[130] المرض فوائد وأسرار
كما أن العافية نعمة، فالمرض فيه نعمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكان خَيرًا لهُ»[صحيح مسلم: 2999].
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
أمر عجيب، هذا الأمر يصيب الكبيرَ والصَّغيرَ ويشتكي منه الغنيُّ والفَقيرُ لا يدعُ مُسلمًا ولا كافرًا ولا يتركُ مُحسِنًا ولا فاجِرًا، هذا الأمر يدل على دناءة هذه الدنيا، ويوجب عدم التعلق بها، وهذا الأمر يذكر بخالقه وخالقنا ومُنـزلِه ورافعِه؛ وهو الله رب العالمين، هذا الأمر هو البلاء بالمرض الذي لم يسلمْ منه أحدٌ حتى سيَّدُ ولدِ آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
البَلاء من مرض وغيره واقعٌ على ابنِ آدمَ لا محالةٍ وذلك مما أخبرنا اللهُ تعالى به في كتابِه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] فأخبرنا اللهُ برحمتِه بأننا مُبتَلونَ وذلك للتَّهيئةِ النَّفسيَّةِ والاستعدادِ، ثم ذكرَ لنا أنواعَ البَلاءِ حتى لا نتفاجأَ بها، ثم أعلمنَا أن هناك من سيصبرُ على هذا البلاء، وأن لهم البُشرى فقال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، بل وعلَّمنا طريقةَ الصَّبرِ وكيفَ نتصرفُ عندَ البلاءِ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 156]، ثُمَّ أخبرَ سبحانه بعظيمِ أجر الصابرين المسَلِّمين لله الراضين بقدر الله في هذا البلاء: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} ثناءٌ عليهم من اللهِ تعالى في الملأِ الأعلى، {وَرَحْمَةٌ} من الله ومغفرةٌ للذُّنوبِ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156].
ثَمَانِيَةٌ تَجْرِيْ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ** وَلا بُدَّ لِلإِنْسَانِ يَلْقَى الثَّمَانِيَهْ
سُرُوْرٌ وَحُزْنٌ،وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَةٌ ** وَعُسْرٌ وَيُسْرٌ، ثُمَّ سُقْمٌ وَعَافِيَهْ
عباد الله، النَّاسُ مع المرضِ أحوالٌ شتى مُتَفَاوِتونَ، منهم المأجورُ ومنهم المأزور، قال رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح ابن ماجه: 3272]، ولذلك كانَ لأهلِ الإيمانِ مع المرضِ شأنٌ آخرُ سُئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « » [ صحيح الترغيب الألباني]، وذلك لأنهم يعلمونَ بمحبةِ اللهِ تعالى لأهلِ البلاءِ .. وعزاؤهم في ذلك قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: « » [الترغيب والترهيب: 4/223]. قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري: 5660]
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 992]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » [سنن الترمذي: 2399]ويقول التابعي سَعِيدِ بنِ وَهْبٍ رحمه الله: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ رضي الله عنه، وَعَادَ مَرِيضًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا (أي: يذكر الإنسان بنفسه فيعاتبها ويحاسبها)، وَإِنَّ مَرَضَ الْفَاجِرِ كَالْبَعِيرِ؛ عَقَلَهُ أَهْلُهُ؛ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ؛ فَلا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ.
ومن أعظم الأعراض المرضية التي تُذهبُ الخطايا؛ تلك الحمَّى التي تُصيبُ الإنسانَ، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، فَقَالَ: «صحيح مسلم: 2575].
» [إخوة الإسلام، هناك من النَّاسِ من كتبَ اللهُ -تعالى- له منـزلةً عظيمةً في الجنَّةِ .. ولكنَّه لم يَصلْها بعملِه .. فعندَها يأتي المرضُ رحمةً من ربِّ العالمينَ .. ليَصلَ بسببِه إلى تلك المنزلة العظيمة، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: « » [صحيح أبي دواود: 3090].
وهنا قد يتبيَّنُ لنا بعض الحِكَم في مرضِ كثيرٍ من المسلمينَ في آخرِ حياتِهم، وأن الله يريد بعبدِه المؤمن الخيرَ، فأهلُه بينَ الهمومِ والأحزانِ والقيام على شؤونه مأجورون، وهو بمرضه وصبره مأجور ويُهيَّأُ للحورِ الحِسانِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 308].ومن فوائدِ المرضِ أنَّ اللهَ تعالى يكونُ قريبًا من المريضِ يرحمُه ويجيبُ دعاءَه ويُثيبُ زوَّارَه والقائمين عليه ولذلك تحتفي الملائكةُ بعائدِ المريضِ، بل ويعتبُ سبحانَه على من تركَ عيادة المريض؛ كما جاءَ في الحديثِ: « » [صحيح الجامع: 1916].
ومن عجائبِ المرضِ – عباد الله - أنَّ صاحبَه تُكتبْ له جميعُ أعمالِه التي كانَ يَعملُها وهو صحيحٌ، فتستمرُ حسناتُه على ما كانَ يعملُ وهو مُعافى لا ينقصُ منها شيءٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 799].إخوة الإيمان، ومما يدل على عظم ثواب المرضى الصابرين في الآخرةِ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
» [صحيح الجامع: 8177]، ومصداق ذلك في قولِه تعالى: {بهذا يعلم كثرة فوائدُ المرضِ في الدُّنيا والآخرةِ، يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه شفاءِ العليلِ: "وقدْ أحصيتْ فوائدَ الأمراضِ فزادتْ على مائةِ فائدةٍ".
جعلنا الله عند النعم من الشاكرين؛ وعند البلاء من الصابرين، وعافانا في الدنيا والآخرة أجمعين، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ.
الخطبة الثانية
أما بعد: يا عبادَ اللهِ، كلُّ هذه الفوائدِ في المرضِ لا يعني أن الإنسانَ يسألَ ربَّه البلاءَ؛ أو إذا جاءه لم يسأل الله الشفاء، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ –أيْ: ضَعُفَ- فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح مسلم: 2688]بل علينا بسؤالِ اللهِ تعالى العافيةِ فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: «
»[صحيح الترمذي: 3514].بل إنَّ سؤال الله العفو والعافية من خيرِ ما يَسألُ المسلمُ ربَّه في دعائه، قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: «
» [سنن الترمذي: 3558].ولذلك كانت العافيةُ من النعمِ التي لا يَعدِلُها شيئًا، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
» [صحيح الجامع: 6042]).إذن فكما أن العافية نعمة، فالمرض فيه نعمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
»[صحيح مسلم: 2999].اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِنا وَدُنْيَانا وَأَهْلِنا وَأمَوالِنا. اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنا، اللَّهُمَّ احْفَظْنِا مِنْ بَيْنَ أيَدَيَّنا، وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أيَمِاننا، وَعَنْ شِمَائلِنا، وَمِنْ فَوْقِنا، وَنعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتنا. اللهم اشف مرضانا؛ وعافِ مبتلانا. اللهم اجعلنا شاكرين صابرين عابدين؛ لك حامدين.