لا تطفؤوا المصابيح
أهل العلم والدعوة، مصابيح الأمة، الذين يستحقون أن نلْتف حولهم، وننتصر لهم.
- التصنيفات: الدعوة إلى الله - طلب العلم -
نسب أبو حامد الغزالي في الإحياء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوله:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلّاءُ
وقدْر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فَـفُـزْ بعلمٍ تـعـشْ حيا به أبـدًا *** الناس موتى وأهل العلم أحياءُ
صدق والله، فأهل العلم بيننا أحياء، وسِيَرهم تجوب الآفاق، وتراثهم بيننا نلمسه غضًّا طريًّا، لا تزال كلماتهم حية تترد على الألسنة، ينتفع بها الأنام بكرةً وعشيا.
وإن تعجب فعجب أمرهم، لم يكن علمهم إختزان وأرشفة للمعلومات في العقول، إنما كانت علومهم حركة وتغييرًا وإصلاحًا وإعمارًا، فبارك الله لهم في أعمارهم وما سطّرت أقلامهم، فهذا الإمام النووي أهدى للأمة كتابه (رياض الصالحين)، بالرغم من أنه كتاب بسيط حشد فيه جمعًا من الأحاديث النبوية وبوّبها، في عمل ربما كان بوسع أي طالب علم أن يأتي بمثله. لكنك تعجب من أنه لا تكاد تخلو منه مكتبة، وشهرته بلغت الآفاق، فلا يستطيع المرء أن يجد تفسيرًا لشهرته مع بساطته، سوى أنها بركة الإخلاص.
رجل مثل ابن تيمية رحمه الله، عندما تطالع مؤلفاته تنال منك الحيرة، فما من فرع من فروع العلم إلا وتجد له فيه بصمة، وتراه عليه عَلمًا، ولم يكن علمه حبيس القاعات والمساجد، وإنما كان نضالًا بالفكر والقلم، بل وبالسيف لمقارعة الغزاة، حتى قال عنه المفكر الإسلامي محمد عمارة: "هو واحدٌ من أبرز المُجدّدين في عصره؛ إذ جمع إلى الاجتهاد والجهاد ضد الغزاة -بالفكر والسيف- تقديم مشروع فكري لتجديد الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية".
ولست في هذا المقام للغوص في أعماق تلك النماذج العلمية البراقة، بقدر مناقشة مسألة دخيلة على العقلية الإسلامية، وهي ضياع هيبة العلماء في الأمة لدى الشعوب، والتي تقول بلسان الحال: "زمن العلماء قد ولّى، هم في هذا العصر غثاء لا يستحقون مثقال ذرة من ثقة".
لم يشهد ذلك العصر انصراف الناس عن الإلتفاف حول أهل العلم فحسب، وإنما صار الطعن والتجريح فيهم هو اللهجة السائدة، فتم اغتيال العلماء بمقصلة الأحكام الجائرة. اغتيل أهل العلم الثقات عندما أخذوا بجريرة غيرهم من المنتسبين إلى العلم، ممن باعوا الدين بالدنيا، واقتاتوا على التزلف للظالمين، وتكسبوا من وراء تفصيل الفتاوى، فكانوا عرضة لآفة تعميم الأحكام.
إن وجود هذه الكثرة من العلماء المنتسبين زورا للعلم، لا ينبغي أن يُفقدنا الثقة في أهل العلم، ففي كل عصر لابد وأن تجد من أهل العلم الربانيين من ينافح عن هذه الشريعة، ويسعى للإصلاح ويحتاج دعم الحاضنة الشعبية، غير أنه لا يلزم أن يخضع العالِم لأحلامنا الوردية حتى ينال منا الرضا، ولا نطالبه بأن يعرِّض نفسه للتهلكة بشتم الحكام ليلًا ونهارًا ليثبت لنا أنه ليس من علماء السلطة.
العلماء العاملون الصادقون في كل مكان وزمان، وهذا ما كان يفقهه الإمام أحمد، إذ قال: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، وينهونه عن الردى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، ينفون عن دين الله عز وجل تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين".
برأيك أيها المتطاول على مصابيح الأمة، من يتصدى لكل هجمة فكرية على الإسلام ويُفنّدها؟ ومن يتعرّض لكل نازلة ويُفتي بشأنها؟ من فضح العَلمانيين والليبراليين؟ من بيّن للناس عوار المذاهب المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة؟ منْ غير أهل العلم والدعوة؟!
اغتيل العلماء بدعوى نبذ السلطة الكهنوتية وعدم تقديس الأشخاص، ويا لها من كلمات معسولة تهدف للتشغيب على أهل العلم؟ عبارات فضفاضة تثير الحساسية الشديدة لدى أصحاب الفكر المتحرر. ومن قال إن هناك في الإسلام حكما كهنوتيا؟ ليس العلماء ولا غيرهم ينوبون عن الله، لا طاعة لهم سوى ما حددته الشريعة، وفضلهم إنما هو لكونهم يحملون الشريعة، ويُبلّغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مصطلح “رجال الدين” ليس في قاموسنا الإسلامي، إنما هم رجال العلم، وورثة أنبياء الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درْهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ» (صحيح الترمذي).
معظم أصحاب هذا الاتجاه تأثروا بالمد التغريبي والعلماني، وأرادوا استنساخ تجربة أوروبا في الانقلاب على الحكم الكنَسي، عندما ثار الأوروبيون عليه لوقوفه حجر عثرة أمام التقدم العلمي، وللاستبداد الديني والسياسي الذي مارسه القساوسة، والاستيلاء على ثروات البلاد بسلطة الدين، فهم الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران، ويهبون أراضي الجنة لمن شاؤوا، وأما غضبهم فهو الجحيم في الأرض وفي الحياة الآخرة.
فلئن كان حال أهل الدين في أوروبا دفع الشعوب للثورة عليهم، فإن الإسلام كان منبع الحضارة والعلوم والمعارف التي نهل منها الغرب باعتراف المنصفين منهم أمثال جوستاف لوبون وغيره، ومن ثم لا ينبغي تحميل أهل العلم المعاصرين مسؤولية التخلف الناجم عن أوضاعٍ سيئة عامة وعوامل متضافرة هي ما صنع هذا الواقع الصعب. أهل العلم في الإسلام هم المبلّغون عن رسول الله، يشتركون مع الحكام في مصطلح "أولي الأمر"، فطاعتهم إذن تكون في غير معصية، ولا سلطة مطلقة في الإسلام إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
اغتيل العلماء عندما جعلناهم رمزًا للتخلف والرجعية، فصار توقير العلماء والالتفاف حولهم ضربًا من التخلف في عصر التكنولوجيا والفضاء والنووي. لقد أسهم في هذه الجريمة، الأنظمة العلمانية أو المتماهية مع النسق الغربي، عندما أطلقت وسائل إعلامها للنيل من العلماء، وعرضهم على شاشات الفضائيات للسخرية منهم والتندر عليهم، بعد اختيار شخصيات ضعيفة تتحدث باسم الدين، وتثبت فشلها في المناظرات والسجالات العلمية أمام العلمانيين والملحدين، وغيرهم.
وقامت الدراما العربية بدورها على أتم وجه، فعرضت أهل العلم في قوالب منفرة، ما بين إرهاب، وسطحية، وهوس جنسي، ونفاق، وتزلف للسلطان، وعقد نفسية، إلى غير ذلك من الأنماط التي تثير السخرية والاشمئزاز، وترسم صورة ذهنية سيئة عن أهل العلم لدى المشاهدين. وأظهروا أهل العلم في صورة المتخلفين الذين يجهلون واقعهم، ولا يتعاطون مع العصر الذي يعيشون فيه، وأنهم يعتبرون التقدم العلمي والأخذ بأسباب القوة والحضارة نوعًا من إهدار الوقت والجهد والمال والفكر فيما لا طائل منه.
اغتيل العلماء، عندما اعتبرناهم أشد خطرًا على الأمة ممن أرادوا تمييع هوية أبنائها، وعَمدوا إلى اختزال دينهم، وتذويب عقيدتهم، وتحريف منهجهم. ففتحت المنابر الإعلامية والسياسية أمام الرويبضة، بينما كممت أفواه أهل العلم، وتم الزج بهم في السجون والمعتقلات، لأنهم يقفون أمام النيْل من شريعة الإسلام، فلا أجد لتهمتهم وصفًا سوى ما قاله الأولون {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
إن أهل العلم الثقات في كل عصر مصابيح هذه الأمة، نحن أحوج ما نكون إليهم في زمن كقطع الليل المظلم، التبس فيه الحق بالباطل. يقول ابن القيم رحمه الله: "العلماء بمنزلة النجوم في السماء، يهتدي بهم الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب".
أهل العلم بيننا، هم في عصرنا وفي كل عصر، لم تخل منهم أمة محمد، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ألْفيْتُهم بذلوا للأمة الكثير. فمن ينسى إمام أهل الزمان الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، الذي نراه من بقية سلف هذه الأمة، بغزارة علمه، وطيب سَمْته، واهتمامه بقضايا المسلمين، وكثيرًا ما استوقفتني مواقفه في حل أزمات من يراسلونه من شتى بقاع العالم، ويقوم بذلك بنفسه، فإن لم يستطع استعان بأهل القدرة والمكانة.
ومن الذي طالع مؤلفات (ابن تيميةَ عصره) الشيخ ابن العثيمين رحمه الله، الذي كان مع سعة علمه مُلِمّا بقضايا عصره، وعلّمنا في كتابه الماتع “الشرح الممتع” عدم الجمود على المذهبية، يُذكّرنا بحال شيخ الإسلام الذي نهل من الفقه الحنبلي، لكنه لم يكن متعصبًا له ولا متقيدًا به، وكثيرًا ما خالفه إلى ما يراه أصوب.
وحدثونا عن الشيخ المفكر محمد الغزالي رحمه الله، الذي ترك لنا أثرًا لا يُنسى ولا يعلوه التراب، من الحديث عن قضايا الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية بأسلوب أدبي رصين، وأصبحت عباراته الجزِلة تُرصّع مواقع التواصل الاجتماعي. أطال الله بقاء فقيه العصر الشيخ يوسف القرضاوي، وحفظه للأمة، تعلمت منه وسطية الإسلام، وما من نازلة أو واقعة مستجدة، إلا ورأيتُ له نصيبًا من الإفتاء فيها، بعلمه الغزير بأصول الفقه والقواعد الفقهية، وما أسعد القطريين به إذ أكرموه على أرضهم، فظهر أثر نور علمه.
ومن لا يستطيع الحديث عن علامة موريتانيا الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي، الذي ما إن تسمعه وهو يجيب على مسألة حتى تتملكك الدهشة، فكأنه يقرأ من كتب مفتوحة، ولطالما استمتعت وأنا أصغي سمعي إليه وإلى آرائه الوسطية التي كسرت لديّ تقوقعي داخل القول الفقهي الواحد. لم أر أحدا يقاربه في طلاقة لسانه وحفظه الغزير، وسرده الشواهد كأنها تُقرأ من الكتب سوى الشيخ عبد العزيز الطريفي، فرّج الله كربه، ونفعنا بعلمه، عهدناه مُلِمّا بقضايا أمته المعاصرة، متعاطيا مع واقعها ووقائعها، قوّالًا للحق، صاحب فكر معتدل، ينبذ التطرف والإرهاب.
ومن لا يتطرق إلى المفكر والفقيه سلمان العودة، الذي لم يلتفت لمُحترفي التصنيف، ومضى في طريق دعوته، ليكون رجل الأمة الذي يتوجه بالإصلاح إلى البسطاء والعامة والمهمشين، وأخرج خطابه الدعوي إلى الفضاء الرحب. وأما الشيخ محمد العريفي، فهو جليس الشباب، قدّم لهم أنموذجًا فريدًا للشخصية العلمية التي تخرج من حيز جدران المساجد إلى منتديات الشباب، يعيش واقعهم، يتحرك في دوائرهم، ترك لدى قطاعات واسعة من المشاهدين انطباعًا بأن العلم والدعوة والتدين لا يعني التجهم والانغلاق والعزوف عن الفكاهة والبسمة والمرح، وصار كتابه (استمتع بحياتك) علمًا على دعوته التي توازن بين الدنيا والآخرة.
ولا أجد حاجة لأن أقرأ كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) لـ"ديل كارنيجي"، فمعلمي الشيخ عائض القرني قد أذهلنا بكتابه (لا تحزن)، الذي بيع منه عشرة ملايين نسخة في حدود علمي، وتُرجم إلى لغات عدة، إضافة إلى طيب سمْته، وطرحه الجذاب لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأشعاره الهادفة التي اشتهر بها. الشيخ نبيل العوضي، الذي كنا نتهادى محاضراته المسجلة في مدارس قريتي والقرى المجاورة، وتأدبنا وتربينا على دروسه ومنهجه في سرد القصص المعبرة. والشيخ عوض القرني الذي يبذل جهدًا دعويًا غير عادي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولطالما تعلمت منه الصبر على أذى هواة التجريح.
ضيق المقام حجب عني ذكر بقية الأجلاء، فهم ثلة من جمع غفير من أهل العلم والدعوة، مصابيح الأمة، الذين يستحقون أن نلْتف حولهم، وننتصر لهم، نسأل الله أن يحشرنا معهم بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
إحسان الفقيه