علمتني جدتي

محمد علي يوسف

دين العجائز، دين بسيط وخير مرسل وعقيدة عملية صافية بغير تعقيدات ولا منغصات ولا مراء أو سفسطة وجدال، فقط الرغبة الصادقة في الجنة والعمل الموصل لها
وحب الخير للناس دون انتظار المقابل

  • التصنيفات: موضوعات متنوعة -

(ما نفسكش تحجزلك مكان في جنة الفردوس؟!)
هكذا بلطف كانت تسأل من قررت أن تدعوه لقربتها المفضلة... الصدقة
كانت لا تكل ولا تمل أبدًا في هذا الشأن، لم تكتف بكونها أكثر من رأيت في حياتي حرصًا على التصدق وإطعام الطعام وكفالة اليتامى والمساكين، لم تكتف بكونها مصداقًا حيًا لوصف النبي صلى الله عليه وسلم للعبد المسلط على هلكة ماله في الحق والله حسيبها، لم تكتف بأن صار التصدق والإطعام لديها سجيةً وطبيعةً غير متكلفة وأسلوب حياةٍ وحقًا معلومًا، وأنها كانت من أكثر من طبق سنة إنفاق نفقة من لا يخشى الفقر أبدًا ولا أزكيها على الله.
لم تكتف بأن بابها لم يغلق يومًا في وجه إنسانٍ يسأل، بل حتى القطط عرفت طريق ذلك الباب المفتوح وعلمت أن خلفه مخلوقةٌ حنونةٌ لن تترك مخلوقًا جائعًا وهي قادرةٌ على إطعامه!
لم تكتف بكل ذلك؛ بل أبت إلا أن تعيش حياتها داعيةً للصدقة تحض عليها كل من هم في محيطها، كان الإنفاق باختصار، فلسفة حياتها البسيطة ومهمة وجودها وكأنما أولئك اليتامى والمساكين هم أبناءٌ لها وأحفاد، لا تهدأ ولا ترتاح إلا إذا اطمأنت عليهم وسألت عنهم وساهمت في تفريج كرباتهم وسد جوعهم وتيسير أحوالهم بل وأحيانًا تزويجهم!
لم يشغلها ذلك عن حرصها على التعبد وتلاوة القرآن ورغم ضعف بصرها إلا أنني لا أتذكر دخولي عليها يومًا وهي في وعيها إلا ووجدت مصحفها العتيق بين يديها يؤنس وحشتها ويسلي وحدتها، حتى لما بدأ الوعي يترنح وداهمها نسيان الشيخوخة لم ينجح في أن ينسيها حرصها على الصلاة، ربما نسيت أنها صلت فريضةً معينة فكانت تعيدها أكثر من مرة ليكون آخر عهدها بالدنيا إكثار صلاة وإثبات حرص.
كل ذلك جنبًا إلى جنب مع شخصيةٍ رائعة وظرف مشهود وخفة دمٍ طبيعية تتجلى في كمٍ هائلٍ لا ينضب من الأزجال اللطيفة والأمثال الطريفة التي يستحضرها ذهنها المتقد في كل موقف.
لازلت أتذكر كلماتها ومزحاتها معي وسخريتها الودودة اللاذعة من بعض أفعالي في صباي وشبابي التي مهما بلغت لا تملك إزاءها إلا أن تبتسم وتزداد لها حبا وأنت موقنٌ أنها ما خرجت إلا من قلبٍ حريصٍ على الخير لك.
رائحة طعامها الذكية لم تزل بعد في أنفي لتعيد إلى نفسي ذكريات ماضٍ ظل منزويًا يقبع خلف تلك الجدران المتآكلة لذلك المنزل العتيق بتلك الحارة التي يفوح من كل ركنٍ من أركانها عبق الأيام الجميلة التي تتوسط جدتك صورتها في مخيلتك كلما خالجك الحنين.
حنينٌ لن تستطيع بعد اليوم إرواءه بزيارةٍ ودودة تقبل فيها وجنتها وتستمع بشغفٍ إلى أزجالها المرحة التي لم يتمكن المرض ولا الشيخوخة من انتزاعها منها إلا بالموت، عامٌ مضى على وفاة جدتي رحمها الله وتذكرت تلك السطور السابقة التي كتبتها عنها في ذلك الحين حين توفيت تلك التي أحسبها من أصلح من عرفت والتي علمتني ميتة كما علمتني حية ذلك المعنى الذي طالما قرأنا عنه نظريًا وشهدته فيها عمليًا معنى دين العجائز، دينٌ بسيط وخيرٌٌ مرسل وعقيدةٌ عملية صافية بغير تعقيداتٍ ولا منغصاتٍ ولا مراء أو سفسطة وجدال، فقط الرغبة الصادقة في الجنة والعمل الموصل لها، وحب الخير للناس دون انتظار المقابل.
الناس الذين هم أحوج ما يكونون الآن في ظل تلك الظروف لنفوسٍ محبة للخير باذلةً له كما كانت نفس جدتي رحمها الله، اللهم اكتب لها ما كانت ترجو وطيب ثرى قبرها وأفسح لها فيه مد بصرها واجمعنا بها في الجنة يا رب العالمين

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام