تأملات في منهج "النظر الإلهي"
تلكمُ عادة الكريم سبحانه مع عباده، ينظر إلى حسناتهم فيضاعفها، وإلي سيئاتهم فيغفرها، فيمشون في دنيا الناس - وقد أرخي الله عليهم ثوب ستره - فلا يُري منهم إلا كل جميل، ولا يُشم منهم إلا أطيب ريح!
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
إنّ من أعظم كرم الكريم سبحانه وتعالى بعباده، أنه يُقبل على مَن أقبل عليه، ويُقرّب مَن تقرب إليه، بل مَن أعرض عنه منهم ناداه من قريب، فمَن تاب وأقبل عليه منهم، شملهم سبحانه بواسع مغفرته، وعظيم عفوه، وكريم صفحه ينظر إليهم نظرة رحمة، فيتقبّل منهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها، بزيادة الإيمان والإخلاص، حتي تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث: « » [السلسلة الصحيحة: 135]، وحديث: « ». وحديث الذي: « » [صحيح البخاري: 652].
تلكمُ عادة الكريم سبحانه مع عباده، ينظر إلى حسناتهم فيضاعفها، وإلي سيئاتهم فيغفرها، فيمشون في دنيا الناس - وقد أرخي الله عليهم ثوب ستره - فلا يُري منهم إلا كل جميل، ولا يُشم منهم إلا أطيب ريح!
ولله در ابن عطاء حين قال: " مَن أكرمك إنما أكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك، ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك".
بتلك العين "الربانية" نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلي أصحابه، فأبرز مزاياهم وأشاد بها، وغضّ الطرف عن مثالبهم، مما جعلها - بالنظرة الحانية والتربية العالية - تتلاشى وتذوب في بحر حسناتهم.. !
تأمل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة وقد أرسل رسالة مع امرأة ليخبر فيها قريشًا بنيّة المسلمين في حركتهم لفتح مكة، وعلم النبي بهذه الرسالة، وبعث بمَن جاء بها.. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فقال: «
»فمع أنّ ما أقدمَ عليه "حاطب" - رضي الله عنه - يُعَدّ في ظاهره - بتعبير العصر - خيانة عظمى، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى سابقته وإلى ماضيه الحافل بالجهاد، فرحم ضعفه - في هذا الموطن - وعفا عنه، وعاش الصاحبي الجليل "حاطب" في مجتمع الصحابة ولا يُذكر إلا بأفضل ما فيه من مزايا وخصال. !
لقد صدق في الصحابي الجليل "حاطب" رضي الله عنه قول القائل:
وإذا الحبيب جاء بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع!
وتأمل هذا المثل الآخر: عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم-كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « »
يقول الدكتور القرضاوي معلقا على هذا الحديث -: "فانظر رحمك الله وإيانا إلى هذا القلب الكبير، كيف وسع هذا الإنسان وأحسن الظن به، رغم تلطخه بالإثم! وكيف لمح كوامن الخير في أعماقه، برغم ظواهر الشر على غلافه! فوصفه بأنه "يحب الله ورسوله".
بهذا المنهج "الإلهي" في النظر إلى عباده، وبتلك النظرة النبوية العميقة، نبني الرجال ولا نحطمهم، ونقوّم المعوّج ولا نكسره، ونقرّب البعيد ولا نخسره، ونعدّ للحاضر والمستقبل مَن ترتفع بهم الرايات، وتنتصر بهم الرسالات، وتحقّق بهم الأمم أسمى الغايات!
بيد أن هناك أناسًا لا ينظرون إلى الناس إلا بمنظار أسود، فيرون السيئات دون الحسنات، والمثالب دون المناقب، والمعايب دون المحاسن، إنهم كما وصفهم الشاعر:
ترى الشوك في الورود، وتعمى *** أن ترى فوقها النّدى إكليلا!
وكما وصفهم ابن تيمية: إنهم "مثل الذباب، لا يقع إلا على الجرح"!
ولطالما شكا الشيخ الغزالي - رحمه الله - كما شكا غيره في القديم والحديث - من هؤلاء، فقال: "إني أخاف على نفسي وعلى الناس صيّاحاً فضّاحاً سفّاحاً، يرتقب الغلطة ليثب على صاحبها وثبة الذئب على الشاه، فهو في ظاهره غيور على الحق وفي باطنه وحش لم تقلم التقوى أظافره، ولم يغسل الإيمان عاره ولا أوضاره"!
أما الذين يأخذون بمنهج النظر "الإلهي"، وبالنظرة النبوية العميقة ينظرون إلى الناس بالعين الربانيّة، تلك العين الربانيّة التي وصفها الشيخ جاسم المهلهل بقوله:
"إنها عين التسامح التي ترى كل خير بأجمل صورة وأوضح تقاسيم، ولا تكتفي بذلك بل تزيد في اللوحة حُسنا بالإضافات التي تستعيرها من كل منابت الجمال في الكون، فمن الطيّف تأخذ الألوان، ومن الأزهار ترتشف الرّحيق، ومن الأجواء تداعب النّسيم، ومن الشروق تختلس الضياء..". !
وصدق مَن قال: "كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً. !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: إبراهيم التركاوي