على هذا دار القمقم
سارة خليفة
وها نحن أمام قطعة فنية جديدة للأستاذ محمود شاكر.. ونكمل رحلتنا في كتابه الماتع "نمط صعب..ونمط مخيف".. وفي هذه المقالة يدخل بنا في عالم مختلف عما تحدث فيه في مقاله الأول، نكتشف معه فيه لمَ أُطلق على قصيدة "إن بالشعب الذي دون سلع" أنها ذات نمط صعب! فما سبب الصعوبة والثقل؟!
- التصنيفات: قضايا إسلامية - الشعر والأدب -
تولى الخليل إلى ربه *** وخلى العروض لأربابها
فليس بذاكر أوتادها *** ولا مرتج فضل أسبابها
هكذا بدأ أستاذنا محمود شاكر مقالاته..
وها نحن أمام قطعة فنية جديدة للأستاذ محمود شاكر.. ونكمل رحلتنا في كتابه الماتع "نمط صعب..ونمط مخيف".. وفي هذه المقالة يدخل بنا في عالم مختلف عما تحدث فيه في مقاله الأول[1]، نكتشف معه فيه لمَ أُطلق على قصيدة "إن بالشعب الذي دون سلع" أنها ذات نمط صعب! فما سبب الصعوبة والثقل؟!
إن كنت تتهيب الدخول في عالم الخليل ودائره، فدعني أبين لك أن هذا العالم وإن كان له مفرداته الخاصة ولكن هو عالم مبهر.. يتكشف كل ما نهلت منه، عبقرية اللغة العربية وعبقرية الخليل ابن أحمد! فإي رجل كان هو! وهنا الأستاذ محمود شاكر يبين لك القليل الذي تحتاج إليه لتخوض معه تلك الرحلة الصغيرة التي أبحر فيها في دوائر الخليل وهو يبحث في بحر المديد الأول وسر التفعيلات وحركة الأسباب حول أوتادها.
ولأننا نتعلم علومنا في مدارس تسير مناهجها على النظام التعليمي الذي وضعه وأسس له دانلوب، فدُرست وتدُرس لنا مادة سميت اللغة العربية، وهي ليست من اللغة العربية وعلومها في شيء! دُرست وتدُرس لنا اللغة كمادة جافة لا حياة فيها! دُرس ويُدرس لنا النحو والبلاغة وحتى مختارات من أشعار العرب التي يتم اختيارها والتعليق الدائم عليها أنها مفتقدة للوحدة الموضوعية، حتى لتشعر أن تراثك ما هو إلا بعض مقاطع يترنم بها بعض ساكني الصحراء.. فما أسهل أن تتخلى عن هؤلاء! مع الشكل التقليدي الذي أُلصق بمدرس اللغة العربية من السذاجة ولغته المقعرة!
وتقف أنت حائرًا! بين ما يقال لك دومًا أنها أشرف اللغات وسيدة اللغات، هي لغة القرآن، معجزة بيان هذا الدين، ولغة أهل الجنة.. وبين ما تجده في حقيقة دراستها وكيف أنك لا تشعر بأي شيء يربطك بها! بل ما أسهل الاستغناء عنها واستبدال لغة إنجليزية بكلماتها واستبدال الحروف اللاتينية بحروفها، بدعوة مواكب التطور والعصر!
كأن هناك حلقة مفقودة بينك وبينها! فأنت تعرف يقينًا أنها أشرف لغة، وتعرف أهميتها لدراسة الدين.. ولكن لا تعرف لمَ توجد هذه الفجوة!
وهذا الذي تشعر به ليس بغريب! فأنت نتاج ما بُذر فيك! ولك أن تدرك معي أن الاستغناء عن اللغة أو تغيير أحرفها هي دعوة قديمة جدًا ونرى نتائجها الآن! عندما حاضر أحد المستشرقة في مصر ويليوم ولكوكس يناقش مشكلة لم لا توجد قوة اختراع لدى المصريين؟! ونشرها في مجلة الأزهر، وكان الحل المقترح هو التحرر من قيود اللغة العربية الفصيحة! وتقول عنها د. نفوسة زكريا في كتابها (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر): "وقد حرص على مخالفة الأسلوب القرآني فترجمها بلغة ركيكة تشبه لغة الانجيل في ترجمته العربية الركيكة، مما يذكرنا بمقال مصطفى صادق الرافعي عن الجملة القرآنية"، وتقول عنها أيضًا: "يتضح منها أن هدفه الحقيقي من الدعوة إلى العامية هو القضاء على العربية الفصحى وحرمان أبنائها من تراثها في الدين والعلوم والآداب ليسهل على الاحتلال مهمته. وقد فطن المصريون وقتذاك إلى هذه الحقيقة فقاموا بهتك الأستار عن حقيقة دعوته"[2].
ولكن نحن نعيش الآن ثمار جهود صبر ومصابرة المستشرقة لهدم هذا الدين بكافة الطرق! ومن حيث لا ندري.. فهم يحسنون دس الكلمة من حيث لا يتوقع المرء أن تكون![3].
فمحاربة الإسلام بالسلاح؛ معركة خاسرة، ولن تأتي لهم بخير.. وستعود علينا نحن بالخير!
ومحاربة الإسلام فكريًا وثقافيًا بشكل واضح فج؛ لن يأتي أيضًا لهم بخير.. وسيعود علينا نحن بالخير!
ومحاربة الإسلام فكريًا وثقافيًا بشكل مستت؛ يأتي عليهم بالخير.. وعلينا بالخزي والتيه والتشتت!
ما كان عليهم فعله إلا تفكيك عناصر قوة الإسلام، لكي يأتوا لنا من خلاله! فإن كانت قوتنا مستندة من الكتاب والسنة والتمسك بهما.. فلو أخذت القرآن كمثال، إذا فصل المسلم عن فهم هذا الكتاب الذي بين يديه.. كأنه يقرأه بلغة أخرى، يأخذ منه البركة والثواب.. ولكن لا يؤثر في عقله ولا قلبه ولا يهتدي به! كيف يهتدي من لم يعي ما يفهم! فمهاجمة القرآن هكذا صراحة لن يصلوا بها لشيء إلا بالعودة خطوات كثيرة للخلف! مهاجمة اللغة أسهل! وكيف يحاربوا اللغة بمعزل عن العرب أنفسهم؟ شوهوا تاريخ العرب، لسانهم، وأوجدوا العلاقة بين التطور العلمي والحضاري وتحجر لغتنا (كما زعموا!!) فعمدوا إلى الدعوة إلى العامية بتبجح عجيب! وبحثوا على من يجيد أن يحمل ما بدأوه ويبثوه من خلاله من أهل لساننا.. ووجدوا من يحمل الشعلة عنهم مدعي أنهم في عتمة الظلام قد جاء بنور التغريب!هم أجادوا التخطيط حقًا! ونحن أجدنا التنفيذ بل لعلنا فقنا توقعاتهم أيضًا!
لماذا وصفت هذه القصيدة بإنها ذات نمط صعب؟!
ما ستشعر به كلما تقدمت في هذا الكتاب.. أنك تنتمي إلى لغة مختلفة تمامًا عما صُور لك! إن تلك اللغة هي لغة حية.. وعبقريتها فذة لن تجد لها مثيلًا! ستشعر بالفخر لانتمائك لها! وأنك تمتلك هذا اللسان!
يبدأ الأستاذ محمود شاكر بالتساؤل، هل سبب الثقل لأنها جاءة على بحر المديد؟ أم لكلمات القصيدة؟ وقد وُصف هذا الثقل على لسان أبو عبيد البكري في كتابه (اللآلي في شرح أمالي القالي).
ولعل السبب هو كونها جاءت على وزن بحر المديد، وهو بحر يقول عنه الأستاذ محمود شاكر: "يقل قلة ظاهرة في شعر الجاهليين والإسلاميين جميعًا، حتى لا تكاد تقع في شعر الجاهلية إلا على أبيات منه أو قطع قصار جدًا، شذت منها هذه القصيدة (وعدة أبياتها 26 بيتًا)".
وبالرغم أنه وبحر الطويل يخرجان من نفس الدائرة؛ دائرة المختلف، فبحر الطويل خرج منه الكثير من الشعر بعكس المديد.
وهذا الثقل ليس ذمًا ولكن "إنما يعنون شيئًا مبهما عندهم، الكشف عنه باللفظ المكتوب أمر صعب، وأصعب منه التعبير عن علاقة هذا البحر بخوالج النفس وبالطباع المركوزة في بنية الشاعر نفس... وهذا أمر شاق لأني أريغ الإبانة، باللفظ المنطوق، عن غامض ما يتلقاع آخر الحس بالسمع المجرد، وأي شيء أصعب من هذا؟ وإن لم تصدقني فجرب!"
الأستاذ محمود شاكر ونظرة جديدة في علم العروض
يبدأ الأستاذ محمود شاكر بعدها الحديث عن علم العروض بشكل مبسط، ويعلل دخوله في هذا الأمر بقوله: "وهو علم سلب النشء حقهم في معرفته، كما سلبوا حقهم في معرفة كثير من علوم أمتهم، ومن علوم لسانها وتاريخها، بالتحكم والتسلط في برامج التعليم من ناحية، وبالجرأة على حذف علوم كثيرة قديمة بجرة قلم، وبلا تدبر أو إعادة نظر، من ناحية أخرى".
علم العروض وإن كان علم غريب بالكلية عنّي عندما بدأت القراءة في هذا الكتاب.. ولكن نظرتي أختلفت للغة وشعرها بالكلية بعده! فجزى الله خيرًا من دلني على هذا الخير!
مؤسس هذا العلم هو الخليل ابن أحمد الفراهيدي (100هـ - 170هـ)، لم يصلنا كتابه ولكن ما وصلنا هو ما كتبه العروضيون من بعده، ويرجح الأستاذ محمود شاكر أن ما وصلنا من عمل العروضيين ليس هو ما صاغه الخليل، ولذلك نظر شاكر في علم العروض، لأنه لم يجد فيه ما يشفي غليل نفسه، فقرر إعادة النظر في دوائر الخليل بشكل مختلف مستعينًا بكتب الخلف.. وهذا فعل يحتاج جرأة ويحتاج عقلًا يعشق الحرية! ولعل القيود التي وضعت على دوائر الخليل، جعلت فيه ثقلًا وصعوبة، لأنه حول دوائره الحية إلى دوائر ثنائية الأبعاد، أخر ما نستطيع فعله معها هو تدويرها لإخراج البحور المختلفة منه.
ما قام به الخليل هو أنه حصر جميع أشعار العرب، وحول ما حصره إلى دوائر وبحور، هذه البحور الغرض منها أنها تصف ما يموج في الحس وتحوله إلى أجزاء (المشهورة باسم التفعيلة)، كما فعل من فك الألوان وترجم كل لون إلى موجات مختلفة، عند إضمام بعض منها معًا تصنع لونًا مختلفًا أو عندما تفقد جزء منها تصنع لونًا جديدًا.
فالخليل قام بتحويل ما سمعته أذنه وأحسه إلى قواعد وليست قيود.. وهذه القيود هي التي جعلت الأستاذ محمود شاكر ينظر مرة أخرى في أمر التفعيلات ولماذا تحول الحديث عن العروض إلى الحديث عن التفعيلات كأنها شيء قائم بذاته! وليست جزء من منظومة متكاملة!
وصدق الأستاذ محمود شاكر حين عقب على عمل الخليل فقال: "فأي رجل كان الخليل بن أحمد! وأي أذن! وأي حس! وأي عقل ضابط كان عقله!".
وبنى خليل عمله في علم العروض على شيئين: الأسباب والأوتاد.
والأسباب نوعان: سبب خفيف أي حرف متحرك يتبعه ساكن، وسبب ثقيل أي حرفان متحركان.
والأوتاد نوعان: وتد مجموع وهو 3 أحرف، حرفان متحركان يتبعهما ساكن، ووتد مفروق أي حرف متحرك يليه حرف ساكن ثم يتبعه حرف متحرك.
ومن هذا الأسباب والأوتاد، ضبط ما سماه الأجزاء، وجعلها على وزن (فعل) والتي اشتهرت بين الناس الآن بالتفعيلات، والجزء يتكون من تركيبهما معًا، والهدف من تلك الأجزاء هي بيان موقع الأسباب حول الأوتاد، وحركة الأوتاد حول الأسباب، وبهذا يحدث النغم، فما التفعيلة إلا دفقة صوتية كاملة لذلك لن تجدها تنتهي بمتحرك إلا في تفعيلة شاذة واحدة عن القاعدة (مفعولاتُ).
وبحر الشعر يتكون من شطرين (أو مصراعين)، كل شطر يتكون من مجموعة من الأجزاء (التفعيلات).. ويسمى أخر جزء في الشطر الأول: العروض، ويسمى أخر جزء من الشطر الثاني: الضرب.
والأجزاء عند الخليل عشرة، جعلها العروضيون ثمانية، وذلك لأن منها ما يتفق في الضبط شكلًا، ولعل هذا أحد القيود التي وضعت على هذا العلم، ولن أخوض في تفاصيل الأمر حتى لا أثقل عليك، وستجد في الكتاب نفسه ما يشفي غليلك في الأمر.
والأجزاء العشرة، منها أربعة تسمى الأصول، وهي كلها تبدأ بالأوتاد، ومن ثم أدار الأسباب من حول الأوتاد، وقدم تلك الأسباب فخرجت لنا ستة فروع لتلك الأصول.
