صيود الأوراد (18): فيُقتَل أو يَغْلِب
أبو محمد بن عبد الله
سبحان الله تعالى منزل هذا القرآن.. فإذا كان في تلاوة كل حرف منه أجرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم... فإن في تدبّر كل حرف منه علما وعرفة.. فلنتبره حق التدبر ولنطرق أبوابه حتى يفتح لنا عن كنوزه!! فإن القرآن الكريم كتاب عزيز يتعزز ويتأبّى عن الكسالى..كسالى العقول والقلوب..
- التصنيفات: القرآن وعلومه - فلاشات منوعة -
مذ كنت أحفظ هذه الآيات وأكررها شدّني قول الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:74].
لنتأمل في قوله تعالى: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ}، فذكر قسمة ثنائية فقط، وبتغيير الشكل فقط يتغير المعنى، بل ربما تغير إيمان وانحرف منهج!!
فلم يقل ربُّنا-سبحانه-: (فيُقتَل أو يَقتُل): هذه ليست من أهداف المسلم أن يقصد بجهاده قتل الناس لأجل القتل، ثم لا يستقيم في منهج الإسلام أن يكون دينه ردود أفعال أو أن يكون جهاده انتقامات وتصفية حسابات..
ولم يقل: (فيُقتَل أو يُغلَب): لا يصير هذا، لأنه لا يجتمع على المجاهد في سبيل الله تعالى هذين الضررين، والحقيقة أن كونه يُقتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر هو غلبة حققها، وبالتالي هو فلب بثباته على سبيل الله تعال، وهذه غلبة عظمى لا تجتمع مع ضدها المغلوبية (يُغلب)، والمغلوبية تحصل بالفرار والانكسار والتولّي يوم الزحف، لا بالانحياز إلى فئة أو كما فعل خالد رضي الله عنه في مؤتة، حتى جاء في وصفهم: أنتم الكُرَّار ولستم الفُرَّار.
ولم يقل: (فيَقتُل أو يَغلِب): فكل ما احتمل أن يكون بفعل (يَقتُل) لا يكون، لأن هدف المسلم من قتاله ليس أن يقتُل الناس ويميتهم، ولذلك لم تأت في الآية (فيَقتُل).
ولم يقل: فيُغلب أو يَغلب: لا تصح الثنائية هذه؛ لأن (يُغلب) ليست في حساب المسلم؛ فهو ما دام في سبيل الله تعالى فلن ينهزم، بل ينتصر أو {يُقتَل} دونها كما جاء في الآية.
ولكنه –سبحانه وتعالى- قال: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ}: إذن فسبحان الله تعالى الحكيم، لا تصح إلا هذه الثنائية التي قالها الله تعالى، وأودعها منهج المسلم في قتاله وجهاده في سبيل الله تعالى..
وقد أبان عن هذا المعنى الشيخ عمر المختار فيما يُنسب إليه، وكأنه ينسجها من الآية فيقول:
نحن لن نستسلم... ننتصر أو نموت..
فلم يقل: (يَقتُل)؛ لأن الإسلام دين الحياة والأحياء والإحياء، وليس القتل وزراعة الموت.. كما هي أصل دعوته بكل شرائعها دعوة للحياة وتهيئة لأسبابها كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال: 24]، ومعلوم أن هذه الآية التي تدعو للحياة جاءت في سورة الأنفال، التي تتحدث عن معركة بدر الكبرى بما فيها من قتل وقتال!
إلا إذا تعيَن القتل لزراعة الحياة وصناعتها، كما قال تعالى: {ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179]، فهو قصاص بقتل القاتل القليل لتُحفظ حياة الخلق الكثير!.
فقال: {يُقتَل} وجعلها قسيمة لــ {يَغلب}، لأن المسلم بين حُسنَيَيْن لا ثالث لهما: النصر أو الشهادة.
قال البيضاوي: (وإنما قال فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ تنبيهاً على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين، بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين.)[البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2/ 84].
وقد قال بعضهم: (وقدم- سبحانه- القتل على الغَلب، للإيذان بأن حرص المجاهد المخلص على الاستشهاد في سبيل الله، أشد من حرصه على الغلب والنصر.)، فلم يُرُق لي هذا التوجيه رغم وجاهته، ولا أراه أولى من أن نقول: (قدم-سبحانه- القتل على الغلبة لبيان أن المسلم لا يُقعده عن إحراز النصر للدين الله تعالى إلا أن يُقتَل دونه، ولا يقف في منتصف الطريق، مع أن الإسلام لا يريد قتل أبنائه وإهلاك عصابته، وإنما يريد أن يستبقيها ما استطاع للمواجهة بها وتحقيق هدفه في هذه الأرض، ويشهد لنا قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: «اصحيح مسلم، برقم:[ 1763]). قال الطاهر بن عاشور: (وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنه لا يجدي عنه الاستبسال، فإن من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدو)[التحرير والتنوير: 5/ 122].
»(مقتطفات من أقوال المفسرين:
قال الخطيب: وفى قوله تعالى: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» إشارة إلى أن المجاهدين في سبيل لهم العاقبة والنصر أبدا.. وأن الذين استشهدوا قد كتبوا بدمائهم الزكية الطاهرة وثيقة النصر للجبهة المقاتلين فيها.. فالمجاهدون إما شهداء، وإما منتصرون..
ومعنى هذا ألا يتحول المجاهدون عن الجهاد، وألا يتركوا المعركة إلّا ومعهم النصر الذي وعدهم الله، وجعله جزاء معجلا لهم.. ولهذا جاءت القسمة هكذا: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» ولم تجىء كما يقضى به ظاهر الأمر.. «فيقتل» أو يسلم!)[عبد الكريم يونس الخطيب (ت: بعد 1390هـ)، التفسير القرآني للقرآن، 3/834].
قال الخفاجي: (وإنما قال فيقتل أو يغلب الخ، يعني لم يقل فيَغلب أو يُغلب لأنّ المغلوبية تصدق بما إذا فرّ وكرّ تنبيهاً على أنه ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إمّا إكرام نفسه بالقتل والشهادة أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله بالنصر)[ : شهاب الدين الخفاجي(المتوفى: 1069هـ)، حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي، 3/ 154].
قال ابن عاشور: (وإنما اقتصر على القتل والغلبة في قوله: فيقتل أو يغلب ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين، وهي حالة الأسر فسكت عنها لئلا يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضا إذا بذل جهده في الحرب فعلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك، وليس بمأمور أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنه لا يجدي عنه الاستبسال، فإن من منافع الإسلام استبقاء رجاله لدفاع العدو.)[ابن عاشور 5/ 122].
سبحان الله تعالى منزل هذا القرآن.. فإذا كان في تلاوة كل حرف منه أجرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم... فإن في تدبّر كل حرف منه علما وعرفة.. فلنتبره حق التدبر ولنطرق حتى يفتح لنا عن كنوزه!! فإن القرآن الكريم كتاب عزيز يتعزز ويتأبّى عن الكسالى..كسالى العقول والقلوب..
17 ذو القعدة 1437 (20/8/2016)