العقيدةُ الشهوانية
صلاح بن فتحي هلل
العقيدة أنواعٌ وأشكالٌ، وكلٌّ يعمل على شاكلتِه، وربُّك أعلمُ بمَن
هو أهدى سبيلاً، وعلى أطباء العقائد البحث فيما وراء الظواهر، للوقوف
على أسباب العقائد، وطرُق تناولها..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن آله وصحبه الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعلهم خير أمةٍ أُخْرِجَتْ للناس، رضي الله عنهم جميعًا.
أما بعد:
فالعقيدة أنواعٌ وأشكالٌ، وكلٌّ يعمل على شاكلتِه، وربُّك أعلمُ بمَن هو أهدى سبيلاً، وعلى أطباء العقائد البحث فيما وراء الظواهر، للوقوف على أسباب العقائد، وطرُق تناولها.
وإذا كان أسلافنا قد بحثوا الكثير من العقائد البشرية التي كانت في عصرهم، فإننا اليوم بحاجة لأن نسير على درْبهم في بحث العقائد العصرية، التي شاعت في الناس، للوقوف على أسبابهم في معتقدهم هذا، إِذ الحكم على الشيء فرعٌ على تصوُّرِه.
ومع وَفْرَة الدراسات العصرية في هذا الجانب، غير أننا بحاجة للمزيد من الدراسات والأبحاث، لاستكشاف جوانب أخرى ما زالت في حيز النسيان، وفي مقدمتها ما أسميتُه بالعقيدة الشهوانية.
فعلى الرغم من شهرة هذه العقيدة الشهوانية، وانتشارها في الناس؛ غير أنني لم أقف فيها على بحثٍ جادٍّ يُجَلِّيها، مِن جهاتها كلها، ولا أزعم لنفسي المقدرة على ذلك في هذه السطور القليلة، غير أَنِّي آثرتُ إلقاء الضوء عليها، تاركًا الاسترسال في البيان والمعالجة للخبراء المختصين وهم كثيرٌ بفضل الله عز وجل، على أمل أنْ ييسِّر الله عز وجل الكتابة في هذا الأمر لاحقًا بأطول ممَّا هنا.
وكما قلتُ سابقًا فإنَّ العقائد أشكالٌ وألوانٌ، وكلٌّ يبحث لنفسه ويختار، ولا أحد يُجبر أحدًا على اختيار شيءٍ باطنيٍّ؛ إِذ الباطن مجهولٌ للناظرين، خفيٌّ عَصِيٌّ على البيان والظهور لهم، فهو دفين صاحبه، لا يعلمه سوى خالقه سبحانه وتعالى المطَّلع على ما تُخْفي الصدور، فالباطن إذن سِرٌّ دفينٌ داخل صاحبه الذي يبطنه، هو وحده دون غيره مِن البشر الذي يعلم ما بداخله.
ومع ذلك فإنَّ الناظر النبيه يمكنه أن يقف على كثيرٍ مِن خفايا البواطن، ويفهم العديد مِن الإشارات الظاهرية الفاضحة لهذا الباطن المكنون، فالنفاق الدفين يفضحه الجدال ولحن القول والنكوص على الأعقاب والتكاسل عند رؤية الخير للمؤمنين؛ على سبيل المثال، بينما تفضح المبادرة إلى الخيرات والحرص على العبادات بشاشة الإيمان في قلب المؤمن.
ومن خلال هذه الإشارات الفاضحة يمكن لنا أن نصل إلى أسباب هذه العقائد وحقائقها التي تقف خلفها، فليست جميع العقائد على درجة واحدة، مِن حيثُ الأسباب والآثار الناتجة عنها.
فنحن عندما نقرأ لأبي حامدٍ الغزالي مثلا، ونرى كلامه في العقائد سنجد حجم العناء الذي تكبده الغزالي في البحث عن الحقيقة، وصل إليها أم لم يصل، لكننا أمام باحث عن الحقيقة، نلمس ذلك بوضوح في كلامه وسطوره، نوافقه ونخالفه، لكننا لا ننكر أبدًا له هذه الرغبة في البحث، حتى وإنْ تنكّبَ الحقيقة في كثيرٍ مِن الأحيان.
فمثل الغزالي عندما نأتي لتصنيفه في باب العقائد، سنجد أمامنا عدة أسباب أوصلته إلى ما وصل إليه، وسيكون مِن السهل أن نتحدث عنه بشكلٍ علميٍّ، ومنهج بحثيٍّ سليمٍ، بغض النظر عن نتائج البحث التي سنصل إليها، فهذه مسألة أخرى لستُ أقصد لها الآن.
لكننا أمام رجلٍ قصدَ العقائد، ولم يعتقدها لسببٍ خارجٍ عن العقائد، وإنما قصدَ البحث عنها لذاتها، ثم اعتقدَ ما أوْصَلَهُ إليه بحثُه، وغلبَته عليه اختياراته.
فمثل هذا المثال له أسبابه وآثاره الخاصة بالعقائد مِن حيثُ القصد إليها أو البحث عنها، والرغبة في الوصول للحقيقة، حتى وإِنْ تاهت الحقيقة أو تاه الباحث عنها.
ولن نعدم أمثلة كثيرة في تاريخ المسلمين، بل وفي تاريخ غيرهم، أرادوا الحقيقة، وبحثوا عنها، وحاولوا، فوصل بعضهم، ولم يصل آخرون، لكن يبقى الاتفاق على دافع هؤلاء جميعًا في بحثهم عن الحقيقة، ومحاولتهم الوصول لما تطمئن إليه نفوسهم مِن عقائد في كل ما حولهم.
وفي مقابل ذلك: فأننا نجد عقائد أخرى اشتهرت عن أفراد معروفين، لكننا لا يمكن لنا أن نصنِّفهم في باب الباحثين عن الحقيقة؛ إِذْ لم نجد في سيرتهم ما يدل على هذا البحث، وإنما ورثوا شيئًا فآمنوا به كما ورثوه، أو تابعوا الآباء والأجداد والأعراف على ما هي عليه، دون تفكير في طبيعة العقائد أو غيرها، فاعتقدوا تقليدًا، ولم تكن معتقداتهم ثمار بحثٍ ومحاولة للوصول إلى الحق، وإنما أخذوا ما وجدوه على ما هو عليه، بحُلْوِه ومُرِّه، فهؤلاء لا يمكن تصنيفهم في علماء العقائد، أو الباحثين فيها، والاحتجاج بهم في العقائد، مِن قريب أو بعيد، وإنما هم مِن عامة الناس مهما كان علمهم في بقية الفروع، فلا يُسْتَكْثَر بهم في بيان عقائد الموافقين أو المخالفين، ولا يُتَتَرَّسُ بهم في الانتصار لعقيدةٍ على أخرى؛ إِذْ ليست العقائد بابتهم ولا هي بالتي شغلتهم أو شُغِلُوا بها أصلاً.
وعلى جهةٍ أخرى نجد صنفًا آخر يتشابه مع المقلدة في عدم الاستكثار به في الانتصار لعقيدة على أخرى، مع الاختلاف فيما بينهما في سبب الاعتقاد، فبينما نجد التقليد يقف وراء اعتقادات المقلدين، فإننا نجد الشهوة تقف خلف أصحاب العقيدة الشهوانية.
والمقصود بالشهوة هنا: معناها الواسع الشامل لجميع الشهوات، ليشمل ذلك شهوة المال والمنصب والنَّفْس، وغيرها مِن الشهوات.
والمقصود بالعقيدة الشهوانية: أن تكون الشهوة هي الباعث على العقيدة، وفي هذه الحالة لا يُستكثر بأصحاب هذه العقيدة في نصرة مذهبٍ على آخر، ولا في إحقاق عقيدة أو إبطال أخرى، إِذ العقيدة لم تكن قصدهم، ولا كان البحث طريقهم، وإنما اتخذوها سُلَّمًا لتحقيق مآرب لهم أخرى لا تتصل بالعقيدة بصلة ما، وهذا الصنف لا يصلح علاجه بمنطق المحاورة العلمية والبحث العلمي الجاد؛ إِذ البحث ليس سبيله ولا هدفه، بل ربما لا يصل بمداركه إلى فهم ما يدور حوله، مِن آثار كلامه ونتائجه عليه أو على الآخرين.
وهؤلاء كثيرٌ في عصرنا، تجد الواحد منهم إذا ضجَّ بقيود الشريعة، وأراد التحلُّل مِن لوازمها، والانغماس في الشهوانية، أيًّا كان نوعها؛ نجده يدَّعي لنفسهِ تصنيفًا بعيدًا عن الشريعة، بل ربما ادَّعى لنفسه اعتقاد الماديين أو الماركسيين أو غيرهم، فتجده يتغنَّى بكونه ماديًّا أو ماركسيًّا، وهو لا يعرف عن هذه أو تلك شيئًا، وإنما قصد التحلُّل مِن لوازم الشريعة والدين، وخشي مِن سهام الناصحين فقطع الطريق عليهم بحماقته التي صاغها في انتسابه للمذاهب المادية أو الماركسية أو غيرها مِن مذاهب الكفر والإلحاد.
وفي الحقيقة فإنَّ انتسابه الفجّ الذي أعلن عنه ربما كان دلالة كبيرة على اضطرابٍ فادح في داخله، وأملٍ ولو قليل على العلاج بطرقٍ ليست هي المحاورة أو البحث في العقائد؛ إِذ الأمر خارجٌ عن هذه الدائرة، وإِنْ بدا كذلك للنظرة الأولى.
وقد وجدنا عددًا مِن الناس ربما فرَّ مِن الرمضاء إلى النار، فيهرب مِن كثرة المعاصي والذنوب، ويكسر حاجز الحرمات والحدود الشرعية بالإعلان عن خروجه جملة وتفصيلاً عن الدين كله، وهذه حماقةٌ كبيرةٌ وسفهٌ لا يُعالج بالحوار في العقائد، وإظهار صحة العقيدة لهؤلاء السفهاء، فإِنَّه لا شأن لهم بصحة أو عدم صحة هذه العقائد أصلاً، وإنما دفعتهم شهواتهم لانتسابهم لعقيدة توافق تلك الشهوات، فإِذا ما اختلفت هذه العقيدة مع شهواتهم رموها، وذهبوا لغيرها.
وهذا مشهورٌ لدى الكثير مِن أهل عصرنا بكل أسف، ويمكننا أن نضربَ المثال بأولئك الذين يتغنون بالعلمانية والليبرالية، ويرون أن جوهر هذه العقائد والملل يقتضي الفصل بين الدين والدولة، ويتغنون بالحرية الشخصية، وفي مقابل ذلك نراهم أول الناكصين على أعقابهم في هذه المجالات التي يتغنون بها، وأكثرهم انتهاكًا لحريات الناس، وأكثرهم ضجرًا مِن كل ما هو إسلاميٍّ؛ مما يشي بأنَّ المسألة لها أبعادٌ أخرى لا مدخل لها بالاعتقاد، وإنما هي الشهوة المزركشة بعبارات العقائد، أو المختفية خلفها.
وقد ظهر أشباه هؤلاء في المنتسبين للتصوف في هذا العصر؛ اتخذوا التصوف مطيةً للكسب والتربُّح، وقد ظهر هذا واضحًا في كثيرٍ مِن مواقف هؤلاء المنتسبين للتصوف؛ عندما تم إيقاف بعض موالدهم الكبرى، فثارت المتصوفة وتفوَّهَتْ بالكثير مِما لا يزال أثره وعلمه مشهورًا في الناس الآن، بحيثُ يغني عن سرده وبيانه، فكان مما اعترض به هؤلاء المتصوفة على إيقاف الموالد كونها مصدر كسبٍ لمئات بل آلاف المتصوفة، وأنَّ في إيقاف الموالد تهديدٌ وتشريدٌ لهذه الألوف التي تعتمد في كسبها على هذه الموالد.
فالأمر هنا ليس خاصًّا بعقيدةٍ؛ وإنما هو دفاعٌ عن مصدر الكسب، وإنْ غُلِّفَ هذا الدفاع في صورة الدفاع عن الدين أو عن الأولياء، كما أننا لم نجد لدى هؤلاء المدافعين عن قوتهم ما يدل على علمٍ أو فهم لعقيدةٍ حتى نجعلهم مِن أهل العلم والعقائد، فيبقى حالهم في إطار عامة الناس وجهلتهم الذين لا يصلح علاجهم بالحوار فيما لا تطيقه عقولهم، وإنما يصلحهم بيان الحق بنقائه وصفائه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذه الثمرة هي ثمرة الوقوف على أحوال أصحاب هذه العقائد، والتفريق بين العقيدة الناتجة عن بحث واستدلال والتي يعالج صاحبها بالحوار المبني على بيان الأدلة وتفنيد الحجج، وبين العقيدة الشهوانية الناتجة مِن شهوة الحرص على الدنيا وحطامها مع جهلٍ بالدين والعلم، فصاحب هذه العقيدة لا يصلحه الدخول معه في حوارٍ يُفَنِّد له حُجتَه التي لا يملكها أو يرددها تقليدًا دون فهمٍ لها، وإنما يصلحه بيان الحق في صورته الواضحة بغير لبسٍ بالحكمة والموعظة الحسنة.وبهذا تتضح لنا معالم العقيدة الشهوانية مِن جهةٍ، وثمرة الوقوف عليها مِن جهةٍ أخرى.
فأما معالمها فهي بإيجازٍ: عقيدةٌ ناتجةٌ عن غير بحثٍ أو رغبةٍ في حقٍّ، وإنما هي مجرَّد مطية يمتطيها الشخص متى وجد فيها مصلحتَه، ورآها توصله إلى مآربه التي يسعى إليها.
وأما ثمرة الوقوف عليها: فتتمثل في جهتين؛
الأولى: أنْ لا يُستكْثَر بأصحابها، أو يُحتج بهم على نصرة عقيدة أو إبطال أخرى، فلا يمثِّل هؤلاء شيئًا يفيد عقيدة أو يضر أخرى، عند البحث في الأصول العلمية للعقائد وترجيح الحق الراجح على الباطل الزائف.
والثانية: استكشاف الطريقة المثلى في معاملة أصحاب هذه العقائد، وردِّهم إلى الحق بأقرب الطرق، دون الدخول في حوارات عقيمة، وجدل لا يُنتج أثرًا، كونهم لا يعتقدون ما هم عليه عن رغبة فيه مُجرَّدًا عن مآربهم، بل وربما يعلنون اعتقادهم هذا مع علمهم بفساد ما انتسبوا إليه مِن عقائد؛ لكنهم لعدم مبالاتهم ورِقَّة دينهم ورغبتهم في شهوة الدنيا وحطامها قد ارتقوْا مرتقًى صعبًا، وامتطوا مطيَّةً رأوْا فيها ما يُحَقِّق مآربهم، وسرعان ما يتركها هؤلاء متى ظهرتْ لهم مطيَّةٌ أخرى، وهذا يُفسِّر لنا انتقال العديد مِن أصحاب هذه العقائد مِن واحدةٍ إلى أخرى وفي فترات وجيزة.
فهذا التحوُّل مِن عقيدةٍ إلى أخرى، عن غير رغبة في السابقة أو اللاحقة، وإنما رغبة في تحقيق مآرب دنيوية، ومكاسب مادية أو وجاهة لدى الناس؛ مع ما يقترن بهذا التحوُّل مِن جهلٍ بالسابق واللاحق مِن العقائد المنتسَب إليها؛ فهذا كله يدل على فراغٍ علميٍّ لا يمكن معه الدخول في حوارٍ علميٍّ مع هذا المصاب؛ وإنما يُعالج مثله بطُرُقٍ أخرى؛ كالدعوة بعرض الحق مباشرة، مع بيان زيف وبطلان العقائد الباطلة، بما يلاءم حال هذا المتحوِّل كعامِيٍّ أو جاهلٍ، وهذا يختلف قطعًا عن دعوتهم كباحثين وعلماء بالعقائد؛ لأنهم ليسوا كذلك، ولكلِّ مقامٍ مقال. ولعل فيما مضى كفاية في بيان المطلوب إنْ شاء الله تعالى. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. والحمد لله ربِّ العالمين.