الأسئلة المنهي عنها شرعا (2-2)
خالد بن منصور الدريس
ليُعلم أن العلم: سؤالٌ وجواب، وأن حسن السؤال نصف العلم، وأن تعلُّم الطرح للسؤال الصحيح هو مهارةٌ من أهم مهارات التفكير.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
بعد النظر في النصوص الحاظرة والمبيحة، وكلام أهل العلم في ذلك؛ يترجح أن النهي عن الأسئلة ليس شاملًا لكل الأحوال؛ بل هو نهيٌ محدد في أمرين هما:
1 الأول: نهيٌ خاصٌ بزمن التشريع، ووقت نزول الوحي حين كانت الأحكام الشرعية تتنزل عن طريق الوحي، والتكاليف تتجدد، فجاء النهي عن الإكثار من الأسئلة مقرونًا بالاختلاف على الأنبياء، وجاء لمقصدٍ شرعيٍ واضحٍ وجلي وهو: الحرص على إبقاء دائرة الإباحة أوسع من دائرتي الكراهة، والتحريم؛ كما يظهر هذا من قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته» [صحيح البخاري: 7289].
2 الثاني: نهيٌ خاصٌ بطبيعة الأسئلة سواءٌ أكان ذلك في حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أم بعد التحاقه بالرفيق الأعلى؛ وهذا النوع من النهي يشمل: جميع المجالات الدينية والدنيوية؛ إذا كانت تلك الأسئلة لا يترتب عليه فائدة، ولا يتحقق منها هدف، كالأسئلة التي يكون الحامل عليها التعنت، أو التعجيز، أو الفضول الذي لا يُبنى عليه عمل، أو كشف ستر، أو ضياع وقت، أو كون السؤال سخيفًا تافهًا لا يستحق جوابًا.
والتحقيق أن سبب النهي عن الأسئلة في الشريعة يعود إلى أمرين هما:
الأول : أنه ربما كان السؤال سببًا لتحريم شيءٍ على المسلمين فيلحقهم به مشقة.
والثاني: أنه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل ويسوء مع عدم الحاجة لذلك أصلًا.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: إن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببًا لتحريم شيءٍ مباح هو أعظم الجرم؛ لأنه صار سببًا لتضييق الأمر على جميع المكلفين.
وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل والأغلوطات والتوليدات؛ وقد ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات جملةً من المواضع التي يكره فيها السؤال ويُذم منها:
السؤال عما لا ينفع في الدين؛ كسؤال عبد الله ابن حُذافة -رضي الله تعالى عنه- من أبي؟ كما جاء في الصحيحين، عن أنس ابن مالكٍ: قام عبد الله ابن حُذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: (أبوك حُذافة)، وفي الحديث قصة.
ومن الأسئلة المذمومة: السؤال من غير احتياجٍ إليه في الوقت، وكان هذا -والله أعلم- خاصٌ بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتكم» [صحيح مسلم: 1337].
ومنها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، أو يسأل أسئلةً تعجيزية.
ومنها: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق؛ وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]
ومن الأسئلة المذمومة: أن يكون السؤال معارضًا لما في الكتاب والسنة بالرأي؛ ولذلك قال سعيد ابن المسيب لربيعة لما سأله عن مسألةٍ في الديات، فقال سعيد: أعراقيٌ أنت؟ وذلك لأن العراقيين في ذلك الزمن ظهر فيهم ما يسمى بأهل الرأي فقال ربيعه: عالمٌ متثبت، أو جاهلٌ متعلم، قال ابن المسيب: يا ابن أخي، إنها السنة.
ومنها: السؤال عن المتشابهات وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] الآية، وعن عمر ابن عبد العزيز قال: (من جعل دينه عرضًا للخصومات أسرع التنقل).
ومنها: سؤال التعنت، والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام.
وفي القرآن في ذم نحو هذا {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [البقرة: 204] وقال تعالى: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، وفي الحديث: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم» [صحيح البخاري: 4523]
ثم قال الشاطبي -رحمه الله-: هذه الجملة من المواضع التي يُكره السؤال فيها يُقاس عليها ما سواها؛ وليس النهي فيها واحدًا؛ بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محلَّ اجتهاد.
إذا تجنب المسلم تلك المواطن وما في حكمها، فإن الأسئلة الأصل فيها الإباحة؛ لذا ينبغي علينا ألا نتردد في طرح السؤال الذي يؤدي إلى معرفه ما يجب علينا في أمور العقيدة، والعبادات، والمعاملات؛ مع المحافظة على لزوم الحدود الشرعية و الآداب العلمية عند السؤال.
وليُعلم أن العلم: سؤالٌ وجواب، وأن حسن السؤال نصف العلم، وأن تعلُّم الطرح للسؤال الصحيح هو مهارةٌ من أهم مهارات التفكير.
والله نسأل أن يرزقنا حسن السؤال وأن لا يجعلنا من المتكلفين، وأن يمن علينا بحسن الاتباع.