المدارس الأمريكية في مصر.. سلاح علمي في معركة سياسية مغلفة بملامح ثقافية
ملفات متنوعة
يعيش الكثير من الدول العربية، وبينها مصر، ما يوصف بالهجمة الأجنبية
لإنشاء مدارس لتعليم لغات مختلفة، تحت ستار توطيد الأواصر الثقافية أو
تطوير العلاقات السياسية..
- التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -
يعيش الكثير من الدول العربية، وبينها مصر، ما يوصف بالهجمة الأجنبية لإنشاء مدارس لتعليم لغات مختلفة، تحت ستار توطيد الأواصر الثقافية أو تطوير العلاقات السياسية.
لكن مهما كان الستار أو الغرض، فهو في النهاية يحمل مجموعة كبيرة من النتائج التي تؤثر على الثقافة المحلية، ويؤدي الاتجاه الغربي بالتوسع في عدد المدارس إلى نشر صفات وخصال قد تضر بالهوية الوطنية.
من هنا يأتي فتح ملف المدارس الأجنبية في مصر، لإلقاء الضوء على أحد التوجهات الصاعدة، والتي أصبحت تنمو بسرعة فائقة.
وربما تكون البداية بالمدارس الأمريكية، على اعتبار أنها الأكثر جرأة ونموًا وانتشارًا، ويملك هذا النوع من القوة الناعمة من الجذور ما يضرب في أعماق التاريخ الحديث، ويجعل المستقبل مفتوحا في مصر وغيرها من الدول الغربية.
هذه المدارس تخضع لإشراف هيئات أمريكية تطبق عليها مقاييسها وأهدافها، ولا تتمتع برقابة مصرية كبيرة عليها، إلا إشرافًا صوريًا فى المرحلة الثانوية. حتي إن تقييم كتب تلك المدارس في مصر من قبل إدارة المعادلات المصرية هو تقييم ذاتي، ولا توجد معايير أو مقاييس مكتوبة يمكن الرجوع إليها، حيث تعتمد على ثقافة الخبير المراجع للكتب دون متابعة دقيقة وعميقة من قبل وزارة التربية والتعليم.
مناهج المدارس الأمريكية تختلف عن غيرها من المناهج الأجنبية الأخرى؛ لأنه لا يوجد منهج قومي رسمي للتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، بل تقع مسؤولية المناهج وتخطيطها وتطويرها على عاتق إدارة التعليم مع إتاحة الفرصة للولايات المحلية والمدارس بالمشاركة.
يشارك في إعداد المناهج الأمريكية وتطويرها مجموعة من أساتذة الجامعات المتخصصين في التربية، إضافة إلى مديرى المدارس والمعلمين ومجموعات متباينة ذات اهتمامات تجارية.. وهم بالأساس منتجو الكتب والمواد التعليمية، والوكلات القومية للاختبار، وأولياء الأمور، والطلاب في بعض الولايات.
كانت المناهج الأمريكية في أيامها الأولى تتميز بالتأثير الديني القومي، ثم تحولت إلي مناهج تعليمية مدنية والنظر إلى التربية وإعداد الناشئ للحياة في المجتمع المدني والصناعي، لذا أصبح لكل مرحلة دراسية توجهها الخاص المؤثرة على الطلاب طبقا لتوجهات السياسة العامة في غرس سلوك الصحة والعادات العامة.
هذا بالنسبة لمرحلة التعليم الأساسي، أما بالنسبة للمرحلة الثانوية، فتتميز مناهجها بالتنوع، حيث يختار الطالب برنامجا دراسيا من البرامج التي تعدها المدرسة وهي برامج الالتحاق بالكليات وبرامج عامة وبرامج في إدارة الأعمال وبرامج في التعليم التقني.. علاوة على مجموعة من المواد الاختيارية.
في آخر وثيقة مقارنة بين النظام التعليمي الأمريكي والنظم التعليمية الأخرى أوضحت الوثيقة أن النظام التعليمي الأمريكي لم يستجب بشكل مناسب للتحديات الجديدة، مما أدى إلى تراجع ترتيب الولايات المتحدة إلى المرتبة (25) لمواردها البشرية دون الـ(15) سنة، وذلك في مجال الرياضيات وإلى المرتبة (21) في العلوم، ورغم ذلك لم تحرص الإدارة على تطوير مناهجها بل حرصت على نشرها في الكثير من الدول العربية.
كانت على رأس هذه الدول مصر؛ حيث كشفت مارجريت سكوبي السفيرة الأمريكية في مصر عن عزم الإدارة الأمريكية إنشاء العشرات من المدارس النموذجية بالقاهرة والإسكندرية بمناهج وإدارة أمريكية كاملتين، وذلك بتمويل من المعونة الأمريكية، وبالاتفاق مع وزارة التربية والتعليم.
وقالت إن الدراسة بتلك المدارس ستكون بالمجان، وأوضحت أن الهدف من ذلك هو تخريج مئات الطلاب سنويًا، ليكونوا نواة لقاعدة طلابية متوافقة مع أحدث الأساليب المتبعة بالولايات المتحدة، وبالفعل افتتحت أولى هذه المدارس المجانية والتي ستعقبها العشرات كما قالت سكوبي في الفترة القادمة.
بذلك يبدو أن التاريخ يعيد نفسه في تحقيق مخطط التغريب وإقصاء اللغة العربية والتاريخ العربي والإسلامي.. لكن بطريقة مختلفة، من خلال إنشاء عدد من المدارس الأمريكية المجانية التي تؤسس قواعد فكرية لها ولأفكارها بين الأجيال القادمة.
عندما سقطت مصر في يد الاحتلال الإنجليزي عام 1882، سألت انجلترا رجلها الأول (اللورد كرومر) عما يلزمه لإحكام السيطرة على البلاد؟
فأجاب (كرومر) بأنه سيترك لندن ويقيم في مصر لهذا الشأن، وبدأ في تحديد أهدافه وحدد طلباته وقدمها للقيادات، ولكن ما أثار دهشة القيادات هو أنه لم يطلب مزيدا من السلاح ولا الجنود، وإنما طلب منهم خبراء في التربية والمناهج!
في هذه اللحظة أدركوا هدفه الرئيسي لهذا الطلب فزودوه بالخبير مستر دنلوب الذي ظل مسيطرا على التعليم في مصر وصاغ مناهجها وفقا لأهدافهم، ويعد دانلوب هو واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية باعتبار أن التعليم والتربية لهما أكبر الأثر في مخطط التغريب وجوهر هدف الاستعمار الأساسي.
عن هذه الفترة الزمنية قال العالم الكبير الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- الذي خاض الكثير من المعارك للحفاظ علي هويتنا العربية في مواجهه نظرية التغريب، في كتابه (أباطيل وأسمار): "تخريج أجيال متعاقبة من تلاميذ المدارس الأجنبية، يرتبطون ارتباطا وثيقا بهذا التحول نحو الإعجاب المزهو ببعض مظاهر الحياة الأوروبية، ونَقد مظاهر الحياة في بلادهم، مع الإيمان بأن ما أعجبوا به عند الغرب هو سر قوتهم، وأن ما عندنا هو سر ضعفنا".
وفي عام* 1938* صدر لطه حسين كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) حيث تحدث فيه عن مستقبل الثقافة المصرية.
وقد تبلورت أفكار الكتاب فى ضرورة تحديد الاتجاه الذي سيكون عليه مشروع مصر الثقافي للمستقبل،* وعلى الرغم من تحمس طه حسين لضرورة ارتباط الثقافة المصرية بثقافة الغرب إلا أنه شن حملة علي التعليم الأجنبي في مصر، وندد بانفصال هذا التعليم عن واقعنا المصري،* وطالب بمراقبة الحكومة للمدارس الأجنبية،* والتوسع في إدخال مناهج اللغة العربية والتاريخ الديني في هذه المدارس، إضافة إلى مطالبته بضرورة أن يدرس الطلاب جميع عناصر الثقافة القومية.
وقد دعا طه حسين في كتابه للأخذ بالديمقراطية الغربية في السياسة، *واتباع الأساليب الغربية في التعليم والاقتصاد،* وربط ذلك بأن اتباع أسلوب الغرب يساعد علي الاستقلال عنه، خاصة أن الاستقلال ليس سياسياً فقط وإنما بتكوين ثقافة تنشأ علي العلم والقوة.
وأخيرا صدر تقرير لروبرت سالتوف مدير قسم السياسة والتخطيط الإستراتيجي، والمدير التنفيذي السابق لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي يعد أحد أبرز "بنوك التفكير" الأمريكية المؤثرة في صوغ السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وهو من المراكز المعروفة والمقربة من المحافظين الجدد، قال فيه "إن المدارس الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية ليست مجرد صروح تعليمية رفيعة المستوى، بل هي سلاحنا السري في معركة أمريكا الأيديولوجية لأمركة المجتمعات العربية والإسلامية".
الغريب أنه لم يدرك أحد لكل هذه التقارير والحقائق الخاصة بقضية التعليم الأمريكي وانتشار في مصر لهذه الدرجة.
أليس انتشار تلك المدارس استعمارا تربويا؟!.. ألم تكن هذه المدارس هي السلاح السري في معركة الأمريكية الأيديولوجية لأمركة الفكر المصري؟!.. ألا تنتج هذه المدارس طلابا بعيدين عن الثقافة واللغة والدين والتاريخ الوطني؟!.. ألا تتجاهل تلك المدارس التاريخين العربي والإسلامي، وتدرس كتبا تخالف تاريخ وتقاليد وعادات مجتمعنا؟!
في المقابل لماذا لا نلوم مدارسنا الحكومية قبل انتقاد المدارس الأجنبية واستقبال أعداد مجانية منها؟!
ألم يكن التعليم المصري القديم هو النواة التي أخرجت للعالم النماذج الفكرية والعلمية الرائعة؟!.. علماء ومفكرون وأطباء وصلوا إلى أقصى مراحل العلم من خلال التعليم الحكومي.
-بتصرف يسير-
المصدر: سارة رمضان - جريدة الأهرام المصري