أما الأستاذ محمود شاكر فأوجد لهذه التقسيمة، تقسيمة أقرب لما كان يرجحه لفعل الخليل، وجعلها كالتالي:
القسم الأول: أجزاء تبدأ بالوتد، وهي الأصول الأربعة، فعولن ، مفاعيلن، مفاعلتن، فاع لاتن.
القسم الثاني: أجزاء تنتهي بالوتد، وهي أربعة فروع، فاعلن، مستفعلن، متفاعلن، مفعولات.
القسم الثالث: أجزاء يتوسطها الوتد، وهي فرعان، فاعلاتن، مس تفع لن.
وكان سبب هذا التقسيم، هو لمحاولة فهم موقع الأوتاد من الأسباب وأهميته في دوائر الخليل، والعلاقات بين البحور المختلفة داخل الدائرة الواحدة.
وزاد الأستاذ شاكر بيانًا في أهمية الوتد، فهو كما في معنى اسمه، هو عماد البحر، ولذلك لا تجده يلدخل عليه أي ما يدخل على الأسباب من علل؛ أي حذف أو تغير أو نقص، إلا في بعض البحور، وتدخل على عروضه أو ضربه.
ثم قسم الأستاذ محمود شاكر البحوؤ إلى 3 أقسام:
القسم الأول: بحور مركبة من الأصول الأربعة، بمعنى أن أجزاءها كلها تبدء بالوتد، وهم خمسة أبحر، متفرقون على الخمس دوائر، وتقوم عليه دائرته.
القسم الثاني: بحور مركبة من الفروع ولا يخالطها أي من الأصول الأربعة، وجميع أوتادها طرف، وهي ستة بحور.
القسم الثالث: بحور مركبة من الفروع ولا يخالطها أي من الأصول الأربعة، وجميع أوتادها وسط، وهي ثلاثة أبحر.
وشذ عن هذا التقسيم بحر واحد فقط هو بحر الذي عليه قصيدتنا، وهو بحر المديد! فإنه مركب من فرعين لا أصول فيه أيضًا، ولكن فرع وتده طرف، وأخر وتده وسط! وهذا مكمن الثقل فيه! ومكمن الشعور الذي ينبعث من الترنم بأبيات على وزنه!
لنفصل قليلًا في المسألة، وزن بحر المديد هو (فاعلن مستفعلن) أربع مرات، أي هكذا:
فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن *** فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن
ولأن هذا المديد لا يأتي إلا به علة تدخل عليه، وهو أن تحدف (مستفعلن) في عروضه وضربه ويسمى عندها مجزوء، فيأتي بهذا الشكل:
فاعلن مستفعلن فاعلن *** فاعلن مستفعلن فاعلن
ويدخل عليه علة أخرى تسمى الترفيل، وهي زيادة سبب خفيف على الوتد في عروضه وضربه، فيأتي هكذا:
فاعلن مستفعلن فاعلن(تن) *** فاعلن مستفعلن فاعلن(تن)
وهناك ظاهرة مهمة عن الأوتاد يجب معرفتها، وأخرتها لتلك النقطة حتى تستشعر معي عبقرية ما تتذوقه سمعًا في الشعر! ظاهرة الصوت (أو حادي النغم) والصدى (مجيب هذا الحادي)! والصوت هو الجزء الأول (هنا :أي فاعلن)، وصداه هو الجزء الثاني (هنا: أي مستفعلن).
الظاهرة هي أن الصوت والصداه، هذا الحادي الذي يترنم ومجيبه يجب أن تأتي الأوتاد في نفس المكان! أي إذا جاء الصوت الوتد طرف، فصداه مثله الوتد طرف! لذلك عند الترنم، فأنت حين تسمع الجزء الأول تتوقع أن يكون مجيبه مثله! وهذا ليس الحال في المديد! فصوته طرف وصداه وسط! أم الترفيل فأدخل عليه شعور جديد، أسرتكك مع كلمات الأستاذ محمود شاكر فيه، يقول:
" فاعلن مستفعلن فاعلن(تن) *** فاعلن مستفعلن فاعلن(تن)
فالحادي والمجيب في المصراع الأول، ووتدهما طرف، يتطلبان من تمام النغم أن ينقطع على وتد طرف في العروض وهو آخر المصراع الأول/ فاعلن، فتكاد تقف، وترردد قليلًا، وتحجم بعض الإحجام، ولكن الترفيليسرع بك إلى طرح التردد والإحجام مسرعًا، قائلًا: فاعلن(تن) ثم تأخذ في المصراع الثاني، فيحملك الحادي والميجيب (فاعلن مستفعلن) على أن تقطع النغم مرة آخرى، على وتد طرف في الضرب، وهو آخر مصراع الثاني فاعلن، فتقفف مترددًا محجمًا مرة أخرىـ وسرعان ما يستفزك الترفيل، فتنطلق مسرعًا قائلا: فاعلن(تن)".
