ثقافة الوحدة أو ضياع الفرص
مدحت القصراوي
تاريخيًا كانت أقوى حالات المسلمين عندما تتوفر فيهم قوتان: الالتزام والاجتماع.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
تاريخيًا كانت أقوى حالات المسلمين عندما تتوفر فيهم قوتان: الالتزام والاجتماع.
أما الالتزام فنعني به التزام الإسلام والشريعة ورفض الشرك (الوثنيات والردة) أو رد الشرائع (كمانعي الزكاة أو علمانية جنكيز خان!) أو البدع كالروافض والخوارج، وكل مرحلة تاريخية سيطر فيها أصحاب أحد هذه الانحرافات كانت فترة انكسار للإسلام، كفترة البويهيين والعبيديين (الفاطميين)، ونعني بالاجتماع أن المسلمين أمة واحدة من دون الناس، ينسجم فيها جميع الأجناس والأوطان، يرفض الإسلام التمييز العرقي أو القومي أو القبلي ويسميها رايات عمية وعصبيات جاهلية؛ يحرّمها ويراها نتنة، ويتوعد من يرفعها أو يقاتل عليها أو يدعو إليها أو يموت في سبيلها بالنار.
يحرّم تعالى على المسلم أن يوالي كافرًا ضد أخيه فيظاهر الكافر على المسلم في الظاهر (علانية) يحارب معه ضد أخيه، أو يتآمر معه على أخيه أو يعطيه أرضه أو مرافقه أو بحاره لينطلق منها يحارب أخاه، وجعل تعالى أهل الدين الواحد كالنفس الواحدة في آيات كثيرة.
وعلى هذا فجعل تعالى للغضب الشخصي والشهوة الشخصية حدودًا في رد الفعل، إذ أن كلتا القوتين العمليتين، الشهوة أو الغضب، هما المسئولان عن إرادات الإنسان وتصرفاته وعن أغلب التصرفات في هذا الباب خصوصًا.
وأحيانـًا يكون الدافع هو الخوف وجعل له الإسلام أيضًا حدودًا في التراجع لا يجوز له تخطيها ولو قطع إربًا.
حرّم تعالى هجر المسلم لأخيه فوق ثلاث وحرّم كل ما يؤدي الى الخلاف والشقاق والتباغض في أحكام كثيرة كالبيع على بيعه والخِطبة على خِطبته والنجش والغرر وغيره. وأمر بالصلح بين المسلمين ورغّب فيمن بات، وليس في صدره ضغينة أو غش لمسلم، وجعل أجر الساعي في الصلح بين المسلمين أعظم من درجة الصائم القائم، وهكذا.
لذا فقد جعل تعالى دون الغضب والشهوة والخوف حواجز وحدودًا ضخمة تحول دون الانتقام الشخصي المفضي لتفريق كلمة المسلمين أو الانتقام منهم بموالاة عدوهم، أو التوصل لشهوة رياسة أو مال ببيع أمته أو بعضها، أو توقي أذى نفسه بأذى قطاع من المسلمين أو دار من دورهم.
الطبيعي والمنطقي أن يتحول هذا الكم من القيم والأحكام والأخلاق والعقائد إلى ثقافة مستقرة تمنع التفرق وتقدم التآلف وتحفظ الأمة، وقد حدث هذا كثيرًا وقدم الكثير دمه دون وحدة الأمة، وقدم الكثير نصحه وإيثاره ومنع شهوته وكظم غيظه كذلك.
وفي المقابل استهان فريق آخر وغلبته شهوة دنيئة أو غضب مدمر أو خوف مفزع متراجع، والتاريخ مشحون، ولكن نسوق ثلاثة أمثلة تاريخية لبيان خطورة الأمر ومقدار ما ضيعنا من فرص امتلكناها ومقدرات لا تعوَض وجهاد ودماء وعرق مئات الآلاف من المجاهدين.
1) هُزم خوارزم شاه أمام جنكيز خان ومات
وبدأ الإجتياح التتري لبلاده، لكن قدّر الله تعالى لابنه جلال الدين فرصة أن يحاول المواجهة وإيقاف التدمير التاريخي؛ فكان هذا المشهد من التاريخ.
(بدأ جلال الدين يُعِدُّ العدة لقتال التتار، وجمع جيشًا كبيرًا من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه (سيف الدين بغراق)، وكان شجاعًا مقدامًا، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضًا ستون ألفًا من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها.
كما انضم إليه أيضًا (ملك خان) أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته، وبذلك بلغ جيش جلال الدين عددًا كبيرًا، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى (بلق)، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة، وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!
دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة، وقاتل المسلمون قتال المستميت؛ فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها.
وكان لحميَّة المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين، كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار.
واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام، ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين، وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين! وكثر فيهم القتل، وفرَّ الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، الذي كان يتمركز في (الطالقان) في شمال شرق أفغانستان.
وارتفعت معنويات المسلمين إلى السماء؛ فقد وقر في قلوب كثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يُهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في (غزنة) يؤتي ثماره؛ لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، مع ملك خان أمير هراة، واختار المسلمون مكانًا مناسبًا، وأخذوا بالأسباب المتاحة، فكان النصر.
واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهَّز جيشًا أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة (كابول) الأفغانية.
ومدينة كابول مدينةٌ إسلاميةٌ حصينةٌ تحاط من كل جهاتها تقريبًا بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان.
ودارت موقعة كابول الكبيرة، وكان القتال عنيفًا جدًّا، أشد ضراوة من موقعة غزنة، وثبت المسلمون، وحققوا نصرًا غاليًا على التتار، بل أنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار.
كانت هذه الغنائم وبالاً على الجيش المسلم؛ روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» . (البخاري: 4015)
فتنة المال، وهلاك المسلمين، لقد وقع المسلمون في الفتنة!
قام سيف الدين بغراق أمير الترك، وقام أمير آخر هو ملك خان أمير مدينة هراة، قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم، فحدث الاختلاف، وارتفعت الأصوات، ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف! وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين، وكان ممن سقط أخٌ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وأصرَّ سيف الدين بغراق على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكَّره بالجهاد، وخوَّفه من الله تعالى، لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب بجيشه فعلاً!، وانكسر جيش المسلمين انكسارًا هائلاً، لقد انكسر ماديًّا، وكذلك انكسر معنويًّا!) راغب السرجاني قصة التتار، وجاء في مصادر أخرى أن جلال الدين ذكّرهم الله والإسلام، وبكى وقبّل الأرض تحت أرجلهم لئلا ينسحبوا لكنهم غضبوا لأنفسهم وصمّموا، ولم يلتفتوا إلى مستقبل الإسلام نفسه.
تعليق: كان يمكن للمسلمين كسر التتار في البداية والحفاظ على وجودهم ومنع التأخر.
كان المسلمون هم الأقرب إلى المال والقوة ومع التراكم الحضاري للعلوم والرياضيات والبدايات البسيطة للميكنة وكونهم على قمة الحضارة التجارية آنذاك، فكانوا أقرب بكثير من أوروبا الى الثورة الصناعية.
2) إيذاء مسلمي البربر الكرام في الأندلس
وكانوا يسكنون المناطق الشمالية كوضع ديمغرافي استراتيجي للمسلمين يمنع الهجمات من الشمال، فلما أوذوا بسبب الخلافات مع العرب القيسية الشامية، تركوا أماكنهم الشاسعة بلا حروب ورجعوا إلى المغرب.
ومن ثم بدأت العصابات المسيحية تسكن المناطق الشمالية الوعرة التي عجزت القوات الإسلامية بعد ذلك عن دخول مناطقها، وللفراغ أمامهم، تمكّنوا،
ثم أقاموا ممالك مسيحية في البداية (ليون وقشتالة) ثم بدأت حركة الاسترداد؛ الاسترداد المسيحي، بدلاً من استكمال الفتح الإسلامي ليشرق نور الله تعالى على باقي أوروبا،
ولكن ما حدث هو نجاح حركة الاسترداد بتزايد الفرقة، وسقوط الأندلس، وسقوط الأندلس هو تاريخ فارق؛ إذ بدأت حركة استعمار العالم الإسلامي المستمرة منذ خمسة قرون حتى هذه اللحظة في دورات متتالية، كل قوة تسلم لأخرى من البرتغال الى أسبانيا وهولندا، ثم بريطانيا وفرنسا، ثم أمريكا وروسيا (الاتحاد السوفييتي)،
ثم تتنازع الآن بقية الضباع والذئاب ما تبقى من هذا الجسد ودعت غيرها ليشاركها، وما زالوا يرْعون وجود إسرائيل بدعم غربي لئلا يغيبوا عن المنطقة ولتبقى شوكة تفرق الأمة.
3) مشهد لبداية التصفية في الأندلس.
كانت بداية التصفية سنة 623هـ/1227م عندما عين عامل “إشبيلية” أبو العلا إدريس نفسه خليفة للموحدين في منافسة منه لأبي يحيى زكريا بن الناصر الذي كان قد بويع له في “مراكش” إذ بايعته مشيخة الموحدين بعد أن ترك “مرسية” في شرق الأندلس حيث كان واليًا عليها وقد لُقب بالعادل بينما تقلب أبو العلا إدريس بـ المأمون.
وقد أخذ هذا الأخير كل ما عنده من قوات في الأندلس واتجه إلى مراكش، وترك البلاد بدون حماية، فأخذت العواصم الأندلسية تسقط واحدة إثر أخرى في أيدي النصارى.
وفي الفترة من 633 إلى 641 هـ/ 1236 ـ 1243م سقطت “قرطبة” و”إشبيلية” وجيان ومرسيه وبلنسية والجزائر الشرقية (البليار)، فلقد سقطت قرطبة مثلاً في يد فرناندو الثالث ملك قشتالة الملقلب بالقديس دون أن يدافع عنها أحد. (راجع تاريخ المسلمين في المغرب والأندلس، د.عبد الله جمال الدين، ود. جمال فوزي).
الآن إذا غضب فصيل باع بقية الناس وخان قضية الإسلام! وإذا اشتهى منصبًا باع أمة! وإذا أُغري ترك العصبة التي تدافع عن الدين في أحرج المواقف، وأوقف الجهاد والمقاومة وأُتي المسلمون من قِبله.
إننا نحتاج إلى توجيه وتربية ومران، وثقافةٍ وممارسة، وقوانينٍ شرعيةٍ وعرفٍ يستقر، وثقافة تسري في نفوس الجميع يقف بها عند حدود الوحدة ويرفض التفريق، ويعرف حدود غضبه وشهوته.
إذا لم تؤد الصلاة وقراءة القرآن والنحيب في المحاريب، والنشيج في المواعظ، إلى التمسك بهذه الأمة لا بشهوات الأشخاص وغضب الأفراد فليراجع الناس صلاتهم وقرءاتهم و(شحتفتهم!)؛ لأنها مدخولة!
فلتسقط شهوتك وليتراجع غضبك ولتلق مخاوفك، أمتك أولاً، والإسلام قبل كل شيء.