القدس.. والخيانة الخفيَّة

مهدي بن علي قاضي

يا أمة الإسلام جَلَّ مُصابي *** وأطار كيد الخائنين صوابي ....

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

يا أمة الإسلام جَلَّ مُصابي *** وأطار كيد الخائنين صوابي (1)

ما ضاع واستمر أسر قدسنا المقدسة وأقصانا الشريف ثالث المسجدين وأولى القبلتين إلا يوم أن قصرنا في حق الله وتمسكنا بأوامر الإسلام. ولا شك أن أمتنا مرت بالكثير من مظاهر التقصير في علاقتها مع الله وتمسكها الحق الكامل بالدين، وكان هذا هو السبب الأساسي لشتى مظاهر ضعفها وذلها وتسلط الطغاة والأعداء عليها وبُعْدَ النصر عنها وضياع مقدساتها ورخص ثمن دمائها التي غدت تسيل أنهارًا في شتى بقاع الأرض، لأن سنة العظيم عز وجل اقتضت أن النصر والتمكين لأمة الإسلام لا يكون إلا إذا صدقت معه سبحانه ونصرته وتمسكت بأوامره، قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (2).

ويتحمل كل فرد من أفراد الأمة جزءًا من هذا التقصير حسب وضعه وموقعه ودرجة تقصيره، سواء بالتقصير في التمسك الحق الكامل أو التقصير في الدعوة والإصلاح والتغيير.

ومن أعظم أنواع التقصير خيانة الأمة ومساعدة الأعداء عليها والقبول بما يريدونه من أمور تضر بأمة الإسلام. وبعض هذه الخيانات واضحة جلية، ولكن الأخطر هو الخيانة التي لا تكون واضحة فتجعل الأمة تنساق معها وتتضرر بها بدون أن تشعر أنها من أسباب عون أعداء الدين وإحلال الهزيمة بالمسلمين، بل قد تصفق الأمة لمقدمي مثل هذه الخيانات مع أنهم أصبحوا لشرهم الخادع الخفي أخطر من أعداء الدين الواضح شرهم. فهم بخداعهم يؤدون بالأمة إلى المهالك والهزيمة والهوان بدون أن تشعر، ويكونون سببًا فعالًا في تحقيق التمكين لأعداء المسلمين.

ولهذه الخيانة العظمى الخفية صور كثيرة مـن أخطـــرها حاليًا تضييع الأمة عن طريق قنوات ووسائل إعلام ميَّعت على الأمة أحكام الدين وتمسكها الحق به، فهي مليئة بالمحرمات صغرت أو كبرت، بدءاً من ظهور النساء متبرجات وانتهاءً بطامَّات وطامَّات. وتعرض هذه المنكرات وكأنها أمور جائزة شرعًا مما يجعل الأمة بملايينٍ من أفرادها تعيش حالة استمرارٍ في المعصية التي بلا شك تؤخر نصر الأمة وتطيل تمكين أعداء الدين، فأمتنا لا يتحقق لها النصر الحقيقي ومنكرات لا يرضاها الله تعرض جهارًا ليلًا ونهارًا ويشاهدها مئات الملايين من المسلمين. هذا عدا الدور الإفسادي الأخلاقي الكبير الذي قامت وتقوم به الكثير من وسائل الإعلام هذه حتى أضلت الكثير من أبناء أمتنا خاصة الشباب "عماد الأمة" وأدت بهم إلى الغرق في أشكال كثيرة من أنواع المجون والفساد والشهوات. وأيضًا عدا إشغالها لأبناء الأمة عن الاهتمام بمعالي الأمور وعن التذكر الجاد والعمل لإنقاذ الأمة من مآسيها وآلامها في هذا العصر الذي تعيش فيه فترة من أحلك فتراتها والفترة الأكثر ذلًا على مدى تاريخها كما يذكر ذلك العديد من مفكري الأمة وعلمائها. فترة لا زال فيها الأقصى أسيرًا منذ عشرات السنيين وفترة شهدت مظاهر ذل وقتل وإبادة لم يسبق لها مثيل, ومنها حصار واضطهاد شعب مسلم بأكمله يموت موتًا ويقتل قتلًا رهيبًا والأمة ترى وتشاهد. وسيسجل التاريخ أن هذه الوسائل ضيعت شبابنا وألهتهم بالغناء وبلهو قاتل مُضيِّع بينما الأمة في وضع مأساوي مؤلم وواقع خطير.

ولا شك في أن لأعداء الدين يد في مثل هذه الظواهر، ولكن كما يقال ليتها كانت عن طريقهم مباشرة ولا أن تكون على يد أبناء من أبناء الأمة فتتخدر الأمة وتضيع بدون أن تشعر بخطورة وجسامة جرم ما يقدم لها ومن يقدمه.

ووسائل الإعلام خاصة المرئية أصبحت أقوى المؤثرات في حياة الشعوب في عصرنا، وكما أصبح يقال: "الناس على دين إعلامهم"، وبإمكانها أن تحيي الأمم وتقودها إلى كل خير بإذن الله، أو أن تخدرها وتقتلها وتبعدها عن طريق تحقيق فلاحها وعزها.

ومن الآثار الخطيرة جدًا لهذه الخيانة الخفية أنها بتعويدها للأمة على كسر أحكامٍ للدين والتساهل والتهاون في أوامر شرعية متعلقة برؤية ما يعرض ويشاهد فيها من المحرمات تُجَرِّئ الكثير من أفراد الأمة على التساهل بالمعاصي وضعف التمسك بأمور الدين في جوانب أخرى في الحياة، وذلك معروف ومتوقع شرعًا وعقلًا فعندما يقل الخوف من الله في أمر معين يسهل على الفرد والمجتمعات مخالفة الأوامر الشرعية في جوانب أخرى، فالقلوب تقسى والران الناتج بسببها يؤثر على الكثيرين. وبذلك تكون مثل هذه الوسائل قد خدمت أعداء الدين أيما خدمة بمساهمتها الهامة في إضعاف الخوف من الله وتسهيل المعاصي التي هي أساس كل الذل والهوان والهزيمة التي نعيشها، فيضمن بذلك أعداء الدين استمرار سيطرتهم علينا وإذلالهم لنا.

بل إن الأثر لها أكبر من ذلك فالأمم التي يحكمها ضابط الدين والعقيدة والخوف من الإله ثم تربى على كسر هذا الضابط خاصة عندما تكون مدركة أن ما تقوم به يتنافى معه لا تضبطها بسهولة الضوابط المادية الأخرى، ولعل هذا مما يفسر العديد من حالات الفوضى وعدم النظام والالتزام بالنظم المادية العامة في مجتمعات المسلمين.

ووسائل الإعلام المخالفة للشرع تربي المسلمين بطريقة عملية لا فقط نظرية على التهاون في أوامر الشرع؛ فهي تقدم المنكر وما يحرم مباشرةً ليرى ويشاهد، فليت الأمر كان فقط غزو وإفساد فكري بل هو غزو سلوكي أخطر من الغزو الفكري كما يعرف في أساسيات التأثير الإعلامي.

ومما يزيد التخدير عن هذه الخيانة أن أصحابها والمسؤولين عنها في الوقت الذي هم فيه من أهم أسباب ذل الأمة وعون أعداء الدين عليها شعروا بذلك أو لم يشعروا يأتون ويتكلمون عن إنقاذ المسلمين ومقدساتنا المستباحة ودمائنا المهدرة. فهم بالفعل ممن ينطبق عليهم القول "يقتلون القتيل ثم يمشون في جنازته!"، ولو سلمت أمة الإسلام من شرهم لكان حالها غير هذا الحال في شتى الأمور.

وسأعيد هنا وضع الكلمة الرائعة الهامة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله، التي حقًا تستحق أن تكتب بماء الذهب والتي كثيرًا ما أحب أن أنقلها وأذكِّر بها.

يقول الشيخ رحمه الله في هذه الكلمة:

"إن الدين بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس ضمانًا للآخرة فحسب أنه أضحى سياج دنيانا وكهف بقائنا.

ومن ثم فإني أنظر إلى المستهينين بالدين في هذه الأيام على أنهم يرتكبون جريمة الخيانة العظمى، إنهم دروا أو لم يدروا يساعدون الصهيونية والاستعمار على ضياع بلدنا وشرفنا ويومنا و غدنا!! فارق خطير بين عرب الأمس وعرب اليوم، الأولون لما أخطؤوا عرفوا طريق التوبة، فأصلحوا شأنهم، واستأنفوا كفاحهم، وطردوا عدوهم" (3).

وعلى وجه العموم فليس كل من يشارك في تقديم وتسهيل هذه الخيانات يقصد ذلك، وبعضهم لم يشعر بأنه يساهم بعمله في عون الكافرين وإطالة مأساة ومعاناة المسلمين، ولكن هذا ليس عذر له فما يقوم به باطل ومحرم من أساسه، وخاصة إذا كان ممن قدم له النصح والتذكير.

وعودًا على دورنا نحن أفراد الأمة الآخرون تجاه هذه الخيانة؛ فأقل القليل ألا نساهم في تحقيق أثر هذه الخيانة ونكسب إثمًا ونؤخر نصر الأمة بعدم مقاطعتنا هذه القنوات وبمشاهدتنا ورؤيتنا لهذا الحرام الذي خدعونا به فظنناه حلالاً لا تغضب مشاهدته واستحلاله الله رب العالمين.

نسأل الله العظيم الكريم أن يهيئ لأمتنا أمر رشد تنصلح فيه أحوالها وتوقف فيه الخيانات وما يفسد الأمة ويبعدها عن التمسك الحق بالدين، فيعود عزنا ويحرر أقصانا الأسير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــ

(1) د/ عبدالرحمن العشماوي من ديوان "يا أمة الإسلام".
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.
(3) من كتابه إلهام "حصاد الغرور".

المصدر: موقع يوم القدس العالمي