[5] عبادته رحمه الله وزهده في الدنيا
سلمان بن فهد العودة
قال عبد الله بن الإمام أحمد: "كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوم سُبْعًا ؛ يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو"
- التصنيفات: تراجم العلماء -
عبادته رحمه الله وزهده في الدنيا:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا . نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [المزمل:1-5].
قال عبد الله بن الإمام أحمد: "كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوم سُبْعًا ؛ يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو" [1].
وقال أيضًا: "ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشائين، فإذا صلى عشاء الآخرة، ركع ركعات صالحة، ثم يوتر وينام نومة خفيفة، ثم يقوم ويصلي، وكانت قراءته لينة، ربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات" [2].
وقال أيضاً: "كان أبي يقرأ القرآن في كل أسبوع ختمتين، إحداهما بالليل، والأخرى بالنهار" [3].
ولما اشتد مرض الإمام أحمد بعث إليه الخليفة بابن ماسويه الطبيب، فنظر إلى الإمام أحمد ورجع إلى الخليفة وقال له: "يا أمير المؤمنين! أحمد ليست به علة في بدنه، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة"، فسكت المتوكل [4].
وكان رحمه الله معرضًا عن الدنيا ومباهجها وزخرفها، قال الشافعي: "يا أبا عبد الله إن أمير المؤمنين سألني أن ألتمس له قاضياً لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق، فقد نلت حاجتك، وتقضي بالحق، فقال الإمام أحمد للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعت هذا منك ثانية، لم ترني عندك" [5].
وهذا اجتهاد الإمام أحمد فيما يرضيه هو، أما القضاء والأعمال الإدارية التي فيها مصالح العباد، فهي بحسب النية والقصد، وهي لمن نوى بها خيرًا، وأخلص في العمل وأدى ما عليه من أعظم القربات وأجل الطاعات، ولا بد للناس منها، وقد يتعين هذا المنصب أو ذاك على من يكون أهلًا له وجديرًا به.
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يكره التكلف والتصنع والتزين والتظاهر بالأشياء، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] حتى ثيابكم ونعالكم وملابسكم وأراضيكم خلفتموها وراء ظهوركم! إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاةً عراةً غرلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
قال أبو حاتم رحمه الله: "كان أحمد بن حنبل إذا رأيته تعلم أنه لا يظهر النسك، رأيت عليه نعلًا لا يشبه نعل القراء، له رأس كبير-يعني النعل- معقد، وشراكه مسبل كأنه اشتري له من السوق" [6]، يعني: نعله من نعال الناس، وليس من النعال التي يتميز بها القراء وأحيانًا فتيان القراء.
وإن بعض المحدثين وبعض الطلبة قد يكون له سمت خاص وبزة معينة، أما أحمد فلم يكن كذلك، بل كان كسائر الناس.
قال أبو حاتم: "ورأيت عليه إزارًا وجبة" [7].
قال أبو محمد بن أبي حاتم: "أراد بهذا -والله أعلم- ترك التزين بزي القراء وإزالته عن نفسه ما يشتهر به" [8]، أي: كان الإمام يكره أن يشتهر بشيء من ذلك.
وقال المروذي: "رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعًا خاشعًا، فإذا كان برًا -يعني في خارج بيته- لم يتبين منه شدة خشوع، وكنت أدخل والجزء في يده يقرأ" [9].
ولا يتميز بثياب خاصة أو ملابس معينة أو هندام، وإنما كان يهتم بالحقائق لا بالمظاهر، وبالمعاني لا بالرسوم.
إعراضه عن الدنيا:
وأما إعراضه عن الدنيا فقد قضى الإمام أحمد رحمه الله حياته كلها فقيرًا وكان يحب الفقر ويميل إليه بطبعه، وقد عرضت عليه أُعطيات كثيرة من التجار ومن سائر الناس، بعضها أموال، وبعضها من المزارع، وبعضها هدايا، إلا أنه كان لا يقبل شيئًا من ذلك قط مهما كان به من حاجة.
قال عبد الرزاق رحمه الله: "أعطيته بعض الدنانير فردها، وقال: أنا بخير" [10].
وقال محمد بن سعيد الترمذي: "قدم صديق لنا من خراسان فقال: إني اتخذت بضاعة ونويت أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل. فخرج ربحها عشرة آلاف درهم فأردت حملها إليه ثم قلت: حتى أذهب إليه فأنظر كيف الأمر عنده، فذهبت إليه فسلمت عليه فقلت: فلان فعرفه. فقلت: إنه أبضع بضاعة وجعل ربحها لك، وهو عشرة آلاف درهم. فقال: جزاه الله عن العناية خيرًا، نحن في غنى وسعة. وأبى أن يأخذها" [11].
قال حنبل: "جاء يعقوب أحد حجاب المتوكل، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي وأنا، ومع بعض غلمانه بدرة على بغل، ومعه كتاب المتوكل".
فقرأه على أبي عبد الله: "إنه صح عند أمير المؤمنين براءة ساحتك، وقد وجه إليك بهذا المال تستعين به".
فأبى أن يقبله، وقال: "ما لي إليه حاجة".
فقال: "يا أبا عبد الله، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به، فإنه خير لك عنده، فإنك إن رددته، خفت أن يظن بك سوءًا".
فحينئذ قبلها.
فلما خرج، قال: "يا أبا علي"، قلت: "لبيك"، قال: "ارفع هذه الإنجانة وضعها، يعني: البدرة، تحتها".
ففعلت
وخرجنا.
فلما كان من الليل، إذا أم ولد أبي عبد الله تدق علينا الحائط، فقالت: مولاي يدعو عمه، فأعلمت أبي، وخرجنا، فدخلنا على أبي عبد الله، وذلك في جوف الليل، فقال: يا عم، ما أخذني النوم، قال: ولم ؟ قال: لهذا المال، وجعل يتوجع لأخذه، وأبي يسكنه ويسهل عليه.
وقال: حتى تصبح وترى فيه رأيك.
فإن هذا ليل، والناس في المنازل، فأمسك وخرجنا.
فلما كان من السحر، وجه إلى عبدوك بن مالك، وإلى الحسن ابن البزار فحضرا وحضر جماعة، منهم: هارون الحمال، وأحمد بن منيع، وابن الدورقي، وأبي، وأنا، وصالح، وعبد الله.
وجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل الستر والصلاح ببغداد والكوفة.
فوجه منها إلى أبي كريب، وللأشج وإلى من يعلمون حاجته.
ففرقها كلها ما بين الخمسين إلى المائة وإلى المائتين، فما بقي في الكيس درهم، ثم تصدق بالكيس على مسكين [12].
ولما مات الإمام أحمد بعث ابن طاهر بمناديل فيها ثياب وطيب للإمام أحمد، وقال: كفنوه في هذا وحنطوه بهذا. فقال صالح ولد الإمام أحمد: لا إن الإمام أبا عبد الله قد أعدَّ كفنه وأعدَّ حنوطه قبل أن يموت، وإن أمير المؤمنين قد أعفى والدي من كل ما يكره، وهذا مما يكره الإمام أحمد، وأبى أن يقبلها وردها إليه [13].
كان الإمام أحمد يقول لولده صالح: "إن والدتك -وكان يحبها كثيرًا ويتذكرها وكانت قد ماتت قبله- كانت تغزل غزلًا دقيقًا، فتبيع الأستار بدرهمين أو نحوه، فكان ذلك قوتنا" [14].
وكان يقول: "أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء من الدنيا، ويقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل" [15].
وبلغ من ورع الإمام أحمد وزهده: أنه نهى ولده عن أن يأخذ شيئًا من أعطيات السلاطين [16]، وكان صالح قد وليَّ القضاءُ وأخذ بعض المال وبعض المرتبات، فكان الإمام أحمد لا يأكل من طعامه، لا تحريمًا لهذا، ولكن من باب الورع، ولأنه يرى أن في هذا الأموال شبهة، فيتورع عن أخذها ويعتذر عن ذلك، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا، وقالوا: احتجنا يا أبانا. فهجرهم شهرًا لا يكلمهم [17].
ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يشوى ويؤخذ ماؤه فلما جاءوا بهذا القرع، قال بعض الحضور: اجعلوها في تنور صالح، لأن تنور صالح قد أوقد وحمي، فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا لا لا. أي: لا تجعلوها في تنور صالح لأنه يأخذ من السلطان [18].
وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد، فربما حرك عليه المروحة يروح عنه، فأبغض الإمام أحمد ذلك، لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أعطيات السلطان.
هذا جانب من ورعه وزهده، فلم يكن يحرم الحلال، ولا يضيق على الناس أبدًا، ولكنه كان في خاصة نفسه ومن يعول من ولده يتخذ مسلك الورع والتقوى والاحتياط، والتعفف والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك.
وهذه طرائق في السلوك تختلف مقاماتها وتتفاوت درجاتها، لم يكن الإمام أحمد يمتحن بها الناس ولا يضيق عليهم، ولا يصادر اجتهاداتهم وميولهم، ولكنه أخذ نفسه بالحزم والعزيمة في أمر يلائمه، ويتفق مع طبعه وجبلته، ويرتاح له، وهذا من التنوع في مسالك الشرع، كما جاء في الحديث الصحيح: «البذاذة من الإيمان» [19]، وهي التبسط في الملبس، أي : رثاثة الثياب في الملبس والمفرش تواضعاً عن رفيع الثياب وثمين الملابس.
وفي حديث آخر صحيح: «إن الله جميل يحب الجمال» [20].
ومسالك الأئمة تساق وتستحسن وهي طرق شتى كما ترى في الأئمة الأربعة، بل وفي الصحابة، فلم يكن أبو ذر كعمر بن الخطاب، ولا كعثمان بن عفان، أو سعد بن أبي وقاص، وكل منهم له مقام معلوم وطريقة مختلفة، وكلهم على خير.
[1] انظر: حلية الأولياء (9/181)، صفة الصفوة (1/536)، المناقب لابن الجوزي (ص/382)، السير (11/214).
[2] انظر: سير أعلام النبلاء (11/223).
[3] طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/9).
[4] انظر: طبقات الحنابلة (1/12)، تاريخ الإسلام (18/121).
[5] انظر: سير أعلام النبلاء (11/223-224)، البداية والنهاية (10/328).
[6] الجرح والتعديل (1/306)، السير (11/207).
[7] السير (11/185).
[8] السير (11/206).
[9] انظر: سير أعلام النبلاء (11/185).
[10] انظر: سير أعلام النبلاء (11/214).
[11] انظر: تاريخ دمشق (5/304-305)، تهذيب الكمال (1/459-460).
[12] السير (11/267-268)، تاريخ الإسلام (وفيات/242-252)(ص/118-119).
[13] انظر: الجرح والتعديل (1/301)، سير أعلام النبلاء (11/338)،(11/206).
[14] السير (11/324).
[15] انظر: طبقات الحنابلة (1/10).
[16] المناقب (ص/353).
[17] انظر: مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي (ص/346)، طبقات الحنابلة (1/10).
[18] انظر: سير أعلام النبلاء (11/272)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/352).
[19] أخرجه أبو داود (4161)، وابن ماجه (4118) من حديث أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه، ورجاله ثقات.
[20] أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كتاب الإيمان باب تحريم الكبر (2/89)، وأبو داود (4092).