(45) الشهوةُ وفسادُ التصوُّر

جمال الباشا

بكثرة التماسّ يتبلَّدُ الإحساس.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

يعجبني توظيفُ القَصص الرمزية في تقريب المفاهيم وترسيخ الدروس. 
من ذلك ما ذُكر عن قصة الكلب الذي لم يعجبه اسمه وذهب إلى ملك الغابة طالبًا منه تغييره إلى اسم آخر محبب لديه. 

وافق الأسد على منحه اسمًا جديدًا ولقبًا يرفع به شأنه بين الحيوانات، ولكن بشرط أن يجتاز اختبارًا سهلا. 
أعطاه قطعة لحم وكلفه الاحتفاظ بها ثلاثةَ أيام دون أن يُصيب منها شيئًا. 

فرح الكلب بهذا الشرط السهل وأخذ قطعة اللحم إلى بيته، ووضعها أمام ناظره وجعل يُحدّق بها. 
لم يفعل شيئاً سوى النظر وهذا ليس مخلاً بالشرط !! 

وفي اليوم الثاني اقترب منها مسافةً قصيرةً فصارت رائحةُ اللحم تتسلل إلى جوفه فسال لها لعابه. لكنه ظل متماسكا ولم يخالف الشرط. 

لقد أصبح في اليوم الثالث والصراع في داخله يحتدم، هو يرغب في الترقية إلى اسمه الجديد، ونفسه تنازعه إلى الاقتراب من قطعةِ اللحم أكثرَ ليملأ أنفه من رائحتها الشهية التي لم يعُد يقاومها، وهو بهذا ليس مخالفًا للشرط فسيرُدُّها دون المساس بها. 

اقتربَ أكثرَ فأكثر .. الأنفُ يكاد يلتصق باللحم.. نفَسٌ عميق يسيل معه اللعاب وتتفتَّقُ له الأمعاء. 
وهو يقول في نفسه:
- لم أخالف الشرط. 

- المدة أوشكت على النهاية. 
- لعقةٌ واحدةٌ لا تضر. 

- اللقبُ الجميل والترقية في انتظارك. 
- اللعقُ ليس أكلا، وعشراتٌ منه لا تُخلُّ بالشرط. 
- اصبر قليلا فالشمس أوشكت على المغيب، وتُحقق غايتك. 

- حسنًا.. قضمةٌ واحدةٌ فقط وسأعتذر عنها. 

قضمة ثانية. 
ثالثة .. ورابعة. 

اختفت قطعةُ اللحم مع اختفاء قرص الشمس من الأفق. 

قال الكلبُ وقد ملأ بطنه وفشل في الاختبار:

أنا لا أرى ضيرًا في اسم (الكلب).
هو اسم رائع، ولم أكن بحاجةٍ أصلا إلى تغييره !! 
والقناعةُ كنزٌ لا يفنى !!

ذهبت اللحمَةُ وظلَّ الكلبُ كلبًا. 

أخي المبارك.. 

كم شهوةٍ أفسدت تصوُّرَ العاصي عن حرمة المعصية وضرر الذنب، وجعلته يرضى بالدون، فبمباشرته لها وتكرار مقارفتها يعتادُها ويألفُها، ولم يعُد ينفر منها، ثم يستحسنها، ثم يدافع عنها ويبحث عن أية شواهد مهما كانت ضعيفة أو شاذة أو ساقطة، ليسوّغ بها فعله الآثم، وفي النهاية تنقلبُ المحرَّمات إلى مباحات لا إشكال فيها. 

حقًّا.. 

بكثرة التماسّ يتبلَّدُ الإحساس.