الأمة المستباحة والطمع في رحمة الله
تامر نصار
دع عنك تثبيط المنافقين وتشكيك المرجفين ووساوس القانطين! وسَلِم أمرك للعليم الحكيم البر الرّحيم، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه ..و بعد، فإن الرجاء في الله تعالى والطمع في واسع فضله وعظيم رحمته التي وسعت كل شيء لهو أمرٌ عظيمٌ لا ينجو عبد في الدنيا والآخرة إلا به ولكن القليل من حققه تحقيقاً نجى به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة! ذلك أن السواد الأعظم من الناس خادع نفسه وربه بادعاء طمعٍ مشروط في رحمة الله! مشروطٍ بالإقامة على ما يسخط الرب الجليل سبحانه!، ولأن الحاجة شديدةٌ في كل وقتٍ إلى تحصيل رحمة الله خاصة مع توالي الضربات على الأمة مجموعها وأفرادها فإنه من المهم معرفة خطاب القرآن عن ذلك الطمع المحمود الذي لا غنى عنه! وقبل بيان مواطن ذكر القرآن لهذا الطمع لفظًا صريحًا يجب التنبه إلى أن رحمة الله منها ما هو عامٌ يشمل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم ومنها ما هو خاصٌ باوليائه وعباده المؤمنين وهذا القسم هو محل البحث هنا،
والمتتبع لخطاب القرآن العظيم يجد أن الرب الرحيم أمر عباده بعدم القنوط من رحمته في أي أمرٍ من أمور الدنيا والدين لكنه في أمور الدنيا حث على ذلك حتى مع انقطاع الأسباب أو ضعفها أما في أمور الدين فحث على أخذ أسباب استجلاب رحمته سبحانه والتي هي في مقدور كل أحد! فمن الأول إخباره عز وجل عن خليله ابراهيم حين جاءته البشرى بالولد مع كبر السن فقال متعجبًا من رحمة الله: قَالَ {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] ثم نفى عن نفسه أن يكون قانطًا {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] وهكذا بقي لكل مؤمن بالله أن يرجو انفراج كرب، وزوال همٍ وتحقيق حاجة وتيسير عسير وغيره من أمور الدنيا التي قد تضيق أسبابها أو تنعدم فيبقى الطمع في رحمة الله حاضرًا! ذلك أن الله بكل شيءٍ عليم وهو على كل شئ قدير ، أما في أمور الآخرة فكثيرًا ما أتى الرجاء في القرآن مرتبطًا بالعمل فإن الله تعالى حين أمر عباده ألّا يقنطوا من رحمته وإن أساؤوا وأسرفوا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] فإنه جل شأنه أمر بعدها بعدم الإغترار بالباب المفتوح والرحمة المبسوطة من دون جهاد النفس لإصلاحها وحملها على التوبة {وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، وكذلك حين رَغَب القرآن الخلق في الرجاء في رحمة الله ذكر ذلك مقترنًا بالعمل في أكثر من موضع فتارة قرن الرجاء بالإيمان والهجرة والجهاد فقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّـهِ ۚ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218] وقرنه تارةً أخرى باتِباع كتابه وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله فقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30] وجعل رحمته الخاصة مقترنة بطاعته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
لكن يبقى شيءٌ عجيبٌ جدًا! فقد ذكر القرآن الطمع في رحمة الله في مواطن اجتمعت في طاعةٍ واحدة! هذه الطاعة هي مظنة القتل! نعم مظنة فقد المال والأهل والولد بل القتل بأبشع طريقةٍ أحيانًا! إذ أنها التصدى للكفار والطغاة ودحض باطلهم! وتعال قبل أن تأخذك الحيرة لترى عجبًا يزيل عنك ما يعتريك حين ترى الأمة مستباحة في العراق والشام وبورما وفي أرجاء الأرض فتسأل نفسك عن الرحمة المنتظرة التي تظنها غائبة! فها هو كتاب ربك بين يديك فيه الشفاء والنور والعصمة! فقد ذكر القرآن الطمع في رحمة الله في مواطن أذكر منها أولًا سورةً ذكر فيها ذلك الطمع في رحمته مرتين وهي سورة الشعراء غير أن ذكرها جاء كما قلت مقترنًا بالتصدي لطواغيت الأرض! فأخبر الله الجليل سبحانه عن سحرة فرعون حين عرفوا الحق فآمنوا وسجدوا لرب العالمين ولم يلبثوا أن صدعوا بالحق في وجه فرعون وفضحوه على الملأ مع تيقنهم من إجرامه وبطشه حتى أنهم لم يطلبوا النجاة من القتل بل دعوا ربهم فقط أن يتوفاهم على الإسلام {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف جزء من الآية: 126] لكنهم مع تعرضهم للقتل تقطيعًا وتمثيلًا بهم بهذه الطريقة البشعة قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] فسبحان الله العظيم! ماذا يمكن من البذل أن يقدموا أكثر من ذلك ؟! لكنهم (يطمعون) في رحمة الله ! وقد قضى الله بحكمته أن يقتلوا بهذه الطريقة ليحصلوا رحمة يغبطها عليهم الأولون والآخرون من المؤمنين! وقد ذكر الله تعالى في نفس السورة بعد قصتهم مباشرةً طمع خليله إبراهيم في رحمته فإذا هذا الطمع في نفس الموطن! في نفس الميدان! ميدان التصدي لطواغيت الأرض وأئمة الكفر!! فإبراهيم عليه الصلاة والسلام يصدع بتبرؤه من آلهتهم الباطلة {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ*أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ *فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75-77] ، ثم جعل يثني على ربه بذكر نِعمه حتى كان أول سؤاله لربه {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]! ونعم قضى الله بحكمته أن تكون النار بردًا وسلامًا على إبراهيم ليكون حاضرًا في الذهن أن موضع الطمع في رحمته سبحانه واحد سواء نجى الطامع في الدنيا أو هلك! وقد بين سبحانه في مواطن أُخرى كثيرة أنه تكَفل بإرضاء من هلك في سبيل دينه {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد جزء من الآية: 4، 5-6]، وقال تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّـهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّـهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58-59] وجاءت السُنة تخبر عن الشهيد أن ربه يقول له: «عبدي تَمَن على» (سنن ابن ماجة: 2800)! فلا يتمنى إلا أن يرجع إلى الدنيا ليُقتل مرة أخرى لما يرى من كرامة الله له! لكن العجب لم ينته بعد! فها هو موطنٌ فريدٌ لا أعلم له مثيلًا من مواطن الطمع في رحمة الله لكنه بعد انقطاع العمل وانقضاء الدنيا! نعم في عرصات القيامة! قال تعالى في سورة الأعراف عن أهل الأعراف الذين قصرت حسناتهم عن دخول الجنة ولم تبلغ سيئاتهم أن تدخلهم النار {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف جزء من الآية: 48] فياله من طمعٍ أي طمع! فمن أين لهم بحسنة تدخلهم الجنة وقد مضى وقت ذلك ؟! لكن الله قضى بحكمته إظهارًا لعظم هذه العبادة أن يحتسب لهم تبرؤهم من الكفار وموالاتهم للمؤمنين { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّـهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 48، جزء من الآية: 49] فتحقق المراد {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف جزء من الآية: 49] فالحمد لله رب العالمين .. إن الله تعالى لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء وهو جل شأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وهو الذي يدبر الأمر وهو العليم الحكيم {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} [آل عمران: 196] فلعل الله أن يرحم من يشاء كيف يشاء {حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] وقد تبين لك أن طريق الجهاد محل الرحمات وإن كان ثمنه غاليًا وطريقه وعرةٌ فهو محفوف برحماتٍ لا تنال إلا من طريقه فدع عنك تثبيط المنافقين وتشكيك المرجفين ووساوس القانطين! وسَلِم أمرك للعليم الحكيم البر الرّحيم، {وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف جزء: 21]!
فاستعملنا اللهم لنصرة دينك وأغثنا برحمتك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .