[121] الغيبة
لو نظرنا إلى مجالسنا اليوم فإنها تكثر فيها الغيبة، وهي كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله تعالى. وإن الشيطان يمر على المجالس فيرى فيها الغيبة ويزينها للناس، ويحبب الحديث لهم حتى يزدادوا إثمًا. إن المغتاب يُهدي الرجل الذي اغتابه من حسناته.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
لقد علّمنا القرآن الأخلاق، وربانا عليها، وإن الناس لو تمسكوا بها لما رأيت فسادًا ولا خصامًا ولا شجارًا بينهم. وإن هناك خُلقًا ذميمًا حذّرنا الله منه أشد التحذير ألا وهو خلق الغيبة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]. لقد شبه الله تعالى من يغتابُ أخاه كأنه أكل لحمه وهو ميت. هل يستطيع أحدنا أو يقبل أن يأكل من جيفة أخيه الميت؟! وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: « » [صحيح مسلم: 2589]، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: « » [سنن الترمذي: 1934].
إن الغيبة هي: أن تذكر أخاك بما يكره؛ سواء ذكرت نقصانًا في بدنه أو في لبسه، أو خُلُقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، أو في ولده، أو في ثوبه، أو داره، أو مركبه. والصحيح أنها لا تقتصر على القول فقط؛ بل تجري في الفعل كالحركة والإشارة والكناية.
أيها المسلمون: لو نظرنا إلى مجالسنا اليوم فإنها تكثر فيها الغيبة، وهي كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله تعالى. وإن الشيطان يمر على المجالس فيرى فيها الغيبة ويزينها للناس، ويحبب الحديث لهم حتى يزدادوا إثمًا. إن المغتاب يُهدي الرجل الذي اغتابه من حسناته.
إخوة الإيمان؛ إن للغيبة أسبابًا وبواعثَ كثيرة نذكرها لنحذر من مداخلها علينا؛ منها: شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه. ومنها: مجاملة الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة. ومنها : ظن المغتاب في غيره ظنًا سيئًا فذلك مدعاة لغيبته. ومنها : أن يُبَرِّئَ المغتابُ نفسَه من شيء وينسبَه إلى غيره أو يذكرَ غيره بأنه مشاركٌ له. ومنها : رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير، ومنها : حسد من يُذكرُ بخير ويُثنى عليه من قِبَلِ الناس. ومنها: الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخرين. ومنها : قلة إيمان المغتاب وقلة ورعه وغفلته . وكلُّ هذه الأسباب يستغلها الشيطان لتكون مداخل لهذه الكبيرة العظيمة ألا وهي الغيبة.
أيها المسلمون: إن الغيبةَ مرضٌ خطير وداءٌ فتاك، ومعولٌ هدام، وسلوكٌ يفرق بين الأحباب، ويغطي محاسنَ الآخرين، وبذرةٌ تُنْبِتُ شرورًا بين المجتمع المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور .
عباد الله، إن علاج هذا المرض لا يكون إلا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنه يتعرض لسخط الله بسبب هذه الغيبة فإنه يراجع حساباته ليبتعد عنها.
ومن تلك المحاسبة شعور من يَغتاب بأن حسناته التي عملها في الدنيا من صلاة وصوم وزكاة وصدقة وتلاوة للقرآن وحج وجهاد ودعوة وغيرها؛ قد توزع هذه الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة لأناس كان قد تعدى عليهم بغيبة أو غيرها في الدنيا؟.
وقد قيل أن الغيبة هي سلاح الجبان، لأن غير الجبان يواجه بخلاف الجبان، والواجب على المسلم أن ينصح ويستر.
ألا فلنتق الله في ألسنتا وأقوالنا وأعمالنا، ولْيَسْلَمِ المؤمنون من أيِّ أذية منا حتى لا نكون من المفلسين يوم القيامة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
عباد الله: عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»[صحيح أبي داود: 4880].فالواجب علينا أن إذا وجدنا في أحد المسلمين عيبًا سترناه، أونقصًا كمَّلناه، لا أن نجعل منه حديث مجالسنا، ومنتدى مسامرنا.
أتعلمون أيها المسلمون: أن الذي يغتاب الناس يناله العذاب في القبر قبل الآخرة فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: « » [صحيح ابن ماجه: 284]. ومن العذاب في الآخرة ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح أبي داود: 4878].
قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء، وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه رطبًا على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أكافئك على التمام.
عباد الله ، ينبه إلى أن الغيبة ليست مذمومة على الإطلاق دائمًا فلقد أجاز أهل العلم الغيبة في بعض الأحيان وذلك في ستة أسباب: أولًا: المتظلم فيجوز للمتظلم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي فيقول ظلمني فلان بكذا. ثانيًا: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول فلان يعمل كذا، ويكون مقصوده إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا. وثالثًا: الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي وأخي أو زوجي... إلخ. فهذا جائز للحاجة؛ والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا... إلخ.
رابعًا: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع بل واجب للحاجة. ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو مجاورته أو غير ذلك، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة، لا بنية الاستنقاص.
خامسًا: أن يكون المغتاب مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وما أشبه ذلك فيجوز ذكره بما يجاهر به.
سادسًا: للتعريف ، فإذا كان معروف بلقب كالأعمش، والأعرج والأصم والأحول جاز تعريضهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان أولى.
هذه هي المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبدًا.
وأخيرًا: اعلموا عباد الله أن ما يلفظه العبد فهو يكتب، قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، فلنحرص على صيانة هذه الألسنة مما يغضب الله، ومما يؤذي عباد الله. ولنتعاون على محاربة هذا الخلق الذميم ولينصح وليذكر بعضنا البعض.
وصلوا وسلموا على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.