كي لا نكون أعجز الناس!
محمد علي يوسف
كثيرٌ من الناس يتمنون فعلًا ألا يعجزوا عن الدعاء ويرغبون في فتح الله على قلوبهم وألسنتهم لتلهج بالذكر والتضرع، إلا أنهم لا يكادون يرفعون أيديهم بالطلب والمناجاة إلا وينزلونها بعد دقائق معدودة وقد نضبت خزائن ألفاظهم ولم يجدوا ما يقولونه أو يطلبونه
- التصنيفات: تربية النفس -
في الجزء الأول من هذا المقال تكلمنا عن ذلك الحديث الذي يعد من أهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يبين فيه حقيقة العجز، وكيف أن العاجز حقًا هو من انقطع عن الاتصال بالقوي القادر العزيز الغني الرحيم واعتمد فقط على أسبابٍ قاصرة لا تكمل أبدًا مهما عظمت، حديث «أعجز الناس من عجز عن الدعاء» (السلسلة الصحيحة: 2 / 152)
لكن هذه الجملة الخبرية لا يحقق الإنسان المراد منها بمجرد العلم بها،
هاقد علمت أن العاجز هو ذلك الذي لا يستطيع أن يدعو ويتضرع لربه فهل بتلك المعرفة وحسب قد زال العجز؟!، الحقيقة لا..
يظهر هذا الأمر بوضوحٍ في مواسم الدعاء كرمضان أو تحديدًا ليلة القدر أو يوم عرفة الذي يستحب فيه الإكثار من الدعاء وكما صح عن النبي «خير الدعاء دعاء يوم عرفة» (الترمذي: 3585)
يومٌ طويلٌ أو ليلةٍ عريضةٍ مطلوب من المرء أن يقضي أكثرها في الدعاء والبعض يخططون خططًا كبيرة ويعلقون آمالًا عريضة على دعاء ذلك اليوم الذي ربما يوفقون في قضائه على صعيد عرفات المبارك أو تلك الليلة التي يلتمسونها كل عام ثم يفاجأون بأن كل ما أعدوا له وخططوا ذهب أدراج الرياح ولم يستغرق دعاؤهم إلا برهة لم تشغل معشار الليلة أو اليوم مستجاب الدعاء ويحدث ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم...العجز.
في المقال السابق بينت الحل الأول لهذا العجز وهو استشعار قيمة الدعاء ومعرفة من تدعو وتذكر مقام الربوبية والقدرة التي تجعل المرء يدعو وهو موقنٌ بالإجابة، الأمر الآخر الذي أنصح به لاتقاء العجز عن الدعاء هو محتوى هذا الدعاء، كي لا يحدث الجدب وعدم إيجاد ما يقال ببساطة لابد أن تكون لدى الداعي استراتيجيةٌ واضحةٌ في الدعاء، بدايةً اجعل لك نصيبًا وافرًا من الأدعية المأثورة، أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، أدعية القرآن، أدعية الأنبياء والصالحين التي أخبرنا عنها ربنا في كتابه، لو أن حفظ تلك الأدعية لم يتيسر فلا مانع من الاستعانة بكتيبات تجمع تلك الأدعية المأثورة أو حتى عبر تطبيقات الهواتف الذكية، المهم أن يكون لك نصيب من المأثور وذلك لثلاثة أسباب رئيسية:
أولًا: إنها جامعةٌ، كلام النبي صلى الله عليه وسلم يتميز بأنه من جوامع الكلم، بأبسط الكلمات وأقصر العبارات يجمع كل الخير.
ثانيًا: لأنها سُنة يتبع الداعي فيها خطى النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء وينال أجرًا بذلك التسنن إن شاء الله.
ثالثًا: لأنها آمنة تثق أثناء الدعاء بها أنك لن تشط أو تعتدي أو تخطيء فهي أدعية منضبطةٌ تمامًا عقديًا وفقهيًا ولغويًا تليق بعظمة من تناجيه.
بعد الدعاء بالمأثور تأتي الاستراتيجية المرتبة للدعاء وتدور حول إجابةٍ صادقةٍ لسؤالٍ محوري: ماذا تريد؟
ما الذي تحتاجه من ربك؟! الإجابة عن هذا السؤال تدور حول ثلاثة محاور رئيسية:
1- هم الدنيا 2- هم الدين 3- هم الآخرة
هذه هي الأمور التي يفترض أن المسلم الطبيعي ينشغل بها، فليقسم الدعاء إذاً على هذه الأقسام، فلنبدأ مثلًا: بهموم الدنيا: فلتطلب حوائجها ممن خلقها، مشكلةٌ في العمل في الدراسة، أزمةٌ مالية أو مشكلةٌ أُسريةٌ أو معضلةٌ صحية، تخشى على أبنائك وتتمنى أن يحفظهم ربهم، قلق على مستقبلك أو تبتغي تحسين أمورك الحياتية أو المهنية، مرجواتك، محبوباتك، مخاوفك، هذا كله وغيره عليك بتجميعه وتجهيزه ثم اطلب من الكريم الغني الذي لن يعجزه شيءٌ منها هذا ولا أضعافه.
ثم يأتي هم الدين: تأمل في أمنياتك لدينك سواءً على مستوى شخصك أو على مستوى الأُمة، تتمنى أن تكون إنسانًا صالحًا متدينًا، ترجو الهداية والقرب من الله والتلذذ بمناجاته، تأمل في حفظ كتابه وفهم كلامه والعمل به
تتمنى التوبة من المعاصي وترجو أن يرزقك قلبًا سليمًا لا يُخزى من يؤتاه يوم البعث، اطلب منه ذلك أو غيره
ولا تنس أمتك فليس من المؤمنين من لم يعن بأمرهم.
أما هم الآخرة: فعنه حدث ولا حرج، إنها الحقيقة المُطلقة التي ينبغي أن تنال القسط الأكبر من انشغالك، الهم الذي يكفيك الله به كل الهموم، يمكنك أثناء الدعاء المتعلق بالدار الآخرة أن تتأمل في مراحلها التي ستسلك لا محالة أكثرها، بدايةً من الخاتمة، اللحظة الأخيرة، السكرات، اطلب منه يحسن خاتمتك ويهون عليك سكرات الموت، اطلب منه أن يختم لك بطاعة ترضيه عنك ويبعثك عليها، ثم القبر ووحشته، ثم البعث والنشور وأهوالهما
ثم الحساب والسؤال والوقوف بين يدي الملك الحق، ثم الميزان، ثم الصراط، تذكر كل ما تعرفه عن كل مرحلة منهم، ثم جنةٌ أو نار العياذ بالله، تعوذ من النار بكل تفاصيلها، تعوذ من زقومها وغسلينها ومقامعها وضريعها
تعوذ من دركاتها وويلاتها أبوابها وحرها ولفحاتها، تعوذ من كل ما تعرفه عنها.
ثم فكر في الجنة وتفاصيلها التي تتمناها، وهذا تحديدًا تأمل تفاصيله سيشوقك جدًا للجنة، فكر في مكانك في الجنة وصحبتك في الجنة، ستكون جارًا لمن؟ وستأنس بمن؟ امرأة فرعون قالت رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة
تأمل..عندك...عند الله، أن أكون قريبًا منك يا رب...أن أنظر إليك، وهذا أعظم النعيم، اطلب وارجو وانهل من الرحمات.
طبعا لدى بعض الناس لا توجد حاجة لكثير ترتيب مما ذكرته في السطور السابقة ذلك لأن مناجاة ربهم صارت لديهم سَجية وفتح الله على قلوبهم وألسنتهم صار أمرًا طبيعيًا غير متكلفٍ لكن لهؤلاء الذين يجدون العجز عن الدعاء، أوجه حديثي وأسألهم ونفسي: تخيل لو أنك قسمت الدعاء بهذه الطريقة وربنا فتح على قلبك بما لم أتذكر تذكيرك به: هل ستكفيك ساعة أو ساعتين؟!، بل هل سيكفيك يوم أو يومين؟!، هل يمكن فعلًا بعد كل ذلك أن تعجز؟!....تعجز عن الدعاء..