نمط صعب.. ونمط مخيف!

سارة خليفة

"نمط صعب.. ونمط مخيف" للأستاذ محمود شاكر! لأول وهلة قبل أن تخوض في غمار الكتاب.. تجد أن الكتاب هو مجموعة من مقالات قد نشرت في أحد الصحف.. لكي ترد على نسب وترتيب أبيات لقصيدة جاهلية.. لذلك في أول الأمر تجد أن الأمر إن كنت غير متخصص في الأدب ولست مهتمًا بالشعر.. ولغتك ليست بالقوة للخوض في كلمات قصيدة جاهلية.. وبعد عدة صفحات تجد أمامك دوائر الخليل وبحورها! فلعلك تغلق الكتاب.. وتفكر في أن تشتري بثمنه أي كتاب أنفع لك ولدينك!

هذا شأن التصفح السطحي للكتاب.. ولكن ما في
هذا الكتاب من كنوز.. ومن تغيير للمفاهيم وإزالة لشوائب لازمتنا وتضعك أمام حقيقتك ولأي أمة عظيم أنت تنتمي.. ولأي لسان تملك!! هذا لسان العرب هو حياة الأمة..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية - الشعر والأدب -

(1)

وقف ينظر للنهر أمامه..
لم يصدق أنه قد وصل إليه!
سمع عن هذا النهر.. عرف أنه موجود.. أيقن من ذلك!
قرأ عنه الكثير.. وكيف تكوَّن عبر القرون.. أثره فيمن وجده ظاهرة واضحة.. ولكن الطريق إليه ليس بهذه السهولة!
وإن ظل الطريق إليه واحد.. لكن معالم الطريق تغيرت كثيرًا!
وظلت تتغير.. وتتشوه حتى ضاع الطريق منا!
لذلك لم يصدق أنه بعد هذا الجهد الجاهد قد وصل أخيرًا!
كانت البداية.. عندما وجد كتابًا بين يديه.. له اسم عجيب.. تصفح أول ورقات فيه كاد أن يغلقه.. ولكن لا يدري لِمَ أكمله.. توفيق من الله عزوجل!

(2)

"نمط صعب.. ونمط مخيف" للأستاذ محمود شاكر! لأول وهلة قبل أن تخوض في غمار الكتاب.. تجد أن الكتاب هو مجموعة من مقالات قد نشرت في إحدى الصحف.. ردًا على نسب وترتيب أبيات لقصيدة جاهلية.. لذلك في أول الأمر تجد أن الأمر إن كنت غير متخصص في الأدب ولست مهتمًا بالشعر.. ولغتك ليست بالقوة للخوض في كلمات قصيدة جاهلية.. وبعد عدة صفحات تجد أمامك دوائر الخليل وبحورها! فلعلك تغلق الكتاب.. وتفكر أن تشتري بثمنه أي كتاب أنفع لك ولدينك!

هذا شأن التصفح السطحي للكتاب.. ولكن ما في هذا الكتاب من كنوز.. ومن تغيير للمفاهيم، وإزالة لشوائب لازمتنا وتضعك أمام حقيقتك! ولأي أمة عظيمة أنت تنتمي.. ولأي لسان تملك!! وأن لسان العرب هو حياة الأمة..

يقول الأستاذ محمود شاكر: " وهذا الموقف مبني على شيء: على أننا نحن لا نريد أو لم نستطع بعدُ أن نبصر الطريق الصحيح لموقف العالم منا، ولم نستطع بعد أن نبصر الطريق الصحيح لموقفنا نحن من هذا العالم، ولم نستطع أن نبصر بعد ما ينبغي علينا أن نفعله في سبيل تحقيق حياتنا، وكما قلت لك مرة أخرى أن حياة الأمم في ألسنتها، اللسان هو حياة الأمة، لا حياة لأمة بغير لسان، واللسان كالنهر الجارف، يجمع كل محصول الأمة، كالغيث منهمر، آلاف القرون يتكون منه هذا النهر، فإذا انقطع تيار هذا النهر فقد وقعت في خيبة"..

هو يضعك في وسط بحر لجي! في خضم المعركة.. تكاد أن تسمع  بين كلمات الكتاب ما في نفس شاكر من تصارع وهو يكتبها!

تقف في وسط هذا البحر المتلاطمة أمواجه.. تتسأل؛ هل أنا برعم صغير.. يقف في مهب عاصفة كبيرة.. لا جذور له.. لا شيء يتمسك به في الأرض.. حتى لا تقتلعه الرياح.. أم هو فرع لأصل ثابت ممتد الجذور.. مهما هبت عواصف.. لا يؤثر بالأصل شيء.. ولا الفرع! فالفرع يستمد قوته من ثبات جذور الأصل.. وإن مال قليلًا مع قوة الرياح.. ولكن لا يكسر.. فما يجري بداخله هو مادة الأصل!

والأستاذ محمود شاكر قد خاض معركته الخاصة لكي يعرف الإجابات عن تلك الإسئلة..
من أنا؟
وماذا حدث لنا؟
وما هي معالم طريق العودة؟

ولعل جل كتبه تتحدث في هذا الأمر.. تبين لك كيف تم نقل المعركة الأدبية من ساحتها إلى معركة تحدد هوية الأمة بكاملها.. فأنت أمام كتاب يتحدث عن هويتك! عن لسان أمتك.. عن معركة تدور من حولك ويصنع العدو يوم بعد يوم فيها انتصارًا تلو انتصار وأنت مسكين تحقق له ما يريد منك! وأنت لا تدري!  

ولعل في تلك الكلمات في لقاء للأستاذ تحدث فيه عن بعض هذا الأمر فقال: "ولكن أنا أيضاً أطلب حقائق في هذه الدنيا لا أستطيع أن أتخلى عنها أبداً، وعلى رأسها حقيقة نفسي.. أنا قضيت حياتي أعالج نفسي، أعالج أثر دانلوب فيّ، أعالج أثر الإستعمار في قلبي، في ضميري، في عقلي، في نفسي، في نظري، في رؤيتي.. أعالج أكبر المسائل في داخلي!".

وقال: "لكن المعركة الحقيقية هي بيني وبين العالم الأوربي، أنا ليست لي معركة مع هؤلاء أبدًا، لا مع الدكتور طه حسين، ولا مع هذا الذي ذكرت اسمه، ولا مع سواه، وإنما كانت معركتي بين عَرَبِيَتِي وبين الذي يريد أن يُذِلَّني [..] الثقافة شيء غير هذا، الثقافة غير إذلال، غير أن تغلبني على عقلي وبيتي وأهلي وتراثي".

(3)

يبدأ الكتاب بالتحدث عن أسئلة للأستاذ يحيي حقي وعن ترجمة الشاعر والأديب الألماني جوته لقصيدة أُختلف في نسبتها وأُختلف هل هي جاهلية أم هي إسلامية وتم نحلها لشاعر جاهلي، والمشكلة القديمة التي ولدت من جديد مشكلة افتقاد القصيدة العربية للوحدة! كأنه كلام له نغم ولا معنى ولا ترابط فيه!

ويبدأ الأستاذ محمود شاكر في تفنيد هذه الأسئلة والتحدث عن منهجه في التحقيق، ويبدأ في تطبيقه على القصيدة ليثبت أنها قصيدة جاهلية ويثبت نسبتها لشاعرها – وهو ابن أخت تأبط شرًا -.

ولعلي أقف عند ما اقتبسه الأستاذ محمود شاكر من كلام يحيي حقي لترى الأمر المخيف الذي جعل الأستاذ شاكر يكتب ما كتب ويخرج لنا هذا الكتاب! يقول يحيي حقي: "لعل منا كثيرين قرأوا قصيدة تأبط شرًا، وإن لم يكونوا قد تلقوها بضجر لمشقة اللغة، أو باستخفاف: إما لسذاجتها، وإما لتراجع دنياها عن دنيانا، فإنهم تلقوها بإعجاب مقتصد، لأن معانيها تبدو كقطرة من سيل منهمر من الشعر الجاهلي، فلعلهم الآن حين يقرأونها، بعد أن أنعكست عليها ترجمة جوته، يرونها تتوهج بجمال فذ متجدد"!!

مخيف؛ لأن جوته لم يعمل على القصيدة العربية، وإنما على ترجمة لها، واقترح لها ترتيب مختلف عنما وجدت في كتب الشعر، وتمت ترجمة عمله من الألمانية إلى العربية، فإن قرأتها بعد قرأتك للقصيدة العربية، تجدها قد بلغت من "ركاكة والسقم" – كما قال شاكر – تجعل القصيدة جامدة ميتة!

وسأضع بين يديك أبيات من القصيدة لتدرك ما يعني هذا الأمر!
أبيات من القصيدة الأصلية:

إنَّ بِالشِّعْبِ الَّذِي دُونَ سَلْعٍ *** لَقتِيلًا دَمُهُ مَا يُطَلُّ
قَذَفَ الْعِبْءَ عَليَّ وَوَلَّى *** أنا بِالعِبْءِ لَهُ مُسْتقِلُّ
وَوَرَاءَ الثَّأْرِ مِني ابْنُ أُختٍ *** مَصِعٌ عُقْدَتُهُ ما تُحَلُّ
مُطْرِقٌ يَرْشَحُ مَوتًا كَما *** أطْرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السَّمَّ صِلُّ

ترجمته للعربية من ترجمة الألمانية لنفس الأبيات:

تحت الصخرة، على جنب الطريق يرقد صريعًا، لا تنسكب على دمعه قطرة الندى ألقى العبء الكبير علي، ثم ولى، وإني لجدير بحمل هذا العبء
ولثأري وريث هو لي ابن أختي ثابت في القتال صامد لا يلين
مطرق يرشح سمًا مثلما تطرق أفعى تنفث السم ولا يمنع السم أذاها

مخيف جدًا، أن كل هذا يحدث لا لشيء إلا لانعكاس اسم جوته عليه فقط! ويكفي تعليق شاكر على هذا أمر بقوله: "وقد أسلمني هذا كله إلى أسى يجعلني شديد الضجر لمشقة هذا النمط الصعب من التعسف والمبالغة، شديد الارتياع لهذا النمط المخيف من التردي في عبودية الأسماء المتوهجة في سماء غير سمائي! وناهيك بهما من داء عياء لا شفاء له إذا استشرى، ولا دواء له إلا كبح جالجماح، ومعالجة أمرنا كله بالعقل البرئ من الهوى، والنظر السليم من التردد والخضوع".

وهناك أمر مخيف أخر.. هو التحدث عن اللغة وصعوبتها وما كان في هذا الوقت من دعاوي تغريب والتحدث عن العامية كبديل عن اللغة العربية الفصحى[1].. ولعلنا نتحدث في هذا الأمر لاحقًا.

ثم بدأ محمود شاكر في شرح مشكلة في الشعر الجاهلي ويشترك فيها معه الشعر في صدر الإسلام، لأن الشعر في هذا الوقت كان ينتقل بالرواية المسموعة فقط.. وبقى هكذا 230 عامًا تقريبًا لحين تم تدوينه في نحو العام 80 من الهجرة.

وتحدث عن أول مشاكل القصيدة هي نسبتها إلى صاحبها ومنها هل هي جاهلية أم إسلامية. وبدأ بأن جمع كل ما كتب عن القصيدة وعن نسبتها في كتب الشعر، وبدأ في ترتيب تلك الكتب ترتيبًا تاريخيًا وبدأ في تحليل النصوص التي وردت والكتب نفسها، إلى أن أثبت نسبتها وجاهليتها. ولعلي لن أخوض في تفصيل الأمر ولكن إن أردت فأرجع وأقرأه في الكتاب.. فقد أبدع في تحليله!

ولعلك تجد في نفسك من الأمر شيء.. وسؤال يلح في ذهنك الآن، ما المشكلة في كونها إسلامية أو جاهلية.. وما المشكلة في كونها تنسب لشاعر أو لغيره إسلامي كان أو جاهلي.. الأمر كما قلنا في البداية ليست معركة أدبية، وإن كانت فلن تجد أحدًا غير مختص يريد الخوض في التحدث فيها وأنا أولهم.. ولكن لأن الأمر هو في الأصل يهدف لهدم معجزة الإسلام.. القرآن! أهمية الشعر الجاهلي تكمن في كونه يستخدم كمصدر رئيس لتفسير القرآن، والأهم هو الطريق لإدراك معجزة البيان!

فلقوة البيان عند العرب.. ومعرفتهم ببصمة الشاعر من غيره.. وتمكنهم من اللغة وسيطرتهم على بحور الشعر وأدواته.. جعلتهم عندما سمعوه لأول مرة عرفوا يقينًا أنه ليس بقول البشر!

يتبع إن شاء الله.
---
[1] (هناك كتاب للأستاذة نفوسة زكريا سعيد باسم (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر) تتحدث فيه عن هذا الأمر).