مسلمو إثيوبيا... احتجاج نعم... ثورة لا

أمير سعيد

كشفت مظاهرات المسلمين الراقية عن حيوية شعبية، ووعي بدأ يسري في الأغلبية الأورومية.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

بواقعية شديدة، لم يوفر العداء الإثيوبي فييسا ليليسا وقتًا بعد رفعه يديه متقاطعتين كإشارة احتجاجية رمزية على معاناة شعب الأورومو المسلم المضطهد في إثيوبيا، بعد فوزه مباشرة بالميدالية الفضية في سباق عدو بأولمبياد ريو دي جانيرو؛ فقد بدأ في تجهيز أوراقه لطلب اللجوء السياسي في الولايات المتحدة إنطلاقًا من البرازيل التي سيظل بها لمدة شهرين ريثما يكمل تجهيز أوراقه -بحسب وكالات أنباء- فالشاب الذي صرح بأنه قد يواجه الإعدام في بلاده إن عاد إليها بعد إشارته تلك يدرك جيدًا أن إشارته تلك لن "تلفت أنظار العالم إلى معاناة الأورومو" مثلما يتم ترديد مثل هذا في حوادث مشابهة، وإنما ستجعله يقع فريسة الاستبداد المحلي والنفاق العالمي؛ فاختصر طريقه مهاجرًا لاجئًا.

لا يملك أكثر من ستين مليون مسلم إثيوبي فرصة مماثلة لطلب اللجوء إلى بلاد تتوافر فيها ظروف أفضل من تلك التي يعيشونها في بلادهم، لكن يملك بعضهم شجاعة للقيام بمناورة احتجاجية على ممارسات أقلية التيجراي المسيحية التي تضطهد الأغلبية وتهمشها، شأنها كمعظم بلاد المسلمين التي فرض الغرب والشرق عليها حكمًا أقلويًا، يعمل على تدجين الأغلبية.

خلال شهور ماضيات، اندلعت احتجاجات من نشطاء الأغلبية الأورومية ضد سياسة التهميش بصفة عامة، ومشروع توسيع حدود العاصمة أديس أبابا بصفه خاصة؛ فالمشروع الذي تحاول حكومة هيلا ميريام ديسالجين فرضه على ولاية أوروميا التي انتزعت منها العاصمة الإثيوبية قبل 130 عامًا عندما احتلها الإمبراطور منليك الثاني، وبدأ منذ ذلك الحين عملية تغيير هوية القرية الأورومية؛ فسكنتها أقليات أخرى "مسيحية" وفرضت عليها الأمهرية، وهُجِّر مزارعو الأورومو المسلمون من معظم ضواحيها. والآن، ومع مشروع توسيع حدود العاصمة وضم أراضي جديدة للمزارعين الأوروميين إلى المدينة، وفسح المجال أمام المستثمرين لبناء مشروعات جديدة على أطرافها؛ فإن الأورومو المزارعين قد أضحوا في تهديد معيشي حقيقي، هذا علاوة على أن المشروع الجديد سيزيد من غربة المسلمين في أديس أبابا، وهو ما تم تنفيذه في العديد من العواصم الإفريقية التي كانت مسلمة فتغيرت لمصلحة غير المسلمين (آخر تلك العواصم كانت بانغي، عاصمة إفريقيا الوسطى التي تحولت من عاصمة مسلمة إلى "مسيحية" عبر سلسلة من عمليات "التهجير القسري").

في منتصف أغسطس الحالي، كانت الأنباء تأتي خجولة من إثيوبيا بأن أكثر من خمسين قد قتلوا أثناء قمع السلطات لمظاهرات الأورومو السلمية المحتجة على هذا المشروع الذي ينهب أراضيهم بأطراف المدينة وخارجها، ومن قبل تحدثت منظمة هيومان رايتس ووتش عن أكثر من 400 أورومي (مسلم) قد قضوا بخلاف مشات آخرين قد أصيبوا نتاج قمع السلطات لاحتجاجات الطلاب والمزارعين خلال عام.

ليس معلومًا ما إذا كانت تلك الأرقام صحيحة أم أنها تفوق ذلك، لكن المؤكد أن العالم يغض الطرف عن هذا القمع الوحشي الذي تمارسه حكومة يصفها الرئيس الأمريكي بالديمقراطية، والمؤكد أيضًا أن تلك الحكومة لن تأبه باحتجاجات المسلمين ما بقيت سلمية، وهي الحالة التي يحفز عليها "المجتمع الدولي" المظلومين ثم لا يهب للدفاع عنهم.


بأي حالٍ، كشفت مظاهرات المسلمين الراقية عن حيوية شعبية، ووعي بدأ يسري في الأغلبية الأورومية التي تتجاوز نصف عدد سكان إثيوبيا، كما كشفت عن ثبات الأسلوب القمعي الذي تنتهجه السلطات "المسيحية" تجاه مسلمي إثيوبيا، والذي عززته بفرض الأحكام العرفية وأبرزته بتوسعها في سفك دماء المدنيين السلميين، سواء أكانت حكوماتهم تنتمي إلى أقلية "الأمهرة" أم "التيجراي". وكذا، كشفت عن تصاعد في الغضب الشعبي للمسلمين بدأ يسلك الطريقين معًا، السلمي، الذي تقدمه احتجاجات الطلاب هذه، وعسكرية اعتيادية، تؤمه جبهة تحرير أورومو وحركة استقلال الأورومو وجبهة تحرير الأورومو والجبهة الإسلامية لتحرير أوروميا، ويضم تجمعات أخرى، أعلن بعضها تحالفهم قبل عشرة شهور بغرض توحيد الجهد التحريري لأوروميا، الولاية التي تتوسط إثيوبيا وتحيط بالعاصمة أديس أبابا، تمهيدًا لتصعيد العمل العسكري ضد أقلية التيجراي الحاكمة (6% من سكان إثيوبيا)، وربما إطلاق عملية للزحف على العاصمة الإثيوبية مثلما تؤكد بعض التقارير من هناك، لاسيما بعدما بدأ الغضب يشتعل عند الأقلية الأمهرية التي كانت تحكم إثيوبيا على مدى عقود طويلة.

وإذ هدأت الاحتجاجات بعد موجة من اندلاعها قليلًا، إلا أنها تظل مرشحة للتفجر في أي وقت؛ حيث جميع شروط اشتعالها متوفرة، وهذا مقلق للحكومة الإثيوبية التي يهيمن عليها التيجراي.. مقلق أيضًا لمن يخشون من تفجر احتجاجات بشكل شامل في بلد قوي، يقف الغرب خلفه بكل قوته، لاعتباره القوة الأبرز في القرن الإفريقي كله، ونقطة ارتكاز أمريكية مهمة في إفريقيا، وواحد من ثلاث دول هي الأكثر كثافة للسكان في إفريقيا (مع نيجيريا ومصر)، وبالتالي؛ فإن المعادلة الحاكمة اليوم قد تسمح باحتجاجات مطلبية في إثيوبيا، لكنها لا تسمح بثورة شاملة أو زحف مسلح. هذا، بالنظر إلى معطيات المنطقة لا يمنح الغاضبين من الأورومو مساحة شاسعة للإحتجاج، وفي ظل موازين ليست في صالح المسلمين في المنطقة كلها؛ فإن تثوير الاحتجاجات تصبح مغامرة غير محسوبة لا حاجة لخوضها الآن؛ فالاستكانة -وإنهاء الاحتجاجات- مفضية للتراجع والانكماش للمسلمين، وهذا بالطبع غير مطلوب الآن، ولا الثورة الشاملة أيضًا من جهة مقابلة.

الخلاصة، لا تثوير احتجاجات المسلمين بإثيوبيا مناسب في ظل التداعي العالمي على قصعة المسلمين بالمنطقة، ولا وقفها مجدٍ، والتوسط بينهما هو الأولى.