خواطر كاتب اسلامى حول ثورة 23 يوليو 1952م

عبد المنعم منيب

ارتبطت ثورة 23 يوليو 1952 باسم جمال عبدالناصر فما إن يتم ذكر الثورة حتى يتم ذكر عبدالناصر؛ فقد مرت الثورة بأطوار عدة أفضت إلى اختزالها بالزعيم أو إن أردت تخفيف التعبير قل توحدها مع الزعيم فصارت الثورة هي الزعيم والزعيم هو الثورة؛ ومن هنا يأتي تناولنا لشخصية وسياسات جمال عبدالناصر زعيم الثورة من وجهة نظر الإسلاميين تحديدا من باب تناول انجازات واخفاقات الثورة التي هي في التحليل الأخير انجازات واخفاقات الزعيم أيضا.

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

ارتبط جمال عبدالناصر في أذهان الإسلاميين بكافة اتجاهاتهم بأنه عدو للإسلام كشريعة وعقيدة باعتباره كان تابعا لجماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة وقام بالثورة لحسابهم أو على الأقل بمساندتهم وبعد ذلك خانهم وانقلب عليهم فسجنهم ونكل بهم أبشع تنكيل كما قام بالإجهاز على ما كان تبقى من استقلال مؤسسة الأزهر وألغى القضاء الشرعي وضيق على الجمعيات الإسلامية بل ألغى معظمها كما رسخ للعلمانية في مصر واتخذ من النموذج الغربي في الحياة نبراسا لنظام حكمه خاصة النموذج الماركسي بسبب تحالفه مع الإتحاد السوفيتي السابق وكتلته الشيوعية؛ وفي نفس الوقت فشل في النهوض بالبلاد ليصير لها مكانتها بين الدول المتقدمة على مستوى العالم.

وكان من نتيجة ذلك تدهور الاقتصاد والانكسار العسكري مرتين واحدة في حرب 1956 والثانية في كارثة 1967؛ ويرى الإسلاميون أن عبدالناصر عوضا عن تحقيق نهضة حقيقة استغل آلته الإعلامية الضخمة في بناء زعامته في مصر والعالم العربي على أسس وانجازات وهمية انساق وراءها جماهير غلب عليها عدم الوعي بمساوئ الديكتاتورية الناصرية وما جرته على الأمة من هزائم على الأقل في مواجهة اسرائيل.

كما رأى بعض المحللين الإسلاميين أن عبدالناصر جاء انقلابه العسكري بمساندة أمريكية بهدف احتواء ثورة شعبية كان الشعب المصري مهيأ لها وكان من المتوقع أن يتزعمها الإخوان المسلمين أكبر تنظيم إسلامي وسياسي في مصر في ذلك الوقت.

وفي الواقع فإن في تصوارات الإسلاميين عن جمال عبدالناصر وثورته وعهده العديد من الأراء التي جانبها الصواب بسبب اعتمادها على الإطلاق والتعميم في الأحكام السياسية والاقتصادية وأيضا في التحليل وإغفالها لأهمية تقسيم الأحداث والحكم عليها بأحكام جزئية وتحليلها بشكل نسبي وبشكل فيه مقارنة مع العديد من الأحداث المشابهة في الداخل والخارج؛ وسنلاحظ أن نفس الفخ وقع فيه الناصريون والقوميون في حكمهم على عصر عبدالناصر أو في حكمهم على الحركات الإسلامية خاصة الإخوان المسلمين.

حقيقة كانت مصر مهيئة لثورة شعبية في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي؛ وحقيقة لم يكن هناك من القوى الوطنية من يملك رؤية سياسية تؤهله لقيادة مثل هذه الثورة غير الإخوان المسلمين ويليهم (بحجم تنظيمي أقل) الماركسيين؛ ولكن كلا التيارين كان عنده مشكلاته وتعقيداته الداخلية التي منعته من استثمار الموقف؛ وجمال عبدالناصر وتنظيمه من الضباط الأحرار كان أيضا من القوى الوطنية؛ كما أن جمال عبدالناصر تحديدا أجاد قراءة الواقع المصري وما به من فرص الثورة قراءة سياسية واستراتيجية صحيحة مكنته من التعامل مع هذا الواقع بنجاح أدى في النهاية لنجاح ثورته وتفرده بالحكم بدرجة أو بأخرى.

لم يكن عبدالناصر إسلاميا من الإخوان المسلمين ولم يكن ماركسيا لكنه كان وطنيا برجماتيا تمكن من اقتباس العديد من أطروحات سائر القوى السياسية النظيفة في ذلك الوقت من كافة الاتجاهات وكون منها مزيجا صار فيما بعد هو ثورة يوليو ونظامها وفق نكهة وبصمة جمال عبدالناصر بجانب تأثير رؤى بعض من حوله من ساسة ومفكرين وصحفيين وضباط جيش وغيرهم؛ كانت علاقات عبدالناصر تحديدا بكل من الإخوان والماركسيين علاقات تكتيكية بحتة؛ وكونهم لم يفهموا ذلك فذلك يحسب نجاحا لبرجماتية جمال عبدالناصر وقدرته على الغموض والمناورة أكثر من كونه أي شئ آخر؛ هذا إذا كنا وضعنا الكلام عن أخلاقيات الصدق والوفاء جانبا بحسباننا نتكلم عن رجل برجماتي لا صلة له بسياسة عقائدية لها أسسها الأخلاقية سواء كانت إسلامية أم غيرها.

أما كلام كل من تكلم عن إنشاء عبدالناصر لآلة إعلامية جبارة صنعت زعامته في مصر والعالم العربي ففيه صدق وفيه أيضا مبالغة؛ فعبدالناصر لم يكن رجلا تافها ليس له أي انجازات سوى ما صوره إعلامه؛ صحيح هو اهتم بالإعلام وأنشأ آلة إعلامية جبارة روجت لزعامته وانجازته لكن الرجل كان له انجازات كبرى في مصر والعالم العربي والعالم الثالث؛ في مصر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فعبد الناصر استفاد من الميول الاجتماعية لدى الماركسيين الذين احتك بهم قبل ثورة يوليو كما استفاد من سائر أفكار القوى السياسية ذات الرؤى الاجتماعية والاقتصادية كمصر الفتاة والإخوان المسلمين والمفكرين والكتاب المستقلين الذين ماجت بهم مصر عشية ثورة يوليو 1952.

فلا يمكن انكار انجازات عبدالناصر في مجالات التعليم سواء بالتوسع في إنشاء المدارس والجامعات أو في مجال إقرار مجانية التعليم؛ كما لا تخفى انجازاته في مجال الصناعة بتشييده صروحا صناعية ضخمة ولا في مجال إعادة توزيع الثروة بطرق مختلفة وفي مجالات مختلفة؛ وفي مجال إعادة توزيع الأراضي الزراعية بعدما كان 2% من ملاك الأراضي الزراعية يملكون 98% من الأراضي الزراعية بينما يملك 98% من الملاك 2% من الأراضي الزراعية؛ كما لا يمكن انكار ما قام به في مجال تمصير الاقتصاد المصري بعدما سيطرت عليه القوى الرأسمالية الاحتكارية الدولية؛ وحتى في المجال الذي فشل فيه فشلا ذريعا وهو المجال العسكري فلا يمكننا انكار أنه وضع أسس بناء جيش كبير وقوي ممهدا بذلك لنصر أكتوبر 1973.

كما أن عبدالناصر ساهم في مساندة حركات التحرر الوطني في العالم العربي والعالم الثالث؛ كما ساند الأنظمة المناهضة للامبريالية الغربية وتعاون معها؛ وذلك كله يمثل في التحليل الأخير نفوذا مصريا في هذه الدول التي ساندها ومن شأن هذا النفوذ أن يدر على مصر مصالح ومكاسب سياسية واقتصادية كبيرة فضلا عن تعظيم ذلك كله لدور مصر الإقليمي والدولي على حد سواء ومن ثم الحفاظ على مصالح مصر على المستويين الإقليمي والدولي دون كبير عناء.

لكننا لو اكتفينا بهذا التقييم العام لفترة الرئيس جمال عبدالناصر سنكون وقعنا في الفخ التحليلي الذي أشرنا إليه في بداية الموضوع وهو الفخ الذي يقع فيه كثير من الناصريين والقوميين والإسلاميين إنه فخ التعميم وعدم المقارنة.

فلو سردنا سلبيات عبدالناصر وعممنا الحكم على كل أعماله بالسلبية انطلاقا من هذا لأخطانا ولو سردنا ايجابياته وعممنا الحكم بالإيجاب على كل أعماله لأخطأنا.

لو قارنا جمال عبدالناصر بالزعامات التي لم تنجز مثل ما أنجز في العديد من الدول العربية في الماضي والحاضر لجعلنا لعبدالناصر مجدا لا يضاهيه مجد؛ ولما تمكنا من تفهم العديد من أخطائه وسلبياته؛ ولو قارنا ما فعله عبدالناصر بما أنجزته بلاد كالصين والهند مثلا في نفس الفترة التي حكم فيها عبد الناصر مصر لوضعنا عبد الناصر في الحضيض.

عبدالناصر كان ديكتاتورا لكنه لم يقم بانجازات الصين التي حكمتها ديكتاتورية في نفس الفترة تقريبا وفي ظروف أشد قسوة من ظروف مصر عبد الناصر؛ أما الهند فقد بدأت استقلالها ونهضتها في وقت قريب من ثورة يوليو لكنها اختارت الديمقراطية وأنجزت انجازات تفوق ما قام به عبدالناصر بكثير.

من منظور إسلامي لابد أن يكون العدل هو معيار أي تقييم مهما كان بغضنا للشخص أو الموضوع الذي نقيمه؛ قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة:8]؛ عبدالناصر له انجازات ملموسة وعديدة كما له سلبيات ملموسة وعديدة؛ ولابد من تقييم كل منها تقييما علميا وموضوعيا للاستفادة منها.

كما أن هناك العديد من الأمور التي قام بها عبدالناصر لابد من تبيين الموقف الإسلامي منها بوضوح لأنها بدأت تفرض نفسها على واقعنا المعاصر مثل سوء توزيع الثروة ومثل ديكتاتورية الحكم وقمع الحريات وغير ذلك؛ فعلى سبيل المثال في الفقه السياسي الإسلامي لا يوجد شئ اسمه شرعية ثورية فكل شئ يخضع للشريعة الإسلامية عبر القضاء الذي يتحتم أن يكون مستقلا؛ فلا يوجد في الفقه الإسلامي شئ اسمه قضاء يتقيد بأي شئ سوى الشريعة الإسلامية وقواعدها ومقاصدها فالقضاء يجب أن يكون مستقلا تماما ولا تأثير عليه من أحد.

كذلك في مجال الاحتكار يتحتم على الدولة التدخل لمنعه وارجاع الأسعار لوضعها المعتاد والطبيعي؛ كذلك في مجال إعادة توزيع الثروة مجال التأميم والمصادرة هو مجال ضيق جدا وتحكمه أحكام القضاء بشكل أساسي لكنه فعال جدا لأن الشريعة لا يمكن أن تضفي أي مشروعية على أي مال حرام أو تربح من المنصب الحكومي أو السلطة أو الغش أو الخداع أو الاحتكار أو حتى الامتناع عن الزكاة ونحو ذلك.

أما الديكتاتورية فهي أم المصائب ولا يقرها الفقه السياسي الإسلامي والنموذج الأمثل للحكم حسب هذا الفقه هو نموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشورى والعدل والشفافية.

وهكذا فإن جمال عبدالناصر وثورة يوليو لا بد من استخلاص الدروس والعبر من سلبياتهما وايجابياتهما مع تبيين رأي الفقه السياسي الإسلامي في القضايا التي يثيرها عصر عبد الناصر بدلا من تمجيده أو ذبحه.