"كل ذلك أكسب بحر المديد العروض الأولى هذه الصفة التي عبر عنها القدماء بأنها ثقل فيه، وما هو بثقل إنما هو ما وصفت لك من نزاع الخفي المتتابع بين الحادي والمجيب وبين الترفيل وما أوجب عليك نزاعهما من توقف وتردد وإحجام، ومن استفزاز مسرع بك إلى الانطلاق، ثم حدوث ذلك كله في زمن متقارب".
"وتذوق النغم، والتأني في التذوق، هما الفيصل في إدراك حقيقة هذه الصفة التي وصفت".
"وأما كيف أدى هذا الذي وصفت إلى قلة استعمال بحر المديد العروض الأولى...فليس دخلًا في علم العروض ولا فيما سموه ثقلًا فيه، بل إن طبيعة النغم التي استبدت بهذا البحر، منذ أطلقه حادي النغم ومجيبه، وكشفت عن خليقته من البطء والأناة في فاعلن ثم مساورة السعي والعجلة في ذبذبة السببين الخفيفين من مستفعلن إلى أن يكف منهما مستقر الوتد المستقبل، ثم إطلاله على بطء وأناة في الجزء الثالث فاعلن، حيث يتوقع أن يتسقر عند الوتد المتطرف، فلا يكاد يؤنس من نفسه قرارًا حتى يحجم ويتردد، للذي يجدخ من حافز الترفيل، فلا يكاد يقر عليه حتى يقلقله الترفيل، فيسرع، ثم يتلقفه حادي النغم ومجيبه في المصراع الثاني...وهذا الذي حاولت أن أصفه بالعبارة، يفشي في نغم المديد قلقًا وحيرة، وبسطًا وقبضًا، تتابع كلها في خلال دراكًا، فتسد إليها المتغني به المترنم، وتكبح غلوائه كلما أوشك أن يسرع أو يسترسل حتى يذعن ويتئد".
"ونغم هذا المديد المرفل كما وصفته، يوجب على المترنم (وهو الشاعر) إذا لايسه، أن يلابسه وهو في حال مطيقة لاحتمال ستطوته، بين قلق وحيرة، والبسط والقبض...وليس كل مترنم يطيق ذلك، أو يصبر عليه إذا طال، وليس كل مترنم بقادر على أن يقبل سطوة تكفه إذا أراد أن يسترسل".
"وعلى ذلك، فأوفق حالات المترنم احين يلابس هذا النغم، أن يكون على حال تذكر لشيء كان ثم انقضى، فه يسترجع ذكرى ينظر إليها من بعيد، متراحبة تزدحم فيها التفاصيل، فيختار من صورها نبذًا وأطرافًا تبين عنها بالإشارة الجامعة دون تصريح، وبالاقتصاد الحكيم دون تبذير، وبالاناة دون العجلة، بلا هياج عاطفة ولا تضرم نفس، وبلا غلو في كتمان، وبلا طغيان في بوح".
وأختم بما ختم به الأستاذ محمود شاكر مقالته بكلمة للإمام الشافعي وتعقيب له عليها، يقول: " ورحم الله إمامنا الشافعي...قال:"إني لأجد بيانها في قلبي، ولكن ليس ينطق به لساني" وما أحرى الشافعي بالسداد! فإن كنت أحسنت الإبانة فبتوفيق من الله، وإن كنت أسأت فمن العجز والتقصير أتيت، وعسى أن أستدرك ما قصرت عند النظر في القصيدة التي ولجت بنا المضايق، وألفت بنا في الأزمات!".
----
[1] (المقال الأول: نمط صعب.. ونمط مخيف).
[2] (إن شئت المزيد عن الأمر، كتاب للأستاذة نفوسة زكريا سعيد باسم (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر) ).
[3] (تستطيع العودة لكتاب الأستاذ محمود شاكر (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، لكي يتضح لك العلاقة بين اللغة ولسان الأمة وعمل المستشرقين الدائم لهدمه بعد ما عرفوا سر هذا النبع الذي نهلوا هم منه، وأبعدوه عنا!).