بيان إلى حكام العرب والمسلمين، إني لكم ناصح أمين

راغب السرجاني

لقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليكم بشرف عظيم، فأنتم تقودون خير أمة
أُخرجت للناس، فلا ترضوا بصِغار الأهداف، ولا بسفاسف الآمال، إنما
احرصوا على استغلال أعماركم وسلطاتكم وقدراتكم في سبيل عزّة هذه الأمة
ورفعتها..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


من المؤكد أن قيمة الحاكم في الشّرع عظيمة، ومسئوليته جليلة، وهو من أقرب الناس إلى الجنة لو كان عادلاً، ولقد ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى يُظِلُّ بظله يوم القيامة سبعةَ أصناف من عِباده، فبدأ بالإمام العادل[1]؛ لأن صلاح هذا الإمام وعدله لا يعود عليه فقط، ولا يعود على مجموعة من الأفراد فحسب، بل يعود على الأمة جميعًا. ومن هنا كان لزامًا على كل المخلصين أن يوجِّهوا نصحهم وإرشادهم إلى الحكام وولاة الأمر حتى يبصِّروهم بما ينبغي فعله، وبما يصلح شأنهم وشأن الرعيّة؛ ولذلك فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ». ولما سألوه: لمن يا رسول الله؟ قال: « لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »[2]. فبدأ بأئمة المسلمين؛ لأن صلاحهم صلاح الأمّة، وفسادهم فساد الأمّة.

ومن هذا المنطلق وجدت واجبًا عليَّ أن أرسل هذه النصيحة المتجردة لله سبحانه وتعالى لكل حُكَّام العرب والمسلمين، وأنا على يقين أن الله سبحانه وتعالى سيحملها عنّي إلى الحكام الذين يحملون في قلوبهم خيرًا؛ عسى الله سبحانه وتعالى أن يغيِّر من أحوالنا إلى الأصلح والأفضل.

وسبب هذا التوقيت في إرسال الرسالة هو التزامن مع مرور إحدى وستين سنة على إعلان دولة الكيان الصهيوني في فلسطين الحبيبة، وإذا كنا نقول: إنّ هناك أدوارًا على كل المسلمين في تحرير فلسطين، فإنَّ الحكام عليهم أضعاف أضعاف هذه الأدوار، فعلى قدر المكانة تكون المسئولية، والزعامة -في تصوري- ليست تشريفًا إنما هي تكليف. أسأل الله أن يهديكم ويهدينا إلى سواء الصراط.


السادة الأجِلاَّء حكام العرب والمسلمين..
لا يغيب عن حضراتكم -أصحاب الجلالة والفخامة والسمو- الوضع المؤلم الذي تمرّ به الأرض المباركة، والأزمة الطاحنة التي تعيشها أمتنا، وهي ترى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في أيدي الصهاينة المعتدين، والسنوات تمرّ فلا نرى إلا ديارًا مهدَّمة، وأراضي مجرَّفة، وحُرماتٍ منتهكة، والآلاف من الشهداء، وعشرات الآلاف من المأسورين، ومئات الآلاف من المحاصَرين والمجوَّعين، وملايين المشردين.

والسؤال: إلى متى هذا الهوان؟!

أليس هناك سبيل لتحرير الأرض المباركة؟

أليس هناك وسائل لإرجاع الحقوق إلى أصحابها؟


إنَّ البعض قد يرى القضية معقَّدة غاية التعقيد، وقد نختلف عند البحث عن طرق الحل، فنقترح عشرات ومئات الحلول، ثم نرى أن هذه الحلول ما أسفرت عن شيء، وما حققت تقدمًا، فلا بُدَّ إذن من وقفة، وإعادة النظر في الموضوع برُمَّتِهِ.

وإني -أيها الحكام الكرام- قد قرأتُ التاريخ، ووعيت دروسه، ورأيت مثل هذا الموقف عشرات المرات، فكم من بلاد المسلمين احتُلَّ قبل ذلك، وكم من الأزمات مررنا بها، ولاحظتُ أن آليات الخروج من هذه الأزمات واحدة، ولو أخذنا بما أخذ به السابقون لتحقق لنا ما تحقق لهم من مجدٍ وعز وشرف، ومن هنا أحسست أنه من واجبي أن أتقدَّمَ إليكم بهذه النصائح، وشعاري في ذلك شعار الأنبياء: إني لكم ناصح أمين..


أولاً: لا بُدَّ من تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى في البلاد؛ فقد أنعم الله عليكم بالتمكين في وطنكم، فليس مقبولاً أن يكون شكرُ النعمة هو تجنيب الشرع، فوالله إنها لأمانة عظيمة، وجب عليكم أن تقوموا بها، وهذه هي مهمتكم الأولى، وشرع الله لا يعني الحدود فقط، ولكنه يعني تطبيق ما أراده الله منا في كل أمور الحياة، وهذا يشمل مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام والجيوش والقضاء والقوانين والمعاهدات.. يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. والعقل لا يمنع أبدًا تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى، بل إنَّ عقلاء العالم من غير المسلمين يشهدون للتشريعات الإسلامية بالروعة والإبهار، وإذا كان البعض يخشى من القوى العالمية -وفي مقدمتها أمريكا- إذا رأت توجُّهًا إسلاميًّا في البلاد، فإني أؤكِّد لكم أن الله سبحانه وتعالى لا يترك من لجأ إليه، وأنكم بتطبيق شرع ربِّكم تنالون نصره وتأييده، وعندها لا تقف أمامكم قوةٌ في الأرض، فإذا أردتم عزًّا في الدنيا فعليكم بالقرآن والسُّنَّة، وإذا أردتم عزًّا في الآخرة فعليكم بالقرآن والسنة، وإذا أردتم عزًّا فيهما معًا فعليكم بالقرآن والسنة.

إننا -أصحاب الجلالة والفخامة والسمو- لا يمكن أن نحقِّق نصرًا بغير تأييد الله لنا، والأمرُ بأيدينا، فقد قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فطلب منا كخطوة أولى في طريق تحقيق النصر أن ننصر الله سبحانه وتعالى، ونصرُنا لله يكون بتطبيق شرعه، وتنفيذ قانونه.. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ومن هنا فأوَّل الخطوات لتحرير فلسطين، وكل البلاد السليبة، وكذلك الخروج من كل الأزمات السياسية والاقتصادية وغيرها، هي -بلا شك- تطبيق الشريعة الغَرَّاء التي سمتْ فوق كل قوانين الأرض.


ثانيًا: حفظ مكانة العلماء في الأمة:
لسنا في حاجة لتوضيح قيمة العلماء في الأمة، فقد جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء، وهم بذلك قد نالوا شرفًا ما ناله أحد، وإذا أردتم عِزَّة وشرفًا فعليكم بحفظ مكانة العلماء، وتقديم رأيهم، والاستماع إلى نصحهم، فكم من القضايا تلتبس على أفهام الناس، ويكون حلُّها عند عالم مخلص، لا يسعى إلى مديح، ولا يهدف إلى سلطة أو ثروة.

ولسنا نعني بإبراز قيمة العلماء أنهم سيقودون الأمة بدلاً منكم؛ فنحن نعرف جيدًا أن الساسة والأمراء لهم نظرة قيادية قد تغيب عن العلماء، ولهم دراية بفنون الإدارة والنظام، وبفنون التفاوض والتصالح، وكذلك بفنون القتال والمعارك.. إننا نريد تعاونًا وتكاملاً بين الأمراء والعلماء، ويوم يحدث هذا التعاون فإننا سنرى ثمارًا لا نحلم بها، ونعيش في مجدٍ لم نفكر فيه.

إنَّ حقيقة الأمر -أصحاب الجلالة والفخامة والسمو- أن كثيرًا من العلماء في الأمة الإسلامية ممنوعون -للأسف الشديد- من الكلام، ولا يستطيعون أن يصلوا بنصائحهم إلى شعوبهم فضلاً عن حكامهم، بل قد تجد ثُلَّة من العلماء في غياهب السجون، وقد نُسيت قضيتهم، وضاعت أوراقهم، وهذا وضع لا يُرجى معه رفعة، فاللهَ اللهَ في علماء الأمة؛ فإنهم الذين يحملون مشاعل النور، وبغير كلماتهم تتوه الأمة وتضل.


الرؤساء والملوك العرب:

ثالثًا: من أبرز أسباب الأزمة التي تعيشها الأمة، والتي تعتبر قضية فلسطين أحد أبرز مظاهرها، مسألة الفُرقة التي يعيشها المسلمون بكل أبعادها. ومن هنا فلا تحرير لفلسطين ونحن مشتتون ممزقون، فبادروا إلى توحيد كلمتكم، وسارعوا إلى تجميع قوتكم، فإن يد الله سبحانه وتعالى مع الجماعة كما أخبر رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم [3]. ولنبدأ بالوَحدة الداخلية في كل قُطر، حيث يصطلح الحاكم مع شعبه، ويبدأ في تجميع كل القُوى في وطنه لخدمة أهداف المجتمع ككل، ولا داعي للتصادمات العنيفة التي نراها في كثيرٍ من الأقطار، والتي يكون من جرَّائها تهميش قوى فاعلة، وإقصاء عناصر جيدة، وهذا أمرٌ بالغ الضرر على الفرد والمجتمع.

ثم بعد ترتيب البيت الداخلي، والاستفادة من كل طاقاته، فلنوحِّد أقطارنا مع الأقطار المجاورة لنا، وأخصُّ بالذكر هنا مصر والسعودية والأردن وسوريا ولبنان، فهذه دول تحيط بفلسطين الحبيبة، ولا شكَّ أن وحدتها بشكل قوي وحقيقي سيكون له أبلغ الأثر على العدو الصهيوني، ثم ليتسع إطار الوحدة بعد ذلك ليشمل دول العالم العربي كله. وأنا أعلم بوجود الجامعة العربية، لكن كلنا يعلم أنها كيان هشٌّ لا أثر له في الموازين العالمية، وهذا أمر عجيب بالنظر إلى الدول الأعضاء فيها، وقوة إمكانياتها، فنحن نريد وحدة على غرار وحدة الاتحاد الأوربي وأفضل؛ فمقومات الوحدة عندنا أعلى بكثير من مقومات الوحدة عندهم، ومِن ثَمَّ فإنه يجب علينا أن نكون أكثر تماسكًا منهم، ثم ليتسع مجال الوحدة أكثر وأكثر ليضم كيانات العالم الإسلامي كله، وما أروع هذا الكيان الذي يضم كل الدول العربية، إضافةً إلى تركيا وماليزيا وإندونيسيا وباكستان ونيجيريا وغير ذلك من دول العالم الإسلامي! وليس هناك مانع أن يكون الأمر في البداية اتحادًا كونفدراليًّا يحافظ على كينونة كل دولة، ولا يتْرك فيها زعيمٌ مكانه، فهذه خطوة نحو الوحدة الشاملة، فليكن من أهدافنا الآن أن نفتح الحدود، وأن نلغي القيود الجمركية والاقتصادية، وأن نجعل القرارات المتفق عليها بين الدول المتحدة قرارات ملزمة، وأن نقف وقفات جادة مصيرية مع الدول المتضررة كفلسطين والعراق والسودان وغيرها.

إن العالم أجمع يتجه ناحية الوحدة لكي يصلح دنياه بها، أما نحن فلا نصلح بوحدتنا الدنيا فقط، بل نصلح بذلك آخرتنا أيضًا، وهذا أعظم وأجلُّ.


رابعًا: توسيد الأمر لأهله:
تسقط الأمم وتهلك إذا وُسِّد الأمر لغير أهله، وهذا تضييع للأمانة كما وصف رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم [4]، فلتعيدوا النظر -أصحاب الجلالة والفخامة والسمو- فيمن حولكم من الوزراء والأعوان، فلو صلح هؤلاء صلحت الرعية بإذن الله، ولا تبحثوا بين الناس عن أهل الثقة فقط، بل ابحثوا قبل ذلك عن أهل الخبرة؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّم القوة على الأمانة، فقال: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26] فلتكن هاتان الصفتان -القوة في التخصُّص والأمانة في الخُلُق- هما الصفتان الأساسيتان في كل من يحمل مسئولية في دُولكم، وهذا سيكفل لكم استقرارًا عظيمًا في البلاد، وسيدرُّ عليكم خيرًا كثيرًا، هذا فوق رضا ربِّ العالمين، والذي سيسعدكم في الدنيا والآخرة.

أيها القادة المحترمون، إن كثيرًا من الزعماء يضلون بضلال أصحاب المشورة الذين حولهم، وقد يتحول الحاكم الصالح إلى غير ذلك إذا لم يحسن اختيار أعوانه وموظفيه، وهي في النهاية مسئوليتكم؛ فالصالح والطالح حولكم، وأنتم الذين تختارون.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ وَالٍ إِلاَّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ؛ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوهُ خَبَالاً، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وُقِيَ، وَهُوَ مِنَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا» [5]. وفي الحديث السابق إشارة واضحة إلى أن أهل الشر من البطانة الفاسدة لا يحرصون على القائد، ولا يرغبون في الخير له، إنما يبحثون عن مصالحهم، وليس عندهم أيُّ مانع من تعرض الزعيم لكل شرٍّ إنْ كان هذا يصلح حالهم هم، ومِن ثَم فالقائد الذي يبحث عن البطانة الصالحة ينفع نفسه في المقام الأول. ثم إن الحديث يحذِّر تحذيرًا خطيرًا في آخره، فيقول: «وهو من التي تغلب عليه منهما». فإذا أردت أن تعرف سريرة نفسك، وكيف سيكون حالك مع ربِّك يوم الحساب، فانظرْ إلى أعوانك وبطانتك، فإن كانوا من أهل التقوى والصلاح والعلم والخبرة فأنت كذلك إن شاء الله، وإن كانوا من الفاسدين المفسدين الذين لا يبحثون إلا عن تضخيم ثرواتهم ونفوذهم، فسارعْ بتغييرهم لئلاّ يصيبك أذاهم في الدنيا والآخرة.


خامسًا: قضية فلسطين ليست قضية قومية خاصة بالفلسطينيين فقط، فهذا أمر لا بُدَّ أن تدركوه، وستنبني عليه أعمال كثيرة، فنحن -المسلمين- مطالبون بتحرير كل الأراضي الإسلامية المحتلة في كل مكان، وهذا فرضٌ في الشريعة كالصلاة والصيام، وهي مسألة سنُسأل عنها جميعًا أمام الله سبحانه وتعالى، كلٌّ حسب موقعه وقدراته، وأنتم مواقعكم عظيمة، وقدراتكم جليلة، فكونوا على قدر هذه المكانة المهيبة.

ثم إن فلسطين ليست أرضًا إسلامية فحسب، بل إنها مقياس الإيمان في هذه الأمة، ولو عظم اهتمامنا بها، فهذا دليل على عظم الإيمان في قلوبنا، ولو ضيعناها فإننا سنضيِّع غيرها. ولقد كانت فلسطين على مر العصور محرِّكة للشعوب الإسلامية، وجامعة لصفوف الصالحين، فكونوا في طليعة هؤلاء تنالوا شرف الدنيا والآخرة.

ومن هنا فليس هناك معنى للمنِّ على الفلسطينيين بالمساعدة أو العون، فهذا من ضمن أولوياتنا وواجباتنا؛ ولهذا فعليكم -أيها القادة الغيورون على دينهم وأوطانهم وعرضهم- أن تتبنوا القضية الفلسطينية بشكل كامل، وأن تقدِّموا لها الدعم في كل المجالات، وأن تعينوا الشعب هناك اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، بل عسكريًّا أيضًا، وأن توفروا لهم الدعم الإعلامي الكامل، وأن تقفوا إلى جوارهم في المحافل السياسية، وأن تجمعوا فصائلهم في كيان واحد يكون على قيادته مَن يختاره الشعب الفلسطيني بمحض إرادته. كما عليكم أن تدعموا كل من يقدِّم العون لشعب فلسطين، سواءٌ من الأفراد أو الهيئات والمنظمات، أو الدول والحكومات.


سادسًا: أثبت التاريخ أن الحل الوحيد لتحرير فلسطين هو الجهاد والنضال والكفاح، وفي حالتنا -نحن المسلمين- لا يكون الجهاد إلا في سبيل الله، ولا توجد وسيلة أخرى لإخراج المحتلين، أو لردِّ الحق لأهله؛ فالجيوش الغاصبة لا "تُقنع" بالخروج، ولكن "تُرغم" على ذلك، والصهاينة على وجه الخصوص لا يفهمون إلا هذه اللغة، ومن ثَم فإنه يلزمكم أن تدعموا الفصائل المجاهدة في فلسطين، وعلى رأسها حماس والجهاد وكتائب الأقصى، وكل من وَضَحَتْ في عينه الرؤية في هذه القضية، ولا تخشوا من الحروب؛ فإنها سبيل العزة والكرامة، ولن نموت قبل الموعد الذي كتبه الله سبحانه وتعالى، ولن تغضب شعوبكم للدمار الذي سيلحق ببعض منشآتنا وديارنا؛ فإن الشعوب الإسلامية -والله- تتحرق شوقًا ليومٍ تحمل فيه السلاح، وتجاهد الصهاينة مهما كانت الأثمان، ولتحسنوا الإعداد لهذا اليوم الكريم، ولتجهزوا جيوشكم بأفضل سلاح، وأقوى عُدَّة.. ولقد أصبح العالم الآن سوق سلاح مفتوحة، فلا تعتمدوا على مصدر واحد قد يغدر بكم في أي لحظة، ولتسعوا للحصول على السلاح النوويّ الذي يمتلكه الكيان الصهيوني، فهو ليس حلالاً لهم وحرامًا علينا، ولتزيدوا من أعددا الجيوش الإسلامية حتى ترهبوا عدوَّ الله، ولترفعوا من ميزانيتها، ولتختاروا لها أهل الخبرة والأمانة، ولتبثُّوا في نفوس جنودكم حبَّ الجنة، فإنهم عند ذلك سيدفعون أرواحهم راضين في أرض القتال، وعندها لن يقف أمامهم أحد، فمَنْ هذا الذي يستطيع أن يقاتل قومًا يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة!

إنني -أيها السادة الأجلاَّء- لا أدعوكم إلى خراب أو دمار، بل أدعوكم إلى الشرف والمجد، وهذا ما يثبته التاريخ والواقع، بل هذا ما أقرَّ به المسلمون وغير المسلمين، ومن لا يملك الدفاع عن حقه فلا يلومَنَّ الغاصبين.


سابعًا: على من اعترف منكم بشرعية الكيان الصهيوني أن يسحب هذا الاعتراف فورًا قبل أن يلقي ربَّه بهذه الشهادة؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ولو شهدنا أن يافا وحيفا وعكا وعسقلان وغيرها من مدن فلسطين الحبيبة أصبحت ملكًا لليهود فهذا هو الجَوْر بعينه، وليس وقوع الحكام السابقين في خطأ الاعتراف بالكيان الصهيوني مبررًا لكم أن تكملوا السير في طريق الأخطاء؛ فكل دول العالم تراجع معاهداتها واتفاقياتها، فما كان متعارضًا مع أمنها القومي ألغته بآليات الإلغاء المعروفة عالميًّا، وجميع رجال القانون يقولون إن هذه المعاهدات الدولية سياسيَّة في المقام الأول، وبالتالي فالقرار فيها يرتبط بسياسة الدول وأمنها أكثر مما يرتبط بالقوانين الدولية، والعالم كله يعرف أن الصهاينة اغتصبوا الأرض في فلسطين، لكنهم لا يتكلمون؛ إمَّا خوفًا من أمريكا واليهود، وإمَّا لأنهم يرون أصحاب الحق لا يدافعون عن حقوقهم، أمَّا نحن فلا نخشى إلا الله، والله سبحانه وتعالى في عقيدتنا أقوى من أمريكا واليهود والخلق جميعًا، ولقد قال تعالى في كتابه الكريم يطمئنكم ويطمئن عامَّة المؤمنين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].

إنه لا ينبغي لكم أبدًا، أن تقبلوا بفتح سفارات تمثِّل كيانًا غاصبًا أسرف في الظلم، ولا ينبغي لكم أن تفتحوا مراكز تمثيل تجاري أو دبلوماسي لهم، ولا ينبغي أن تستقبلوا سائحيهم وتُجَّارهم وفنَّانيهم، وغير ذلك من صور التمثيل، واعلموا أن قدركم سيرتفع جدًّا في عيون شعوبكم إذا أقدمتم على هذه الخطوات، ولا يخفى عليكم مدى التعاطف الذي ناله أردوجان بموقفه من الرئيس الصهيوني شيمون بيريز في ملتقى دافوس الاقتصادي، فسوف تحققون أضعاف ذلك إن شاء الله، هذا غير التوفيق الرباني لكم حيث رضيتم بشرعه، وعملتم لأجله.


ثامنًا: عليكم بوقفة حازمة في الهيئات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، فكلكم يعلم أنها أصبحت كيانًا يكرِّس الظلم في العالم، ولا مكان فيه إلا للأقوياء، وأنتم باتحادكم معًا قوة لا يُستهان بها، فلا تقبلوا بالضيم، ولا ترضخوا للتهديد، ولن تكون نهاية الدنيا أن ينسحب المسلمون من هذا الكيان برُمَّتِهِ إذا استمرَّ على خدمة المصالح الصهيونية على حساب المسلمين.

إننا لا نرفض التعاون مع دول العالم أجمع من أجل العدالة والحق والفضيلة، أمَّا أن تُكَبَّل الأمم الإسلامية بقوانين جائرة، وأحكام ظالمة، فهذا أمر لا بُدَّ أن نقف ضده، وأن نسعى لتغييره. ولا تنسوا أن القصة بدأت بقرار التقسيم الظالم الذي أصدرته الأمم المتحدة في نوفمبر 1947م، ولم تجرؤ هذه المؤسسة على إدانة اليهود على الرغم من التعدّيات الصارخة على الحقوق، بل والتعدّيات على الأمم المتحدة نفسها.

وما قلناه عن الأمم المتحدة ينسحب على كل الكيانات الدولية سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، وأنتم -والله- لستم قلة، بل أنتم كثير كثير، {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 35].


تاسعًا: راجعوا -أيها الزعماء الكرام- مناهج التعليم في أوطانكم، فهي التي تكوِّن الجيل القادم، ولتسلِّموا صياغتها وتصحيحها إلى أهل العلم والصلاح، فلو فسدت هذه المناهج فعلى الأُمَّة السلام، ولتحرصوا على توضيح العدو من الصديق، ولتهتموا اهتمامًا خاصًّا بقضايانا الشائكة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، فليفهم أولادنا وبناتنا القصة على حقيقتها، وليعرفوا عدوَّهم بشكل مفصَّل، وليدرسوا تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وليتعمقوا في فهم الأحداث المشابهة لذلك في التاريخ؛ كالحروب الصليبية وحروب التتار والاستعمار الأوربي، بل وليدرسوا التجارب المشابهة في العالم كتجربة تحرير فيتنام، وتحرير كوريا، وتحرير دول أمريكا اللاتينية، وغير ذلك من تجارب.

كما لا يخفى عليكم أن بيت القصيد في مناهج التعليم أن تزرعوا في نفوس أبناء شعبكم الحبَّ لرب العالمين، والخوف منه، والإحساس الدائم برقابته؛ فهذا سيرفع من حماسة الشعب للعمل، فهو لا يحتاج إلى شرطي يراقب أعماله، ولا إلى سوطٍ يقود حركته، إنما يتحرك من تلقاء نفسه، فهو يعمل لينجو بنفسه قبل أن ينجو بمجتمعه.

ولتكن هذه المناهج على أحدث المستويات العلمية والعالمية، فإننا نريد لأبنائنا تنشئة متكاملة متوازنة، يرقى بها بالأمة بكاملها، ولنعلم أننا لن نحقق نصرًا بجيلٍ متخلف عن ركب العالم، ونحن أمة العلم، وقد بدأ دستورنا بكلمة "اقرأ"، فلنكن على هذا القدر الذي ارتضاه الله لنا.


عاشرًا: عليكم أيها الزعماء الأجلاء بالالتفات -وبقوة -إلى المنظومة الإعلامية في بلادكم، فما تقومون به من إصلاح في التعليم والشارع والمؤسسات والهيئات قد يهدمه الإعلامُ في لحظة واحدة، فلتجعلوا إعلامكم إعلامًا هادفًا صالحًا، يسعى لخير الأمة وصلاحها، لا إلى إفسادها وتضليلها، وليس مقبولاً أن تسمحوا بإباحيةٍ ومجون يفسد عقول الشباب، ويقتل همَّتهم، وأنتم قد ملكتم ومُكِّنتم.

ثم إن الإعلام لا بُدَّ أن يحفظ قضية فلسطين حيَّة في نفوس شعوبكم، ولا بد أن يستعمل الألفاظ التي ترسِّخ الحق وتؤكده، فبدلاً من أن يقول إسرائيل فليقُلْ الكيان الصهيوني الغاصب، وبدلاً من أن يقول القتلى الفلسطينيين فليقل الشهداء، وبدلاً من أن يقول أفراد المقاومة فليقل المجاهدون، فإنَّ هذه الأمور تؤثر تأثيرًا بالغًا على فكر الشعوب وحماستها.

إننا بالجملة -أيها الكرام- نريد إعلامًا جادًّا يتناسب مع قيمة الأمة الإسلامية وعظمتها، ولئن كان التعليم هو الأداة الأولى لتشكيل الأجيال وصياغتها، فإن الإعلام هو الأداة المكمِّلة لهذا التشكيل، فلتضعوا هذا الأمر نُصب أعينكم، ولتعيروه كل اهتمامكم.

كانت هذه هي نصيحتي العاشرة، فتلك عشرة كاملة.


أصحاب الجلالة والفخامة والسمو..

لقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليكم بشرف عظيم، فأنتم تقودون خير أمة أُخرجت للناس، فلا ترضوا بصِغار الأهداف، ولا بسفاسف الآمال، إنما احرصوا على استغلال أعماركم وسلطاتكم وقدراتكم في سبيل عزّة هذه الأمة ورفعتها.. واعلموا أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، وأن المُلْك مهما اتسع فهو منقطع، وأن الساعة لا ريب فيها، وأنكم إلى الله راجعون.

فليُعِدَّ كلٌّ منكم جوابًا لسؤال مالك المُلك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

واعلموا -أيها الزعماء الأجلاء- أنه ما دفعني إلى هذه النصيحة إلا الخوف عليكم، والرغبة في فلاحِكُم، ولقد قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يومًا لرجل نصحه: "لا خيرَ فيكم إنْ لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها". وقد نقلت ما عندي من لساني إلى آذانكم، ومن قلبي إلى قلوبكم، فاللهُمَّ قد بلغت، اللهم فاشهد.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدوركم، وأن يصلح أعمالكم، وأن يرزقكم البطانة الصالحة، وأن ينعم عليكم بحب القرآن، واتّباع خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم.

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

د. راغب السرجاني.

---------------------------------------------
[1] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (629)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (1031).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (55)، وأبو داود (4944)، والنسائي (4197)، وأحمد (16982).
[3] الترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (2166)، وصححه الألباني.
[4] البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل (59).
[5] النسائي: كتاب البيعة، باب بطانة الإمام (4201)، والترمذي (2369)، وأحمد (7238)، وصححه الألباني.

 

المصدر: موقع الشيخ راغب السرجاني