الإمام أحمد حسم وتوازن.. وتجديد بالوحي(2)

مدحت القصراوي

كان يرى أنه لم يتم مهمته بعد، ولم تتم له النجاة بعد، وكان دائم الخشية من حبوط العمل.. إلى اكتمال خروج روحه إلى ربه تعالى.

  • التصنيفات: أخبار السلف الصالح -

حافظ الإمام أحمد على الدين وحفظ أصوله ومصادره وحفظ علم وعمل السابقين من حيث عدالتهم ونقلهم للعلم وللمصادر المعصومة، ومن حيث عملهم وتطبيقهم لما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث علما وعملا؛ فواجه الجهمية والباطنية والرافضة الذين اعترضوا على المصادر المعصومة وعلى القرون المفضلة إما بتجهيلهم وإما بتفسيقهم أو تكفيرهم!.

ومع هذا الدور الكريم كان يقوم بواجب حفظ ناموس الخلافة.. فميّز َحالَ الخلفاء في زمنه وميّز كونهم مقلِّدة لأقوال الجهمية وأن حكمهم مختلف عن الدعاة الى البدع، كما أنهم لا يلتزمون لوازم أقوال البدعة، بل لا يعرفون هذه اللوازم.

أوضح الحق وناظر عليه، وعلّمه ونشره، وعرف الشُّبهات وفنّدها ورد عليها،وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان أعلم بشُبه أصحاب الشبهات أكثر من غيره من الأئمة..

كما جمع ما لم يجمعه غيره من أقوال أهل الحق من سلف الأمة والقرون المفضلة في أمر العقائد وقضايا الوفاق والخلاف على السواء، سواء في الإيمان أو في الأسماء والصفات وقضية خلق القرآن والرؤية وغيرها، أو في أبواب الجماعة والإمامة..

وقبْل كل ذلك الحفاظ على مصدرية الوحي؛ فحدد قواعد القبول والرد وأنها ليست الموافقة لقواعد أرسطو وأفلاطون بل موافقة نصوص الوحي، وهي بطبيعتها غير مخالفة للعقل الصريح بل ما يخالف الوحي فهو من توهّم العقل، وأن الوحي (جاء بما تحار فيه العقول لا بما هو محال في العقول).

*  *  *
كان الخطر على الإسلام من داخل المجتمع متمثلا في الصيال على العقيدة بالفلسفة والكلام والمنطق الأرسطي، كما كان الصيال عليها بالخطر الباطني والحركات المنبثقة منه كحركة بابك الخرّمي وغيره،كما كان الصيال على الأحكام بتأويلها ـ كما فعل الباطنية حتى انكشف أمرهم بعد ذلك كالقرامطة والنصيرية ـ حتى يندرس الإسلام بالتأويل الباطل. والمشترك في كل هذا الاعتراض على النصوص بما يُظن أنه عقلي، أو تأويله بكل ما يحتمله اللفظ المفرَد لا بما يريده المتكلِم به..

كما حافظ على شأن الخلافة وسلطانها وأدرك المخاطر حولها وعليها؛ فحافظ عليها وجمع الناس حولها، مع تجنب مظالمها والتورع عن أموال المحاباة..

لقد كان مرادا للإسلام أن ينتهي مبكرا، من قِبل الحركات الباطنية والقوى المختلفة من الداخل، مع مواجهته المستمرة للروم البيزنطيين من جانب والوثنيين من جانب آخر.. لكن وقف الإمام أحمد يقرر قضايا العقيدة ومصدرية الوحي، والحفاظ على المجتمع من البدع، والحفاظ على باب الجهاد والرباط ليستمر ويؤدي دوره.

لقد كانت عدة خطوط مطلوبة للحفاظ على الإسلام والأمة وسلطانها القائم وجهادها المستمر، وتجنيبها البدع وسدّ الثغرات التي من شأنها أن تفحش وتستفحل وتودي بالإسلام.. كما ربط الأمة بنبعها الأول، فكان دوره شبيها بالصدّيق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه بأن رد الناس الى ما ترك عليه النبي أصحابه.. لكن في باب العلم وبيان الحق.

*  *  *
ومع وقوفه لم يُعجَب بنفسه فيخرج عن حال العبودية بل كان الافتقار والتعبد، والصلة بالله وشدة الحساسية ودقة المتابعة ومعرفة أقدار الناس والعلماء وإنزالهم منازلهم ومعرفتهم والارتباط بهم والمراسلة لكل من يعلم عنه الخير..

مع الارتباط بالله تعالى والحفاظ على حال الخوف منه والافتقار إليه إلى اللحظة الأخيرة؛ حيث كان يرى أنه لم يتم مهمته بعد، ولم تتم له النجاة بعد، وكان دائم الخشية من حبوط العمل.. إلى اكتمال خروج روحه إلى ربه تعالى.

أنزله الله من القلوب وأنزله من التاريخ وأنزل أقواله وفتاواه منزل القبول، وهو الذي كان يرفض أن يُكتب كلامه ويقول من أنا حتى يُكتب قولي؟

يقول ابن القيم فلما علم الله تعالى حُسْن نيته سخّر له من جمع قوله حتى أربى عشرين مجلدا؛ فرحمه الله..

لم يغفل عن مواجهة قضية الوقت ولم يتلق ترتيب قضاياه ومصطلحاته من أعداء هذا الدين ـ كما يفعل الكثير اليوم ـولم يسترض قوى الأرض؛ بل تلقى ما يجب عليه من الوحي الكريم، فكان علامة فارقة لا يزال يحيا بيننا إلى اليوم.

فاللهم ارزق أمة محمد بهؤلاء الكرام الخيرين..

وأختم بموضعين من ثناء الأئمة عليه:
الأول قول الأمة عنه (رحمه الله؛ عن الدنيا ما كان أصبرَه، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها وأتته البدع فأباها).

والثاني قول شيخ الإسلام ابن تيمية (فإن الإمام أحمد صار مثلا سائرا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم حتى صار اسم الإمام مقرونا باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد. هذامذهب الإمام أحمد. لقوله تعالى {وجعلنامنهم أئمة يهدون بأمرنا لماصبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فإنه أعطي من الصبرواليقين مايستحق به الإمامة في الدين. وقد تداوله " ثلاثة خلفاء " مسلطون من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لايحصيهم إلاالله. فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ماشاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض - حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم: من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام: لم يظهر أحد ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل) مجموع الفتاوى (12/ 438 -439).

يجب استحضار دور الإمام أحمد اليوم في هيئة جماعية لأهل العلم ليقوموا بدورٍ مفصلي في تاريخ الأمة اليوم ليسدّوا ثغرة عظيمة لئلا تنهار الأوضاع أكثر مما عليه الآن؛ فنصبح أثرا بعد عين.. والله العاصم.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام