وأذِّن في الّناس بالحجِّ
ملفات متنوعة
منذ أن أمر الله خليله إبراهيم -عليه السلام- أن يهتف بالناس داعياً
لهم إلى حج البيت؛ تتواصل جموع الحجيج من البشر، جيلاً بعد جيل، شاهدة
على دعوة الأنبياء بالصدق، وملبية نداء الله عز وجل...
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ
الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ*
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ}
[الحج: 27-29].
منذ أن أمر الله خليله إبراهيم -عليه السلام- أن يهتف بالناس داعياً
لهم إلى حج البيت؛ تتواصل جموع الحجيج من البشر، جيلاً بعد جيل، شاهدة
على دعوة الأنبياء بالصدق، وملبية نداء الله عز وجل.
وإنها لمناسبة جليلة، وإنه لموسم عظيم؛ أن يقف عشرات الألوف من
المسلمين من شتى البلدان، والأصقاع على صعيد واحد، على هذه الأرض
المباركة التي جعلها الله قبلة للعالمين.
وإذا أراد متحدث أو كاتب أن يستنبط عبرة أو حكمة من حكم الحج،
ويجعلها مدار حديثه لما لها من دلالات وإشارات، فإن هناك أمرين على
غاية من الأهمية هما: المكان، والمغزى العام من هذه الشعيرة؛ أمّا
المكان: فلأمْر ما أمَرَ الله الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، ويطوفوا
حوله ملبين، متجردين، رابطين الشعائر بالعقائد، فهذا الحشر العظيم يوم
الحج الأكبر يذكرهم بذلك المشهد العظيم الذي سيصيرون إليه، والذي
آمنوا به ابتداء وجعلوه غاية لأعمالهم، ونهاية لمساعيهم.
ولأمر ما جعل الله هذا المكان مهبطاً لخاتمة رسالاته، التي جاءت تؤكد
كل معاني الخير والرحمة ما عرف منها قبل الإسلام وما لم يعرف، وجعله
كذلك مثابة للناس وأمناً، يثوبون إليه من كل مكان، وتهوي قلوبهم إليه
من وراء المسافات: {وإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وأَمْناً واتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ}
[البقر ة: 125].
وعلى الأرض المحيطة بهذا البيت أورث الله رسوله محمداً -صلى الله
عليه وسلم- وصحابته الكرام القيام على دعوة إبراهيم، وأسند أولوية
الانتساب إلى إبراهيم إلى خاتم الرسل وإلى من اتبعهم من المؤمنين.
{إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا
واللَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ}[آل
عمران: 68].
ومعنى هذا أن اليهود والنصارى الذين يدعون الانتساب إلى أبي الأنبياء
إبراهيم، دعواهم باطلة، ويترتب على هذا البطلان انهيار الأساس المعنوي
الذي يتحكمون فيه بشعوب الأرض، ويغتصبون حقوقها تحت أي مبرر
كان.
ولا نريد بكلامنا هذا أن نفرج عن همنا المكبوت بسب هؤلاء، وبالتهجم
عليهم من خلال الكتابة أو الخطابة، وإنما نرمي إلى غرس المغزى من وراء
ذلك في قلوب المؤمنين، هذا المغزى هو الثقة بالنفس، والاعتزاز العاقل
الذي يدفع إلى العمل الجدي القائم على التفكير الهادئ، والبعيد عن
ثورة العواطف التي قد يثاب فاعلها على نيته، ولكنها لا تؤدي إلى خروج
من مأزق، ولا تساعد على حل المشكلات، هذا إذا لم تكن هي بدورها سبباً
للفوضى والتخبط.
إن من المعاني التي تشير إليها الآية الكريمة:
{وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
[البقرة: 143] هو الوسطية المكانية التي ترتب مسؤولية
ضخمة على أتباع هذه الرسالة التي انطلقت من هذا المكان، ولقد حملت
الأجيال المبكرة للمسلمين هذه المسؤولية بجدارة تثير الإعجاب، وقدمت
رسالة الإسلام للعالمين بكل ما تتضمنه من طهارة، وعدالة، وسماحة، وحب
للعلم، وحرص على السمو، وبُعد عن سفساف الأمور.
ولا يزال حملهم هذه المسؤولية بقوة مثلاً أعلى لنا، وشاهداً على
تقصيرنا في هذا المجال، مع أن الله لم يبخل علينا بالقدرات
والإمكانات، حاشاه عن ذلك سبحانه وتعالى.
إن أصحاب الفكر الغربي والقيِّمين على ترويجه يجعلون من بلادهم مركز
العالم ومحوره، فكل شيء منهم يبدأ وإليهم يعود، بينما واقع العالم
يكذبهم ويدحض دعاويهم وغرورهم، بينما يتجاهلون من عداهم تجاهلاً
مقيتاً، وخاصة الإسلام والمسلمين، ويرفضون الاعتراف بالحقائق الساطعة
الواضحة، ويسخرون كل الوسائل التي تعمل على تشويه الحقائق، وغسل
الأدمغة، وأقرب مثال على ذلك ترويجهم هذه المصطلحات الرجراجة المائعة
عندما يتحدثون عن قضايانا، مثل: المسألة الشرقية، والشرق الأوسط ..
وما ذلك إلا لكي يصرفوا النظر عما لا يريدونه أن يظهر.
أما المغزى العام من هذه العبادة فهو ما ينبغي أن يتفطن له المسلمون
وخاصة الطبقة الفتية منهم، والتي تقع عليها مسؤولية حمل عبء الدعوة
الإسلامية في هذا العصر، ونعني بذلك مبدأ الأخوة الإيمانية التي
يجسدها الحج بأوضح صورة وكأنها عدم اعتراف عملي بكل ما فرق، ويفرق
المسلمين من الروابط العرقية، والإقليمية، واللغوية التي استغلها
أعداء الإسلام بنجاح حتى الآن -مع الأسف الشديد- وضربوا بها وحدة
المسلمين وعملوا على إثارة التناحر، والشقاق الذي يضعف القوى ويزيل
الشوكة.
ولا نريد أن نتبرأ من أسباب الضعف ونلقيها على الأعداء، ولكن نقول:
إنَّ العدو لا ينجح في تنفيذ خططه إذا لم يجد الأرض الصالحة لذلك،
وإذا لم يجد نقاط ضعف ينفذ من خلالها.
إن الواقع الإسلامي، بما فيه من سلبيات كثيرة، ومن مجالات تحتاج إلى
علاج، وإصلاح ليستثير الهمم، ويستنهض العزائم، من أجل التجديد
والتغيير، وإن ذلك من أبرز ما تشير إليه مناسبة الحج.
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}
[الحج: 32].