إيران.. وأوهام الثورة الجديدة
عبد المنعم منيب
جرت الانتخابات الإيرانية يوم 12 يونيو السابق، وتَبِعَ إعلانَ نتائجها قدرٌ كبير من الجدل والاحتجاجات الجماهيرية الرافضة للنتائج
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
جرت الانتخابات الإيرانية يوم 12 يونيو السابق، وتَبِعَ إعلانَ نتائجها قدرٌ كبير من الجدل والاحتجاجات الجماهيرية الرافضة للنتائج التي تمخضت عنها هذه الانتخابات وهي فوز الرئيس المنتهية ولايته "أحمدي نجاد" بأغلبية أصوات الناخبين، واحتج المرشحون الثلاثة الذين لم ينجحوا في الانتخابات، ولكن المرشح الأساسي الذي رفض نتائج الانتخابات وخاض أنصارُه احتجاجات جماهيرية واسعة النطاق كان هو "مير حسن موسوي"، رئيس الوزراء الأسبق والذي شغل منصب رئيس الوزراء في بدايات عهد الثورة الإسلامية الإيرانية، وإن شارك المرشحان الآخران "مهدي كروبي"، و"محسن رضائي" بدرجة أو بأخرى في الاعتراض والإحتجاج، علمًا بأن "مهدي كروبي" مرشح إصلاحي، وهو الرئيس الأسبق للبرلمان الإيراني، و"محسن رضائي" هو أول قائد للحرس الثوري عند إنشائه بُعَيْدَ نجاح الثورة الإيرانية، وهو محسوب على الجناح المحافظ.
لقد فجرت هذه الاحتجاجات سيْلًا من التحليلات الغربية والعربية على حدٍ سواء، الكثيرون رَأَوْا أن هذه الاحتجاجات هي ثورة إيرانية جديدة تضاهي ثورة الإمام الخميني التي أطاحت بحكم الشاه في عام 1979م، بينما انْبَرَى آخرون للقول بأن بذور الثورة لم تكتمل؛ باعتبار أن للتيار المحافظ الذي يمثله أحمدي نجاد قدرًا ما من التأييد الشعبي، وعلى نفس المنوال رأيُ بعض المحللين السياسيين بأن الصراع الحالي هو ثورة جديدة تمثل صراعًا بين خط الثورة ذي الطبيعة الاشتراكية الذي يمثله أحمدي نجاد، والخط الليبرالي الذي يمثله الإصلاحيون، وأنه سيؤول بالتدريج إلى بُعد الحكومة الإيرانية عن الإسلام وتماهيها مع المفاهيم الغربية في حال انتصار هذا الخط وسيطرته على الحكم.
وفي الواقع فإنَّ هناك نقطة غابت عن أغلب التحليلات التي تناولت هذه القضية؛ وهي أن الحاكم الحقيقي لإيران هو المرشد الأعلى للدولة الإيرانية، وهذا المنصب يشغله حاليًا "علي خامنئي"، فهو الذي يتولى صناعة السياسة الخارجية والدفاعية للدولة، كما أنه هو الذي يتولى صناعة (بل والإشراف على) الخطوط العامة للتوجهات الاستراتيجية للدولة الإيرانية في كافة المجالات، وهو الذي يتولى تعيين وعزل قادة الجيش وقادة الحرس الثوري (الباسيج) وقادة الأجهزة الأمنية، والمسئول عن التلفزيون..الخ.
كل ذلك وفقًا للدستور الإيراني الذي يجعل من "الزعيم" (أي المرشد الأعلى للدولة الإيرانية) الحاكم الفعلي والحقيقي للدولة، بينما يأتي رئيس الجمهورية والذي يُنتخب كلَّ أربع سنوات ليمثل مجرد موظف لدى المرشد، وإن كان موظفًا كبيرًا يمكنه أن يَصْبِغَ تنفيذَه لتوجيهات المرشد بصبغتِهِ الشخصية، فتظهر بنكهة خاصة تختلف باختلاف الرئيس، فنكهة محمد خاتمي تختلف قطعًا عن نكهة أحمدي نجاد، لكن جوهر خططهم وتوجُّهاتهم الاستراتيجية في السياسة والدفاع والاقتصاد هي صناعة خاصة للمرشد، ولو طبقنا ذلك على ثلاث قضايا، على سبيل المثال، وهي قضية المشروع النووي الإيراني وقضية بناء القوات المسلحة الإيرانية (بما في ذلك شراء وتصنيع السلاح)، وقضية الدور الإقليمي للدولة الإيرانية، هل اختلفت أهداف وسياسات إيران في ذلك ما بين رئيس إصلاحي كمحمد خاتمي وآخر محافظ كأحمدي نجاد؟
بالطبع الإجابة ستكون بالقطع ("لا" كبيرة).
فقط الذي اختلف هو المظهر العام أو الديكور المحيط بالسياسات المتعلقة بتلك القضايا، لكن جوهر ولبَّ هذه السياسات واحد لم يختلف؛ لأن صانعه هو شخص واحد لم يتغير، لأنه يشغل منصبه مدى الحياة وهو "المرشد الأعلى للدولة الإيرانية"، والذي هو أحد أبرز مساعدي زعيم ومفجر الثورة الإسلامية الإيرانية الخميني.
لكن في ظل كل هذه الحقائق ما الذي حدث في إيران بعد الانتخابات الأخيرة؟.. أو بصيغة أخرى: ما سبب هذه الاحتجاجات؟ ومن يقف وراءها؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال لابد أولًا أن نذكر أنَّ الثورة الإيرانية نجحت في تحقيق إنجازات كثيرة، لكن ربما أبرز هذه الإنجازات أنها سيطرت على الدولة والمجتمع بشكل يصعب معه تخيُّل إمكانية ظهور معارضة جديدة من خارج النظام نفسه، فأيُّ معارضةٍ تنشأ من داخل النظام وسائر القوى والزعامات التي يفرزهما المجتمع والدولة يتم إفرازها على نفس القاعدة الفكرية والعقائدية لنظام الثورة الإيرانية نفسها، فلا يمكن لأحد أن يسعى لمعارضة النظام على أساس إلغاء ولاية الفقيه أو دستور الدولة ذي الطبيعة الإسلامية حسب المذهب الجعفري، إذ أن القوى أو الأشخاص الذين قد يفكرون في هذا الاتجاه يتم حجبهم عن خوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية على حد سواء عبر العديد من المؤسسات التي أعطاها الدستور صلاحيات السماح أو الإقصاء للشخصيات التي تترشح لأي انتخابات، سواء المحليات أو البرلمان أو رئاسة الجمهورية. وأهم هذه المؤسسات على الإطلاق مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يرأسه هاشمي رفسنجاني، يليه مجلس صيانة الدستور.
وإذا كان الأمر هكذا فإن هذه الاحتجاجات الشعبية الإيرانية التي تَلَتْ نتائج الانتخابات الرئاسية عكست صراعًا محمومًا على السلطة بين أجنحة النظام السياسي الذي يمثل الثورة الإسلامية الإيرانية والذي يحكم الدولة الإيرانية منذ ثلاثين عامًا.
هذا الصراع لم يهدف بالقطع إلى الإطاحة بالنظام السياسي الذي أسسته الثورة الإيرانية منذ ثلاثين عامًا، لكنه فقط أراد صياغة فصل من فصول إدارة الصراع على الحكم داخل إطار النظام القائم وبين أقطاب هذا النظام.
لقد تكلم الكثيرون عن الدور الخفي الذي لعبه رافسنجاني في هذا الصراع، لكن حقيقة الأمر أن مجرد الظن بأن رافسنجاني حاول الإطاحة بالنظام القائم هو ضرب من الخيال المجنون؛ فرفسنجاني لعب دورًا بارزًا، إن لم يكن الدور الأبرز، في صناعة النظام السياسي القائم في طهران الآن في ثلاث مناسبات هامة جدًّا:
المناسبة الأولى: عندما كان الذراع الأيمن للخميني في صناعة الثورة الإيرانية بجانب خامنئي وآخرين، ولعب دوره باقتدار.
والمناسبة الثانية: عندما تولى رئاسة الجمهورية الإيرانية في أواخر حياة الخميني وكسر تابوهات كثيرة بشأن العديد من ثوابت العلاقات والسياسة الخارجية الإيرانية، فبدأ يتعامل مع الاتحاد السوفيتي السابق وكتلته بالإضافة إلى الصين فضلًا عن صفقات سلاح سرية مع أمريكا وفرنسا وغيرها، ويأتي في هذا الإطار إقناعه الخميني بحتمية إيقاف الحرب مع العراق؛ لأنه لو كان توفي الخميني دون إيقاف الحرب لما جَرُؤَ أي زعيم إيراني على إيقافها إلى الأبد.
أما المناسبة الثالثة: فأتت عندما توفي الخميني وحان وقت تفعيل الدستور في مجال انتخاب المرشد الأعلى عبر هيئة العلماء الذين لهم حق الانتخاب، ونظرًا لأنها كانت المرة الأولى التي سيجري فيها تفعيل هذا الجانب من الدستور، كما أن الأمر كان عقب وفاة أول زعيم ومرشد لنظام الثورة الإسلامية الإيرانية وهو الخميني الذي كان له مَا لَهُ من مكانة ضخمة في قلوب الجميع، فإن الأمر كان مرشَّحًا للنزاع والفشل؛ بسبب أن عباءة الخميني لاشك أنها أوسع من أي شخص آخر، كما أن النظام لم يكن قد ترسَّخ كما هو الآن، فقد كان عمر الثورة وقتَها نحوَ عَشْرِ سنوات فقط، والأمر لم يكن مأمونًا؛ إذ ربما يأتي شخص أقل ولاءً لخط الثورة وخط زعيمها، وهنا برز دور رافسنجاني الذي أعلن أن الخميني أوصى بأن يتولى خامنئي منصب المرشد، وهنا سكت الجميع، وتم تعيين خامنيئ خلفًا للخميني دون انتخاب، رغم أن الدستور ينص على الانتخاب.
أبرز الشباب الذين صنعوا الثورة الإيرانية رافسنجاني وخامنئي، ولكن الأيام أوضحت أنهما مختلفان في التكتيك؛ فكل منهما يمثل أحد مدرستي الثورة الإيرانية.. هاتان المدرستان جرى العرف في السنوات العشر الأخيرة بتسمية إحداهما مدرسة الإصلاحيين والأخرى سميت مدرسة المحافظين.. الأولى تنفِّذ أهداف الثورة بشكل وأساليب ملتوية ولينة ومنفتحة وبها قدر كبير من المرونة، وتستخدم خطابًا هادئًا، وترتكز على أسس برجماتية ماهرة، والأخرى تنفذها بأساليب مباشرة وعلنية ومتصلبة وبخطاب حماسي ذي نبرة عالية.
كل من المدرستين لعبت دورًا محوريًّا في بناء إنجازات نظام الثورة الإيرانية الذي يحكم منذ ثلاثين عامًا، وكل منهما قدمت دعمًا ومساندة للأخرى بقصد وبدون قصد.
الذي حدث أن خامنئي استخدم نفوذه الذي هيأته له صلاحياته الدستورية في تعبئة قطاعات واسعة من الشعب عبر الحرس الثوري وغيره لدعم "أحمدي نجاد" في انتخابات رئاسته الأولى ضد منافسيه بما فيهم رافسنجاني، وهذا الأمر أغضب رافسنجاني، وعبَّر رافسنجاني وقتها عن غضبه هذا صراحةً، ثم جاء دعم مماثل في انتخابات الرئاسة الأخيرة والتي كانت أتت بنجاد لفترة ثانية، كما هاجم نجاد في دعايته الانتخابية رافسنجاني وأسرته من منطلق دعم رافسنجاني للمرشح الإصلاحي مير حسين موسوي.. كل هذا أغضب رافسنجاني وسائر قوى المدرسة الإصلاحية من أبناء النظام القائم، ومن ثم تم إطلاق هذه الاحتجاجات كي تدق الأجراس للمرشد الأعلى لإيران "على خامنئي" ومن ورائه سائر تيار مدرسة المحافظين بأن دعم مرشح ما عبر تعبئة مؤسسات الدولة أمرٌ غير مقبول، ومحفوف بالمشاكل، وأن هذا الأمر لابد أن يوضع له حدٌّ، حتى لو كان الأمر مجرد دعمٍ شعبي دون تزويرٍ حقيقي.
ولذلك نجد رفسنجاني في نهاية الاحتجاجات يعبر عن سروره بنسبة المشاركة العالية في الانتخابات الإيرانية، لكنه يعقِّب قائلًا: "ما حدث بعد ذلك تسبب في مشاعر من المرارة"، لكنه مع ذلك يؤكد أن ما حدث كان تنافسًا ضمن المؤسسة وليس شرخًا في النظام.
وفي هذا الإطار يمكننا فهم ما حدث ويحدث من تطورات سياسية في إيران عقب الانتخابات الرئاسية وحتى الآن، حتى لو وصل لمحاكمة البعض أو اعتقال البعض.