حريق في العيد ...

أم هانئ

وبينما أُحدِّث الصغار لأهدّئ من روعهم - وقد تأثرتُ بجزعهم ودموعهم- وقعت عيني على الماء الجاري على الأرض، فإذا بدماء تخالطه زائدة عن الحد!!

  • التصنيفات: قصص مؤثرة -

توطئـــــــــــة
الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد :
عنّ لي يوما أن الله يقدر وقوع حدث ما ليستخرج به من عباده ما يسترون من معتقدات، ويجلي لهم ما قد وُوريَ من أخلاقيات تبدو بعفوية فيما يقومون به من سلوكيات؛ كردة فعل للحدث الذي قدر الله وقوعه لهم أوأمامهم أو بينهم: فمنهم من يخرج من ذلك الحدث مأجورا، ومنهم من يخرج منه آثما مأزورا، ثم ينجلي الحدث وتنكشف عن القوم الغمة، وقد لطف الله فيه بعباده أحسن لطفه وأتمه!

وإن أردنا التقييم لردة الأفعال تلك لزمنا قياسها على المراد منا في الشرع، حينها وحينها - فقط - نعلم هل نجحنا أم رسبنا ؟هل باعدنا أم سددنا أم قاربنا ؟ ثم أي شيء من تلك التجربة فيما يستقبل استفدنا؟
تُرى من منا ستختلف ردة فعله إلى الإيجاب، ومن منا سُيهدى فيما يستقبل إلى السداد والصواب، ومن منا سيخرج مأجورا سالما من الإثم ليس مأزورا؟!

وقد حدث يوم عيد الفطر بُعيد صلاة الظهر:

أن كنتُ في بيت العائلة أنا و أمي وأبي وبعض الصغار حاضرة: فمنا من ينام، ومنا من يتحدث مع غيره في سلام، وإذا بدخان يتصاعد يملأ المكان، وإذا بصوت امرأة من الجيران : حريق و نيران حريق و نيران !! ففزعت أمي إلى النافذة: فإذا بدخان كثيف ورائحة حريق نافذة، وإذا الطابق الثاني مصدر الدخان، عجبا فقد كان الجو صافيا منذ ثوان!! وحين توجهنا ناحية الدرج لم نر شيئا من كثافة الدخان، ولا استطعنا الثبات في المكان، كذا لم نعلم أأصحاب المنزل حاضرين؟ أم في مكان آخر غائبين؟
ومع مرور الوقت، لم نسمع حركة ولا صوت!! يبدو أنه لم ينتبه إلى الحريق أحد من الرجال؛ فلم يهب أحد لمعالجة الحال!
ومع تزايد كثافة الدخان؛ صعب التنفس في المكان!

- فقالت أمي: هاتي الصغار وهيا نغادر في الحال؛ تخشى أن تمس النار أنابيب الغاز؛ فينفجر المبني لا مناص!!
- فقلت وأنا بكامل ثيابي ألتحف: الله يلطف، الله يلطف!!
فبدأت أمي تصرخ بحدة؛ ليهب من يستطيع من الرجال إلى النجدة، والحق لم أنهها؛ لأنني وجدت أن أسرع وأنجع طريقة لاستدعاء القوم

-على الحقيقة- حدة صراخها!! بينما بدأ الصغار يفزعون وبشدة يبكون، بدأ جمع من الرجال يتوافدون يبدو أنهم كانوا قائلين؛ ومن ثيابهم كانوا متخففين.
ومن الطابق الرابع نزل شقيقي على عجل؛ أفزعه صراخ أمي يسأل عن الخبر، ثم نزلت شقيقتي وزوجها عدوا من الطابق السادس، يظنان أن الحريق عند أمي في الطابق الثالث، بينما وقفت جارتنا في طابقها الخامس بلا حجاب متخففة - المسكينة- من الثياب وقفت تصرخ  وتبكي في جزع وحرج ؛ لأن صغارها كانوا منذ لحظات نازلين على الدرج !!
ولأن من يسكنون في مقابلة المنزل المحروق كانوا غائبين؛ حمل الرجال الماء من عندنا ومن أعلى الطوابق مضطرين: حمل الجميع الدلاء، وبدأ القوم يغمرون المكان بسيول من الماء، بينما أسرع من أسرع بما توافر لديه من أنابيب مادة الإطفاء.
أسرعت إلى المرحاض؛ لأساعد في ملء ما أجد من أواني و أغراض، فوجدت أبي يتوضأ على حوض الماء؛ فاضطررت إلى ترك الأواني والدلاء!
ومع تواصل صوت الصراخ من بعض النساء، واشتداد فزع الصغار وشدة البكاء، وقفت هناك حائرة، كأن قواي خائرة، وكان أبي شديد الأناة في الوضوء، يتمه بتؤدة وهدوء، فقلت له في رجاء: أبي - فضلا- أسرع نريد صنبور الماء!
- قال بعجب: يا بنيتي مالك !! أليس صنبور المسبح أمامك!! حينها انتبهت وإلى صنبور المسبح وجهي يممت، وبينما أملأ الدلو، دخل غريب يحمله مني على الفور، والحمد لله كنت مستورة بكامل الثياب، على وجهي - بفضل الله - الحجاب !!
- قلت حين منّ الله علي ببعض الهدوء والصفاء: لم لا نتصل بالشرطة أوبمركز الإطفاء ؟! فخرجت مسرعة أبحث عن هاتفي النقال، فوجدت شقيقي قد أنهى بهم الاتصال!!

وبدأ الرجال يكسرون الباب؛ ظنا منهم أن أرباب البيت في غياب، فإذا برب البيت يفتح الباب، ويخرج الأولاد وأمه وزوجه بغير حجاب!!
صعد الأولاد إلينا بينما لم تتمكن المرأتان من الوصول إلينا؛ لأن الرجال كانوا متراصين على الدرج؛  فوجدت المرأتان في الصعود إلينا كل الحرج، بينما نزلت الزوجة وقد التفت بملاءة تستتر بها، نزلت على حالها أم زوجها!!
دخل الرجال بأنابيب الإطفاء، وبما يحملون من دلاء مملوءة بالماء، فوجدوا الآرائك مشتعلة بالنيران، والشرر يتطاير منها في كل مكان، وبفضل الله حجموا النيران، بأن حملوا الآرائك وألقوها من النافذة بغير توان، ثم وقفوا جميعا يلتقطون الأنفاس؛ بعد أن اطمأنوا أن النيران لم تُصب أنابيب الغاز.

وحين نما إلى علمنا انتهاء الخطر لهجنا بالحمد، ثم أسرع كل منا إلى أقرب مقعد، بينما كان أبي منذ زمن يصلي على مقعده إلا أن وجهه نمّ عن ارتياحه وفرحته!
وبينما أُحدِّث الصغار لأهدّئ من روعهم - وقد تأثرتُ بجزعهم و دموعهم- وقعت عيني على الماء الجاري على الأرض، فإذا بدماء تخالطه زائدة عن الحد!!
- فسألتُ : من أين تأتي تلك الدماء، وما كل هذا الكم الذي يخالط الماء؟!
- قالت شقيقتي: إنه من قدمي: حين نزلت مسرعة لم أرتد حذاء، ووجدت صغيرتي تعاني من اختناق، فأسرعت ملهوفة إليها، وكانت تمسك بزجاجة في يديها فوقعت وانكسرت، ثم على بعض الزجاج قدمي وطأتْ؛ فجرحت في العمق قدمي وسال على الأرض دمي!!
- قلتُ: إنا لله وإنا إليه راجعون، والتفت الجميع إلى قدمها ينظرون: فمن قائل: اربطيها، ومن قائل: قد تحتاجين أن تقطبيها.
- ومن قائل: أهكذا العيد، ياله من يوم سعيد !! وبينما انشغل القوم بمعالجة قدمها، كل يحاول كف دمها، التفتُّ إلى صغار الجار أسألهم عن سبب الحريق وما قد آل؟

- فقالوا: كنا نجلس معا في مكان، بينما كان الكبار شبه نيام، ثم انتبه أحدنا إلى النيران تخرج من الحجرة الخاوية بجوارنا؛ فأسرعنا نعلم الوالد، فأخذ يعمل على إطفاء الحريق يجاهد، وكانت جدتي تصرخ طالبة النجدة، إلا أن صوتها حُبس بشدة !! فلما غلبت والدنا النيران؛ قال أسرعوا جميعا بمغادرة المكان، وقد كان ما كان!!
وهنا علا صوت هاتف أخي النقال: فسمعته يقول بصوت صبور: لا داعي للحضور؛ انتهى الحريق على خير، ولم يُصب - الحمد لله - أحد بضير.
- فسألتُه: من كان المتصل ؟!
- قال بغيظ وشقاء : ذلك مركز الإطفاء يتفقدون من مكانهم الأجواء!
وأخذ بعض الرجال إلى المشفى القريب الجار؛ فقد احترق: كفاه، وقدماه، ويسير من لحيته مع رقبته، ثم عاد بعد قليل بصحبة كوكبة من الناس، وقد التفت جميع حروقه بالشاش.
فقلتُ في نفسي أدعو لهم وأذكرها : اللهم أجرهم في مصيبتهم وأخلفهم خيرا منها، ومن العجب أن كل الصغار، سقطوا نياما باقي النهار!
الحمد لله الذي قدر ولطف، وبفضله رحم وخفف.
انتهــــــى .
-------------------------------------------------------------------
فائدة :

- قال ابن تيمية رحمه الله: "...ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته} فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء كما جعل العظمة بمنزلة الإزار. ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد هو التكبير وكان مستحبا في الأمكنة العالية كالصفا والمروة وإذا علا الإنسان شرفا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم وعند الأذان يهرب الشيطان. قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ."[مجموع الفتاوى: 10/ 196].
**وقال ابن القيم رحمه الله:
"فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه:

يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإن التكبير يطفئه». لما كان الحرق سببه النار، وهي مادة الشيطان التي خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، كان للشيطان إعانة عليه. وتنفيذ له. وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهذان الأمران، وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بني آدم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد، وكبرياء الرب- عز وجل- تقمع الشيطان وفعله. ولهذا كان تكبير الله- عز وجل- له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله- عز وجل- لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه، أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته، فيطفىء الحريق، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا، فوجدناه كذلك، والله أعلم". [زاد المعاد: 4/ 194- 195].