إلا ذلهم وانكسارهم وحقارتهم.. وهذه صورة لا يمكن أن يسمح السادةُ بظهور أذنابهم فيها.
خطورة الصورة تكمن في ما تُرسّبُه في النفوس من معانٍ جديدة تكشف للناس أن هذه الطواويس المنتفخة يمكن أن يعتقلها (شابٌ ملتحٍ) مقيدةَ اليدين للخلف مطأطأة الرأس ذليلة النفس لا تملك من أمرها شيئا.. هذه الصورة كانت حكراً على المسلمين والعرب وأعداء الغرب عموماً.. فعلوها مع صدام، كما فعلوها مع آساد غوانتنامو، كما فعلوها مع مظاليم أبو غريب، كما فعلوها مع المجاهدين في كل مكان.. وربما تفعل الصورة ما لا تفعله الجيوش والأساطيل فتقتل النفوسَ وتُحبط العزائم قبل أن تتحرك الجيوش والأساطيل!!
وهاهو أردوغان يستخدم (أسلوب الصورة) لتتجذر في نفوس الناس إمكانيةُ تكرارها في أماكن أخرى.. وإذا سقطت هيبة الغلام سقطت هيبة سيده، وإذا سقطت هيبة السيد كان كالبعير الذي إذا وقع كثرت سكاكينه!!
بيد أن أردوغان في وضعٍ لا يُحسد عليه.. فهو إن اعتدل لهم اعوجّ للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندنا!!
وإن اعوجّ لهم اعتدل للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندهم!!
وهما أمران أحلاهما مُر.. غير أني لم أعد أستسيغ الفكر التلفيقي الذي يقوم على التوظيف المُريب للحديبية، وثلث تمور المدينة، والفترة المكية، وفقه الواقع، ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح..
لم أعد أستسيغ أن يخبرني (إخوانُنا الطيبون) أنني إن لم أقبل قتلَ مائتي مسلم في (منبج) فإن ثلاثمائة مسلم سيُقتلون في (طرابزون).. وكأن حُسن السياسية لم يعد يمر إلا على أشلاء المسلمين!!
أعرف أن الواقع مربكٌ ومتشابك.. ورفع سقف التوقعات يُنتج _غالباً_ إحباطاً ويأساً، ولكن حَصْر الناس بين السيف والجدار مناقضٌ لسنة التدافع الثابتة.. ومن المعيب أن يُنجينا الله من الغرق بمعجزة ثم نكون كالذين قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة !!