[3] عبر من فتنة خلق القرآن
سلمان بن فهد العودة
أن الإمام أحمد رحمه الله قام بفرض الكفاية، وكان موقفه الفريد هو الذي أثبت لهذه الأمة الخيرية المستمرة، وأنه لا يزال فيها من يقوم بالقسط ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويقوم بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، ولو لم يوجد الإمام أحمد لكان معنى ذلك أن الأمة كلها طأطأت رأسها، وخفضت ظهرها وأذعنت للفتنة وأقرت بالباطل ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يوجد في كل زمان ومكان من يقوم بحجة الله تعالى على عباده ويبلغ دين الله ويصبر في ذلك ويصابر.
- التصنيفات: تراجم العلماء -
عبر من فتنة خلق القرآن
أولها: أن الإمام أحمد رحمه الله قام بفرض الكفاية، وكان موقفه الفريد هو الذي أثبت لهذه الأمة الخيرية المستمرة، وأنه لا يزال فيها من يقوم بالقسط ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويقوم بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، ولو لم يوجد الإمام أحمد لكان معنى ذلك أن الأمة كلها طأطأت رأسها، وخفضت ظهرها وأذعنت للفتنة وأقرت بالباطل ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يوجد في كل زمان ومكان من يقوم بحجة الله تعالى على عباده ويبلغ دين الله ويصبر في ذلك ويصابر.
ولهذا لما ذكر علي بن شعيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة خباب رضي الله عنه قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فقُلْنَا: "أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا" قَالَ: «قد كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يؤخذ فيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْن وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، من دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمه، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [1]. فقال علي بن شعيب: "ولولا أن أحمد قام بهذا الشأن، لكان عارًا علينا إلى يوم القيامة أن قومًا سبكوا فلم يخرج منهم أحد" [2].
ولهذا قالوا: "لو أن الإمام أحمد في بني إسرائيل كتبت له سيرة" [3].
وأقول: الإمام أحمد في هذه الأمة ولو كان في بني إسرائيل لكتبت له سيرة واحدة، أمَّا لأنه من هذه الأمة فقد كتب له عشرات السير، فقد تُرجم له في مجلدات خاصة كما صنف في ذلك ابن الجوزي والبيهقي، وكتب في ذلك جمع من أهل العلم وعلى كلامهم اعتمدت، منهم الذهبي في سير أعلام النبلاء، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن كثير في البداية والنهاية، وجماعة من المؤرخين المعتمدين، ومن المحدثين كابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل، وغيرهم كثيرٌ.
الثانية: أن الإمام أحمد قام بالشهادة لله تعالى، فالذين كانوا على مثل مذهبه ويقولون بما يقول كثير، بل هم أكثر العلماء والمحدثين والفقهاء ولكن الذي ثبت وأعلن هذا المذهب وأصر عليه وأوذي في سبيله هو رجل واحد فقط وهو الإمام أحمد.
صبر الإمام أحمد رحمه الله حتى أعز الله تعالى به الدين، حتى قال علي بن المديني رحمه الله: "إن الله أيَّد هذا الدين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة" [4].
أي صبرٍ وجلدٍ أعظم من أن يصبر الإمام أحمد عشرين سنة، فتعود الدولة إلى مذهب أهل السنة، ويصبح هو المذهب المتبوع المقرر الرسمي الذي يدين به المسلمون؟!
ولقد كان الإمام أحمد أنموذجًا فقد كان مؤمنًا بآيات الله سبحانه وتعالى، ما داخله شك ولا ريب، ولا تردد في صحة وصواب ما يدين به وما يعتقده، ولم يزده البلاء والعذاب إلا يقينا على يقينه، وإيمانًا على إيمانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] فالبلاء زاده إيمانًا، وزاده تسليمًا، وزاده صبرًا ويقينًا، وكان يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأيضًا كان صبورًا، جُلِد وخُلِع ظهره وأوجِع وأوذي وظل يتألم من أثر الجراح وأثر الجلد وأثر السياط فما صده ذلك عن دينه.
قال قتيبة بن سعيد: "أحمد بن حنبل إمامنا، من لم يرضَ به فهو مبتدع" [5].
وكان بشر بن الحارث وعلي بن المديني ويحيى وغيرهم يقولون: "تريدون منا أن نقوم مقام الإمام أحمد، إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء" [6]، أي: وقف موقف صدق يشبه ما كان عليه الأنبياء عليهم سلام الله تعالى.
الثالثة: ثبت الإمام أحمد في المحنة فكان هو نفسه المحنة.
كيف؟
كان العلماء في عصره يسعون إلى لقياه، وإلى النظر إليه وإلى القعود بين يديه، قال المقرئ: "رأيت علماءنا مثل الهيثم بن خارجة ومصعب الزبيري -وعد خلقًا فيما لا أحصيهم من أهل العلم والفقه- رأيتهم يعظمون أحمد بن حنبل ويجلونه ويوقرونه ويبجلونه ويقصدونه للسلام عليه" [7].
وقال قتيبة: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة" [8].
فصار الإمام أحمد رمزًا من رموز السنة، ما يحبه إنسان إلا لأنه يحب دينه، ويحب عقيدته، ويحب مذهبه، ويحب صبره، ويحب ما كان عليه.
وبالمقابل قال الغلاّس رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل، فاعلم أنه مبتدع" [9]، يعني أنه: لا يبغض أحمد إلا لمحاربته لدينه ومسلكه ومذهبه وما كان عليه.
أضحى ابنُ حنبلَ محنةً مأمونةً *** وبِحُبِّ أحمدَ يُعرفُ المُتَنَسِّكُ
وإذا رأيتَ لأحمدَ مُتَنَقِّصًا *** فاعلمْ بأنَّ سُتُورَهُ سَتُهَتَّكُ [10]
نعم. هكذا يكون الصابرون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
نعم. هناك رجالًا تجردوا من حظوظ أنفسهم وتخلوا عن دنياهم وترفعوا عن شهواتهم، فلم يعد لأنفسهم في أنفسهم نصيب، ولم يعد يعنيهم أمر أنفسهم لا في مأكل ولا في مشرب ولا في جاه ولا في عرض فلا يهمه أن يقع الناس فيه ولا أن ينالوا منه، فأكرمهم الله تعالى وجعلهم رموزًا للسنة، بها يعرفون وإليها ينسبون.
[1] أخرجه أحمد في مسنده (5/110،109).
[2] انظر: تاريخ دمشق (5/288)، تهذيب الكمال (1/455)، سير أعلام النبلاء (11/202)، (طبقات الحنابلة (1/17).
[3] انظر: تاريخ دمشق (5/289)، طبقات الحنابلة (1/17).
[4] انظر: تاريخ الإسلام (18/71)، (تذكرة الحفاظ) للذهبي (2/432).
[5] انظر: الجرح والتعديل (2/69)، تاريخ دمشق (5/276)، تهذيب الكمال (1/451)، (طبقات الحنابلة لأبي يعلى) (1/15).
[6] انظر: الجرح والتعديل (1/310)، تاريخ دمشق (5/318)، حلية الأولياء (9/170)،(9/168).
[7] انظر: تاريخ بغداد (4/416)، حلية الأولياء (9/171)، السير (11/204).
[8] انظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/103)، وطبقات الشافعية (2/28).
[9] انظر: تاريخ دمشق (5/294)، تهذيب الكمال (1/457).
[10] البيتان لابن أعين وهما في المناقب (ص/659)، وتاريخ بغداد (4/420-421).