يوم النحر اليوم الأعظم

محمد علي يوسف

  • التصنيفات: العشر من ذي الحجة -


لم تنته العشر بعد
بقي اليوم الأعظم...
بعد قليل يبدأ هذا اليوم الذي اختصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف
أعظم يوم
"أعظم الأيام عند الله يوم النحر" 
هكذا صرح الحبيب وبشكل محكم وحاسم
هذا هو اليوم الأعظم على الإطلاق!
والسؤال الذي أسأله دوما لنفسي هو لماذا؟!
لماذا هو الأعظم ؟ 
لم يقلها النبى صلى الله عليه و سلم عن عرفة ؛ ذلك اليوم المهيب الذى أخذ الله فيه عهد الفطرة على بنى آدم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فقالوا بلى شهدنا
ولم يقلها عن عاشوراء ؛ ذلك اليوم الذى أظهر الله فيه موسى على فرعون و فرق له البحر فكان كل فرق كالطود العظيم و أغرق فرعون و آله المجرمين الآثمين
ولا قالها عن أى يوم من سائر أيام الله وما أعظمها جميعا
لكن الأعظم بلفظ من لا ينطق عن الهوى هو ذلك اليوم
يوم النحر
- هل لأنه يوم الحج الأكبر الذى فيه أكثر مناسك الحج من ذكر الله عند المشعر الحرام و رمى للجمار و إهداء للهدى و إفاضة و سعى ؟ 
ربما
- أم لأنه يوم بر و إطعام و صدقات و صلة أرحام ؟ 
ممكن
- هل لأنه خاتمة أفضل أيام الدنيا أيام العشر الأول من ذى الحجة التى فيها الصالحون الذين هم لأعمال البر عاملون يتنافسون مع المجاهدين فى سبيل الله؟
و ما المانع ؟
كل ذلك و غيره ربما يكون من العلل المنطقية لفضل هذا اليوم العظيم
لكننى أرى أن أوقع الأسباب مرتبط باسم اليوم نفسه
النحر....
ذلك العمل الذى يميز هذا اليوم بلا منازع والذي ما تقرب أحد إلى الله بشىء فى ذلك اليوم مثلما تقرب بهذه العبادة التي من وجد يسرا فلم يتعبد بها فلا يقربن مصلانا كما ثبت عمن قال له ربه : " فصل لربك و انحر"
ذلك العمل الذي بلينا بإدراك زمان يتهكم فيه بعض من ينتسب للإسلام على نسكهم ويزدرون شعيرة من شعائر دينهم ويحقرون فيه هدي نبيهم وجد نبيهم
إن قضية النحر ليست فقط فى النسك و إهراق الدم قربانا لرب العالمين و هى كبيرة إلا على الطائعين المستسلمين و لنا فى بنى إسرائيل العبرة حين أمروا بذلك فماطلوا و جادلوا ثم ذبحوها و ما كادوا يفعلون !!
لكن المعنى الأهم و القيمة الأخطر تقع فى رمزية الفعل نفسه و لا تتبين إلا عند إرجاعه إلى أصله الذى بدأت به تلك السنة و شرعت به هذه الشعيرة
إنها التضحية
تلك القيمة التى بدأ بها الأمر كله
حينما هبَّ نبى الله إبراهيم عليه السلام من نومته وقد ثبتت الرؤيا و استقر الوحى و رؤى الأنبياء حق وليست مجرد كابوس كما تشدق بعض المجرمين
لقد صدر الأمر بالتضحية و جاء موعد البلاء المبين
بعد كل تلك البلاءات المتتابعات من جفوة الأهل و إلقائهم إياه فى برد الجحيم و ارتحال فى البلدان أليم و مراودة لزوجه من أفاك أثيم و تركه لذريته فى واد غير ذى زرع عن الماء عقيم
بعد كل ذلك يأتى البلاء المبين و تكون وولدك عند حسن الظن يا إبراهيم
لقد أقدم الخليل على تلك التضحية التى لا توصف وقال الكلمات لولده الذى طالما انتظره وها هو قد بلغ معه السعى واشتد عوده و آن الوقت ليكون له سندا و عونا فإذا به يؤمر بذبحه
ترى كيف كانت مشاعره فى تلك اللحظات و هو يتفرس فى ملامحه وينظر إلى قسمات وجهه الذي طالما اشتاق إليه ؟!
كيف كان حال قلبه المتدفق بمشاعر الأبوة الحانية و هو يردد على مسامعه {يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى}
فقال الولد الصالح الذى ورث عن أبيه الخليل أدبه مع الرب الجليل "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين"
فلما أسلما و خضعا و استسلما و رقد الغلام على وجهه و صار للأرض الجبين و لامس العنق السكين رفع البلاء المبين و جاء الفداء من الرحيم الكريم وقال "وفديناه بذبح عظيم"
هذا المشهد الذى يحمل أسرارا عميقة و مشاعر يعجز القلم عن وصفها تلخصه كلمة واحدة
التضحية
تضحية ربما لم يعرف العالم مثلها
قد يجوع المرء ليشبع ولده و يتحمل البرد ليدفىء ابنه و قد يحرم نفسه من اللذة و المتاع ليهنأ فلذة كبده
أما والد يقدم على ذبح ولده امتثالا لأمر مولاه و دون لحظة تردد !!
إن هذا لشىء عجاب
و بيده هو و ليس بيد غيره و رغم ذلك يقبل و يقبل الولد و كأنما يقولان للعالم بلسان الحال : لا نقدم شيئا على تعظيمنا لله لا شىء يقف بيننا و بين مراد الله
لن يعطلنا عن إرضائه و امتثال أمره شىء و لو كان أقرب الناس إلى قلوبنا و فلذات أكبادنا
هذا فى تقديرى أهم معنى ينبغى أن يستقر فى قلوبنا و نحن نقدم على هذه القربى و الأضحية
معنى التضحية
المعنى الذى لا يستقر إلا فى قلب المعظم
لذا أجدنى أميل إلى أن هذا السبب أن اليوم هو الأعظم 
لأنه يوم التعظيم
يوم الإعلان و الصدع بهذه القيمة
أنه لا شىء و لا شخص و لا محبوب و لا مرغوب و لا مرجو أعظم فى قلبى من الله و أننى على استعداد لأن أضحى بكل شىء فى سبيل رضاه
لهذا استحق أن يكون الأعظم و الله تعالى أعلى و أعلم
و التضحية فى الحقيقة هى نتيجة و ليست أصلا
الأصل هو التعظيم و حينما يأتى التعظيم تأتى التضحيات و المجاهدات و تظهر البطولات و تتحدد الاختيارات فالتضحية قرينة التعظيم
و ما من مضح يضحى إلا إن كان معظما لما يضحى لأجله فتهون بالمقارنة قيمة أى شىء يضحى به حتى لو كان ولده !
أو أحب ماله إليه كما في فعل سليمان عليه السلام حين شغلته الصافنات الجياد عن ذكر ربه فطفق مسحا بالسوق والأعناق وذبحها قربانا إلى الله معلنا أنه لن يقف شىء بينه وبين طاعة مولاه
بل حتى لو كانت نفسه
لذا كانت عبادات التضحية أعظم العبادات لأنها أوضح الأدلة على وجود هذا التعظيم
فالجهاد ذورة سنام الدين وهو جهد النفس و المال و لقيام الرجل فى الصف فى سبيل الله أعظم من قيام ستين سنة و ما وجد النبى صلى الله عليه و سلم عملا يعدل الجهاد فى سبيل الله
و الشهادة – تلك المنزلة العظيمة – ما نالها صاحبها إلا لأنه اختار أن يضحى بنفسه فى سبيل الله و ذلك من تمام التعظيم و أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ، يضحك إليهم ربك ، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه كما ورد بسند صحيح
وسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر ينهاه عن منكره وظلمه ويصدع بكلمة الحق في وجهه حيث يغلب على ظنه أن الجائر الظالم لن يتقبل أمره بمعروف أو نهيه عن منكر مضحيا في تلك اللحظات بأمنه ونفسه حين يقتله هذا الجائر
و أفضل الصلاة بعد المكتوبة تلك التى فى جوف الليل لما فيها من تضحية بنوم هانىء و فراش وثير دافىء تعظيما لم يقوم القائم لأجله
و أفضل الصدقة جهد المقل لما فيها من تضحية ذلك المقل بمال هو أصلا قليل لكن قلته لم تمنعه عن إنفاقه لأن مقام الله فى نفسه أعظم
و أفضل الرقاب التى تعتق هى أغلاها و أنفسها عند أهلها
و هكذا تجد الأمر مطردا
كلما زادت التضحية دل ذلك على زيادة التعظيم فى القلب و من ثم كان الفضل
و لقد قعد الشيطان بأطرق التضحية لأنها كما قلت أبلغ الدلائل على حال المعظم لربه 
فكما فى حديث سبرة بن فاكه المخزومى «أن الشيطان قعدَ لابنِ آدمَ بأطرُقِه ، فقعد له بطريقِ الإسلامِ فقال له : أتُسلمُ وتذرَ دينكَ ودينَ آبائكَ وآباءِ أبيكَ ؟ قال : فعصاهُ فأسلمَ ، ثمَّ قعد له بطريقِ الهجرةِ فقال : أتهاجرُ وتذَرُ أرضكَ وسماءكَ وإنَّما مثلُ المهاجرِ كمثلِ الفرسِ في الطِّوَلِ ، قال : فعصاهُ فهاجرَ ، ثمَّ قعد له بطريقِ الجهادِ فقال : هو جهدُ النَّفسِ والمالِ فتقاتلُ فتنكحُ المرأةُ ويُقسمُ المالُ ، قال : فعصاهُ فجاهدَ ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : فمَنْ فعل ذلك منهم فماتَ كان حقًّا على اللهِ أنْ يدخلَ الجنَّةَ أو رفصَتهُ دابَّتهُ كان حقًّا على اللهِ أنْ يدخلَ الجنَّةَ » . [صحيح النسائى]
و لقد كان حال المضحين دوما مثار استعجاب و دهشة لمن لم يدرك هذه القيمة 
قيمة التعظيم 
فما أقدم إبراهيم على تضحيته بولده إلا لأن مقام الله كان فى قلبه أعظم
و ما ضحى يوسف بحريته و مكانته و أعلن أن السجن أحب إليه إلا لأن خشية الله فى قلبه أكبر
و ما جاد صهيب الرومى بماله كله أثناء هجرته إلا لأنه حبه لله و رغبته فى رضاه كانت أظهر
و ما كان خبيب يبالى حين يقتل مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعه إلا لأنه معظم لربه
و ما قال سعد لأمه حين حاولت فتنته عن دين ربه بقتل نفسها : لو أن لك مائة نفس خرجت كلها نفسا نفسا ما تركت دينى فكلى إن شئت أو لا تأكلى . إلا لأن حبه لله أكبر
و ما أقدم عبد الله بن عبد الله بن سلول على قتل أبيه حين سب نبيه صلى الله عليه و سلم إلا لأن إرضاء الله كان فى نفسه أهم
و ما قام حنظلة غسيل الملائكة ملبيا نداء المنادى يا خيل الله اركبى و مضحيا بليلة عرسه ثم بعد قليل مضحيا بنفسه إلا لأنه أحب الله أكثر و عظمه أكثر
و كذلك كان حال كل شهيد صادق و كل منفق مخلص و كل مضح محتسب التعظيم
و لذلك اتصل الثناء على أولئك المضحين المعظمين فى الكتاب و السنة
فهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا
وهم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله
و هم أولئك الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله و الله رؤوف بالعباد
خلد الله ذكرهم و أثنى على أمجادهم و بطولاتهم
و هل ينسى أحد مؤمن آل فرعون و تضحيته؟!
و هل يغفل أحد عن مؤمن سورة ياسين و شهادته؟!
و هل يطيب ذكر الشهداء دون الثناء على شهداء الأخدود وعلى رأسهم الغلام الذي دل الملك الكافر على طريقة قتله ليؤمن الناس بمن يعظم ويكبر
كل أولئك ضحوا و جادوا بأنفسهم فاستحقوا أن يعظم الله ذكرهم لما عظموه بفعالهم
و أكرم بالغامدية فى السنة النبوية حين أثنى عليها خير البرية قائلا : لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له و لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم . وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى ؟ "
تأمل مرة أخرى قول حبيبك جادت بنفسها
أى ضحت
و ما ضحت إلا لأنها عظمت
عظمت حرمات الله { ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه}
و هل استعر الندم فى قلبها طوال أشهر الحمل و الرضاع دون أن تخفت إلا لهذا التعظيم ؟!
و اليوم يوم التضحية و هو يوم التعظيم لذلك استحق أن يكون الأعظم
تذكر ذلك و أنت تضحى و اعلم أنه لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى
فإن لم تكن مضحيا لضيق ذات يد ونقص قدرة فتذكر هذا المعنى و أنت تكبر
فاليوم يوم التكبير و ما التكبير إلا تعظيم
وحذار أن نكون ممن يكبره كذبا
للأسف هناك من لا يجاوز التكبير لسانه و لا يلامس التعظيم قلبه
و هل صدق من زعم أنه يكبر الله ثم آثر ألا يضحى و لو ببعض راحة لإجابة ندائه للصلاة ؟
هل صدق من زعم أنه يكبر الله و هو يأبى أن يضحى بمال حرام أو بنظر حرام ؟
هل صدقت من زعمت أنها تكبر الله و قد أبت أن تضحى ببعض المساحيق و الزينة طمعا فى رضاه ؟
إن لتعظيم الله دلائل كما سبق و بينت و ليست مجرد ادعاءات و على المعظم حقا أن يعى أن تعظيمه لربه لابد أن يكون مقترنا بتعظيمه لشرعه و أمره و نهيه " ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب "
ليس شرطا لتظهر تعظيمك أن تهاجر أو أن تقتل أو تضحى بولدك أو منصبك أو بمالك كله فإن لذلك إرهاصات لابد أن تظهر عليك أولا و أفضل الهجرة أن تهجر ما حرم الله و أفضل الجهاد جهاد النفس فى ذات الله كما صح رسول الله صلى الله عليه و سلم
لابد أن يظهر عليك تعظيمك لله و لشرعه و لحرماته و شعائره من الآن حتى إذا حدث التعارض بين محبوب أو مرجو و بين رضوان الله قدمت رضوان الله بلا تردد
فلنجعل اليوم العظيم الذى نحن مقبلون عليه إيذانا ببدء رحلة تعظيم نسأل الله أن تستغرق أعمارنا كلها
فلنعلنها اليوم لله
الله أعظم و أكبر
أعظم من كل محبوباتنا 
و أكبر من كل مرجواتنا
لن يقف بيننا و بين إرضائه شىء
ولن نقدم بين يديه قولا أو اختيار
سنكبر الله صدقا و نعظمه حقا فى أعظم أيامه
يوم الأضحية 
و التضحية 
يوم الحج الأكبر 
يوم النحر .. 
اليوم الأعظم