ذبح كاميليا على موائد الوحدة الوثنية
ملفات متنوعة
وإن الأخت "كاميليا شحاتة" زوجة الكاهن التي أسلمت، ثم سُلِّمت إلى
الكنيسة في جريمة إنسانية بشعة - قد كشَفَت قضيَّتُها لنا بوضوح عن
حالة التشرذُم والخوَر والضَّعْف والهوان التي أصيب بها قطاع عريض من
أمَّتنا
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
إيهاب كمال أحمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خير خلْق الله
أجمعين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأخيار الطاهرين، وبعد:
فإنَّ زماننا قد صار يعجُّ بالفِتَن والابتلاءات، فلا تكاد تمرُّ ساعة
إلا ويصدمنا حدث أو تفجعنا بليَّة، يُمسِي فيها الحليم حيراناً، لكن
هذه الفتن والابتلاءات التي تَعْصف بالأمَّة هي من سُنن الله التي
يَمِيز بها الخبيثَ من الطيِّب، والكاذب من الصادق، قال الله تعالى:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ
يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
[العنكبوت:2 - 3].
وإن الأخت "كاميليا شحاتة" زوجة الكاهن التي أسلمت، ثم سُلِّمت إلى
الكنيسة في جريمة إنسانية بشعة قد كشَفَت قضيَّتُها لنا بوضوح عن حالة
التشرذُم والخوَر والضَّعْف والهوان التي أصيب بها قطاع عريض من
أمَّتنا، كنتيجة طبيعية للابتعاد عن الدِّين، وعدم تحكيم شرعه،
والرُّكون إلى الدنيا، وترك شَعِيرة الجهاد.
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذناب
البقَر، ورَضِيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذُلاًّ
لا يَنْزعه حتَّى ترجعوا إلى دينكم» (أخرجه أبو داود 3003،
وأحمد 4593، وصحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود" 3462).
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يوشك الأمم أن تدَاعى عليكم، كما
تداعى الأَكَلة إلى قصعتها»، فقال قائلٌ: ومِن قلَّة نحن
يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ
كثيرٌ، ولكنَّكم غثاءٌ كغثاء السَّيل، وليَنْزعنَّ الله من صدور
عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن»، فقال
قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حبُّ الدنيا وكراهية الموت»
(أخرجه أبو داود 3745، وأحمد 21363، وصحَّحه الألباني في "صحيح أبي
داود" 4297).
وقد تجلَّت مظاهر هذا الوهن والضعف في مواقفِ كثيرٍ من المسلمين من
هذه القضيَّة، وإن أخذَت تلك المواقف صورًا متنوِّعة ومتفاوتة، يمكن
إيجازها على النحو التالي:
* طائفة كبيرة من المسلمين ما زالوا لا يعرفون شيئًا عن هذه القضية؛
لانْشغالهم بتحصيل المتاع الدنيوي، أو لانْشغالهم بمتابعة قضايا
الفنِّ والأغاني وكرة القدم.
* وطائفة عرفَت القضية، لكن موقفها جاء مُفْعَمًا بالتجاهل والتبلُّد
وربما البرود؛ لأنَّ هذه القضية ليست من أولوياتها، ولأنَّ حقوق
الأخُوَّة الإسلامية لم تستقرَّ في وجدانها، فنسوا قول رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم: «المسلم أخو المسلم، لا يَظلمه ولا
يُسْلِمه -وفي رواية: ولا يخذله- ومن كان في حاجة أخيه كان الله في
حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كربات يوم
القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (أخرجه
البخاري 2262، ومسلم 4677).
* وطائفة علِمَت وتأثَّرت، لكنَّ تأثُّرها كان سلبيًّا من جهة،
ووقتيًّا من جهة أخرى، فسرعان ما تهدأ فَورته ثم لا تلبث أن تَسْكن
تمامًا في انتظار فاجعة جديدة.
* وطائفة أخرى خَذَلت القضية بِجُبنها، وتراجعوا عن نصرة أختهم؛
لِفَرْط الخوف الذي أَسكنوا أنفسهم فيه، ولعدم استعدادهم لتقديم أي
تضحيات.
ومِثل هذه الطوائف لا ينبغي التوقُّف عندها كثيرًا لبيان خطَئِها
وتقصيرها، لكن الجديرون بالتوقف أمام موقفهم، وبيان ما التَبَس الحقُّ
فيه بالباطل، هم:
* طائفة من الدُّعاة الذين افتقدوا بعض الفقه والوعي، وأصابهم شيء من
الوهن والهزيمة النَّفْسية، فأفسدوا من حيث أرادوا الإصلاح، وحاولوا
نصرة القضية بارتكاب مخالفات شرعية، فأَسقطوا أنفسهم في هوَّة سحيقة
من حيث لا يعلمون.
ومن هذه الطائفة أولئك الذين أرادوا الدفاع عن أختنا "كاميليا" من
منطلق الحفاظ على الوحدة الوطنيَّة! ولم يُدْركوا أنهم بذلك يُعلون
راية وثنيَّة، ويروِّجون لدعوى جاهلية يردِّدها العلمانيون، وتَلهج
بها ألسنتهم؛ حربًا للدِّين والتوحيد، حيث الدَّعوة إلى جعل الولاء
على الوطن، والأخوة فيه، والتوحُّد عليه والموت والتضحية في سبيله،
فبه تَذُوب الفوارق بين المؤمن والكافر، ويستوي المسلم واليهودي
والنصراني؛ بل والملحد والعلماني واللاديني وعابد البقر!
فمَن كان من أهل بلدتك فهو أخوك ويجب أن تتوحَّد معه، فيكون له ما لك،
وعليه ما عليك تمامًا، حتى إن كان فرعون أو هامان، أو أبا جهل، أو
الأنبا شنودة!
وهذا مخالِف لثوابت الدِّين وعقيدة الولاء والبرَاء، التي تَفرض على
كل مسْلِم البراءة من الكفار، وإبداءَ العداوة والبغضاء لهم، وإن
كانوا أهلَه وقومه.
قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
لا جَرَم أن تلك الوحدة الوثنية هي المائدة التي قُدِّمت عليها
"كاميليا" وأخواتها، اللاتي سُلِّمن للكنيسة ليُذبحن بسكين بارد، وهي
المائدة التي أرادوا أن يَذبحوا عليها عقيدة التوحيد، والولاء
والبراء، والأُخُوَّة الإسلامية.
* ومن هذه الطائفة أولئك المدافعون عن "كاميليا" من منطلق حرِّية
الاعتقاد، فيردِّدون أنَّ مِن حقِّ كل إنسان اعتقادَ ما يشاء من
الأديان، ثم تراهم يتَفاخرون بأنَّ فلانًا وفلانة الذين أعلنوا
رِدَّتهم عن الإسلام وطعنوا في دِين الله لم يُقتلوا ولم يُصِبهم
المسلمون بأيِّ أذًى، بل تُركت لهم حرية الرِّدَّة والكفر؛ بل وحرية
الطعن في الدِّين، ومن ثَمَّ فهم يطالبون بمثل ذلك في حق
"كاميليا"!
وهذا سقوط آخَر لا يقلُّ عن سابقه؛ حيث إنَّ الإسلام لا يَكفل حرية
الكفر والرِّدة، بل إنَّ حُكم الله فيمن ارتد عن دين الإسلام هو القتل
إن لم يَتُب؛ فقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (أخرجه
البخاري2794).
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: "وأجمع أهل العلم بأن العبد إذا
ارتدَّ فاستُتِيب فلم يتب قُتِل، لا أَحفظ فيه خلافًا" (الإجماع لابن
المنذر ص174).
فلا ينبغي أن يَستحسن مسلم ترك تطبيق حد من حدود الله، أو يَعدَّ ذلك
مفخرة يفاخر بها الكفار، كما لا يجوز أن نتنازل من حيث المبدأُ عن أحد
ثوابت الدين -وإن لم يكن مطبَّقًا في الواقع- ثم نتخذ من هذا التنازل
مستندًا نطالب من خلاله بحق أصيل مشروع لنا.
فكم أنفق الكفار والمنافقون من جهد لمحاربة مبدأ حد الرِّدة! وكم
سخَّروا في حربه من أقلام وصحائف ومنشورات، وأبواق وألسِنَة وقنوات،
متشدِّقين بدعاوى حرية الاعتقاد والفكر؛ ليفتحوا أبواب الكفر والطعن
في الدِّين على مصاريعها! لكن جهودهم أُبِيدت على يد علماء أجلاَّء
مخْلِصين، وفَّقهم الله لحفظ دينه، ونفي انتحالات المبْطِلين
حوله.
فهل يليق بمسلم بعد ذلك أن يأتي -ولو بحُسن نية- ليرفع شعارات الكفار،
ويردِّد دعاواهم، ويفتح على الأمة أبوابًا من الفتن والشر قد اجتهد
المخْلِصون من قَبله في غلقها بكل سبيل؟!
ثم هل يُقارَن موقف أختنا "كاميليا" التي أرادت ترك الكفر والشِّرك
بعد أن عرَفت الحقَّ والهدى وذهبت مضحِّية بكل شيء -حتَّى ابنها
الرضيع- لتعْلِن إسلامها في سلام، بموقف المرتزقة المجرمين الذي
اشترتهم أموال التنصير؛ لتسخِّرهم في فتنة الناس عن الحقِّ والطعن في
مقدَّسات المسلمين؟!
* ومن هذه الطائفة أيضًا أولئك الدُّعاة الذين أظهروا تحرُّكَهم لتلك
القضية، لا على أنه نصرة للدِّين ورغبة في إنقاذ أختهم الأسيرة بقدْر
ما هو خوف من فتنة طائفية، وحرص على الأمن والأمان، وحفظ للتعايش
السلمي مع أولئك الكفار الذين أمرنا الله -في زعمهم- ببِرِّهم!
ولا ريب أن التخلِّي عن الأسباب الرئيسة لنصرة "كاميليا" -ولو
ظاهريًّا- يعدُّ تفريغًا للقضية من جوهرها وقيمتها، ونزعًا لها عن
جذورها المتينة العميقة، وإخراجًا لها عن مسارها الصحيح، كما أنه
يعدُّ في الوقت ذاته تراجعًا خطيرًا عن المنطلق الديني والشرعي
للقضية، يَصبُّ في مصلحة الخصوم الذين يشتد حرصهم على إخراج الدِّين
من دائرة أي نزاع.
ولست أدري أي فتنة طائفية تلك التي يتحدَّثون عنها؟ فهل يَقصدون فتنة
أشدَّ من فتنة امرأة مسلمة؛ بل نساء مسلمات عن دينهن؟!
ثم لماذا توصف تلك الفتنة بأنها طائفية؟ فهل صار المسلمون في ديارهم
وأرضهم مجرَّد طائفة كغيرهم من الأقليات الكافرة المتشرذمة؟!
ولماذا لا يعلن أولئك الدعاة بوضوح أنهم يطالبون بفكِّ أَسْرِ أختهم،
وعودتها سالمة آمنة، وتنفيذ القصاص العادل على كل مَن اعتدى عليها؟
فهل هذا عار يخجلون منه؟! أم تُرَاها تهمة يجب عليهم التبرُّؤ
منها؟!
لقد كان ينبغي أن يكون هذا منطلقهم الذي لا يحيدون عنه، وأن يبيِّنوا
أنَّ هذا حقٌّ تقرِّره نصوص الكتاب والسُّنة، وتؤيِّده قواطع الشريعة؛
فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
[الممتحنة: 10].
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فكُّوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا
الجائع، وعُودوا المريض» (أخرجه البخاري 2819).
ثم إنَّ هذا التراجع عن المنطلقات الشرعية للنصرة قد يُظهر الذين
يدافعون عن تلك القضية من منطَلِقها الصحيح وكأنَّهم متشدِّدون أو
متطرِّفون، أو أُناسٌ يُثِيرون الفتنة ويحرِّضون على الفساد.
كما أن نَفس تلك المبرِّرات هي التي يستخدمها الخصوم لتمرير أي جريمة،
أو لتبرير السكوت عليها، ومن ثَم فقد يُطعن في دين المسلمين، ويُشتم
نبيهم، وتُخطف أخواتهم، ويُقتل إخوانهم، ويُنال من أعراضهم، وتُدَاس
كرامتهم، ثم يُقال لهم: اصمتوا؛ حفظًا للأمن، وحَقنًا للفتنة
الطائفية!
فهل المسلم مطالَب أن يفرِّط في دينه ودمه، وعرضه وماله وكرامته؛
حفظًا للأمن؟! وهل يُفرض عليه إن أراد الأمان في بلاده أن يَعيش
ذليلاً مهانًا، يتجرَّع العار والخزي في صمت وهوان؟!
ثم أي الفريقين أحق أن يطالب بالحرص على الأمن وسلامة المجتمع:
المعْتَدون الذين طغَوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد؟ أَمِ الضحايا
الذين يطالبون بفكِّ أسر أخواتهم؟!
وأي أمان هذا الذي يَنشُده أولئك، وقد أُهِينت مقدساتنا، واختُطِفت
أخواتنا؟! أي أمان وسلام هذا الذي لا يأمن فيه الرجل على زوجه أو أخته
أو ابنته؟!
لقد أوردت كتب السِّيرة أن سبب نقض عهد يهود بني قينقاع، وانقضاء
أمانهم، وإقامة الحرب عليهم، وإجلائهم من المدينة هو أنَّ امرأة مسلمة
قَدِمت ببضاعة لتبيعها في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ يهودي في
السُّوق، وجعل اليهود يراودونها على كشف وجهها فأبَت، فعمد الصائغ إلى
طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا عليها،
فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فاجتمع اليهود على
المسلم فقتلوه. [1].
بل إن نجدة المستضعفين وإزالة الظلم والفتنة عنهم من أعظم الغايات
التي تُجَرَّد سيوف الجهاد من أجلها، وتُجيَّش الجيوش من أجل تحقيقها؛
فقد قال الله تعالى: {وَمَا
لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ نَصِيرًا . الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ
كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 75 - 76].
فالذين أُمِرنا ببرِّهم هم الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يَعْتدوا
علينا؛ فقد قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
إن الهزيمة النفسية التي أصيب بها الكثير من المسلمين هي التي جعَلَت
أولئك الدعاة يتكلمون بأسلوب العلمانيين ولسانهم، ويستخدمون كلماتهم
واصطلاحاتهم، يَخْطِبون بذلك وُدَّهم، ويتسوَّلون نصرتهم للقضية، ولو
اعتصموا بدينهم وطلبوا العِزَّة من ربِّهم لكان خيرًا لهم؛ قال الله
تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [يونس: 65].
إن الانتصار الحقيقي الذي تُراق من أجله الدِّماء، وتُبْذَل الأرواح
رخيصة، هو الثبات على الحق وعدم التنازل عن شيء منه، فمن ظن أن الحق
قد يُنصر بالتخلِّي عن شيء منه، أو أن نُصرة المسلمات الأسيرات تكون
بالتفريط في ثوابت الدِّين، فهذا قد أخطأ الطريق، وأفسد من حيث أراد
الإصلاح، وقدَّم خدمة جليلة لأعداء الدين، وخذل إخوانه من أهل الحق
كما خذل نفس القضية التي يدافِعُ عنها.
ولا مجال هنا للحديث عن حسن النوايا التي لا يعلمها إلا الله، لكننا
مع إحسان الظنِّ بإخواننا نقول: إنَّ النية الصالحة لا تُصلِح العمل
الفاسد، وكم ابتُلِي أهل الحق بأعمال فاسدة، وشرور عظيمة، كان الدافع
لها نوايا صالحة!
وأخيرًا: فإن كلَّ محنة تحمل في طِيَّاتها مِنْحة، وإن هذه المحنة كما
أبرزت سلبيَّات عدة، فقد أظهرت أن الخير ما زال قائمًا في هذه الأمَّة
مهما اشتد ضعفها، وأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا
يضرُّهم من خذلهم، وأعني بهم أولئك الذين حمَلُوا هَمَّ هذه القضية
بحقِّها، وصدَعُوا بالحق لا يخافون في الله لومة لائم، ولم يبالوا بما
يجرُّه ذلك عليهم من أخطار.
فنسأل الله أن ينوِّر بصائرنا، وأن يُرِيَنا الحق حقًّا ويرزقنا
اتِّباعه، وأن يريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألاَّ يجعل
مصيبتنا في ديننا، ولا يجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مَبْلَغ علمنا،
وأن يستعملنا في خدمة الدين، وأن ينصر عباده المستضعفين من
الموحِّدين.
وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خير الأنام، وعلى آله
وأزواجه وأصحابه ومن تَبِعهم بإحسان.
-----------------------------
[1] انظر: "سيرة ابن هشام" (2/561)، و"المغازي" للواقدي (1/176)،
و"البداية والنهاية" لابن كثير (4/3)، و"عيون الأثر" لابن سَيِّد
الناس (1/295)، و"الروض الأنُف" للسُّهَيلي (3/224).