زواج المسلم من الكتابية في الغرب

الإسلام حين أجاز الزواج بالكتابية كان ذلك مبنيًا على الخضوع لأحكامه.

  • التصنيفات: فقه الزواج والطلاق - قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -

ذهب جماهير أهل العلم إلى حِل الزواج بالكتابية، وخالف في ذلك بعضهم، واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنه كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: "إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله"[1].

واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].

ووجه الدلالة أن الله تعالى حرم نكاح المشركات، والكتابية مشركة، فيحرم نكاحها.

وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10]، وهذا نهي عن إبقاء الكافرة في عصمة المسلم، فاقتضى النهي عن ابتداء نكاحها، والكتابية داخلة في مسمى الكوافر.

وقالوا أنه يُشترط بأن توحد الله عز وجل، ولا تشرك به شيئًا، ولكنها لا تتبع إلا موسى عليه الصلاة والسلام إن كانت يهودية، أو عيسى عليه الصلاة والسلام إن كانت نصرانية، فإن خالفت الإسلام، وأشركت؛ فإنها لا تحل، وهؤلاء راموا الجمع بين آية المائدة وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وبين آية البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].

فقالوا: إذا أشركت بالله ولو كانت يهودية، أو نصرانية؛ فلا تحل، وأما إذا كانت غير مشركة بالله، وإن لم تدن بالإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام فإنها تحل، وتكون الفائدة من قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] أنها غير مسلمة وحلت؛ لا أنها مشركة وحلت.

وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم من السلف والخلف، وعلى هذا الرأي إذا كانت النصرانية تقول بأن الله ثالث ثلاثة؛ فإنها لا تحل، ولو تدينت بدين النصارى، وكذلك اليهودية إذا قالت: عزير ابن الله؛ فإنها لا تحل لأنها مشركة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الآية ا {لْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] عامة، فكل من انتمى إلى دين أهل الكتاب فهو منهم، وقالوا: إن هذا مخصص لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] لأن آية البقرة متقدمة على آية المائدة، ثم هذا التعليل في الحقيقة عليل، لأن التخصيص لا فرق فيه بين المتقدم والمتأخر، لكن الدليل الواضح هو أن الله ذكر في سورة المائدة حل نساء أهل الكتاب، وحكى عنهم الشرك وكفرهم أيضًا قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:17] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]" [2].

قال ابن كثير: "وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأسًا، أخذًا بهذه الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، فجعلوا هذه مخصصة للآية التي في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221].

إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، وكقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]" [3]، "فالحاصل والذي عليه جمهور أهل العلم أن من تدين بدين أهل الكتاب، وانتسب إليهم ولو كان يقول بالتثليث فإنه تحل ذبيحته، ويحل نكاحه" [4].

وهذا مشروط بما في الآية الكريمة {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالإحصان، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، وقيل المراد: العفيفات.

قال ابن كثير: "والقول الأخير هو قول الجمهور، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: "حشفًا وسوء كيله"، والظاهر من الآية: أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25]" [5].

والذي يطلع على حقوق الزوجين في الغرب يخجل في الحقيقة من هذا القانون، ويترفع عن مقارنته، لا بالإسلام الذي هو شريعة ربانية؛ بل بالنظم البشرية في العصور الحجرية، إذ كلها تأنف من جعل الزوج ديوثًا يرى من يجامع زوجته فيباركه، أو يرى من يحبلها ولا حق له سوى نفقات الولادة، في الحقيقة أن الغرب فرغوا الزواج من معناه الحقيقي، وجعلوه رسمًا بلا معنى، وصورة بلا روح، وإلا فقولوا لي: "بماذا تمتاز الزوجة عن الأجنبية بالنسبة للرجل؟".

فالزوجة لا يلزمها في القانون الغربي أن تقدم لزوجها فنجانًا من القهوة والأجنبية كذلك، ولا يمكن لزوجها أن يجامعها إلا برضاها والأجنبية كذلك، وليس عليه أن يملي عليها رأيه والأجنبية كذلك، وليس له أن يمنعها الخروج من البيت والأجنبية كذلك، وليس له أن يمنعها معاشرة الرجال والأجنبية كذلك. وليس له أن يمنعها استضافة عشيقها في البيت والأجنبية كذلك، ولها أن تدعي أن هذا الولد من عشيقها لا من زوجها فينسب للعشيق، فأين حقوق الزوج في الغرب.

كل هذا سببه نظريتهم في المساواة بين الرجل والمرأة، ونظريتهم في احترام الحرية الشخصية، إضافة إلى أن القوانين الغربية فتحت بابًا عظيمًا من أبواب الفساد في صميم الجالية المسلمة، فإن الرجل لم يعد يستطيع أن يكلم زوجته كلمة واحدة إذ بيدها تطليقه، وأخذ نصف ثروته، وأكثر من نصف راتبه الشهري، إلى جانب استئثارها بحضانة أولاده، وإذلاله في المحاكم.

هذا بالنسبة للزوج، أما بالنسبة للأولاد؛ فإن الرجل مهما دفع لهم فإنه أبوهم، ومسؤول عنهم، وعن تأمين العيش الكريم لهم، ولكن المشكلة لا تكمن هنا؛ وإنما صلب المشكلة أن هذا الأب ليس له حظ من أولاده إلا أن يراهم ساعة في الأسبوع، ثم تستأثر الأم بسائر أوقاتهم، وتكون المشكلة أعظم إن كان المطلق مسلمًا والمطلقة كتابية، فإنها ستتأثر بتربيتهم على الكفر، وعادات الكافرين، فيدفع هذا المسكين نصف ثروته لامرأته الكافرة، وينفق عليها أكثر من نصف راتبه الشهري لتربي أولاده على الكفر، وعلى عداوة أبيهم وبغضه، وهو محروم من رؤيتهم وتربيتهم، ومن أنسهم ومودتهم، حقًا إنها طامة لا يعرفها إلا من ذاقها.

وللأسف هذا حال كثير من المسلمين في أوروبا الذين بادروا بالزواج من كتابيات طمعًا بالإقامة، والجنسية، والعمل، ورغبة بجمالها وشقارها، فانقلبوا بعد حين ليذوقوا مرارة الطلاق، ويدفعوا مالهم ودين أولادهم ثمنًا لهذا الزواج. ومنهم من تورط في الزواج، ثم أدرك مغبة الطلاق وما يجره عليه من خسارة في ماله وولده، فآثر الصبر على أخلاق الزوجة الغربية، وصار خادمًا عندها تسيره كيف تشاء، يتجرع كأس الذل والمهانة كل يوم، ولا يستطيع أن يشكو همه لأحد.

لقد رأيت في ألمانيا من مآسي المسلمين العرب ما يبعث على الحزن، ويوجع القلب، ولقد رأيت من يرى ابنته تصاحب الألماني الكافر، ولا يستطيع أن يتدخل في شأنها، ومن تأتي ابنته والصليب على رقبتها ولا يستطيع أن يتكلم، ومن تزوجت ابنته من كافر وليس له إلا أن يبارك هذا الزواج، ومن اتخذت امرأته عشيقًا ولا يستطيع إلا أن يكرمه.

نعم يا إخواني إن ما أخذه الغرب من المسلمين المهاجرين كان أكثر مما أعطاهم، ولو بدا لهم لأول وهلة أنه أعطاهم الكثير، وإن من ارتد وانحرف من أولاد المسلمين أكثر من الغربيين الذين دخلوا في الإسلام، وكان تأثيرهم فينا أكثر من تأثيرنا فيهم، وإن كان ديننا أعظم من دينهم لأننا جعلنا الدين من غير صدق، وهم صدقوا من غير دين.

ومن القصص المحزنة في ذلك: قبل حوالي شهر حصل في برلين أن صاحب محل تجاري من المسلمين انتحر بسبب الطلاق، فرضت عليه المحكمة أن يدفع أكثر من نصف مدخوله الشهري لمطلقته وأولاده، كما فرضت عليه أن يتخلى عن محله التجاري، حتى يباع، وتأخذ مطلقته نصيبها أي تقسيم ثروته المالية بينه وبينها على السواء، فلم يستطع تحمل هذا الأمر، فأقدم على الانتحار. إنا لله وإنا إليه راجعون.

ومن هذه الحالات: صديق لي تزوج بامرأة نصرانية، ولم يكن حسن الالتزام بدينه، وكانت هي أيضًا بعيدة عن دينها، ويسر الله لهذا الرجل أن تعرف على المسلمين الملتزمين على المسجد حتى أصبح من رواده، وأصبح داعية للإسلام، وكان له من زوجته خمسة أولاد لا تتجاوز أعمارهم السبع سنوات، وصار يحضرهم إلى المسجد، ويعلمهم الإسلام، وبدأت العداوة تكبر في صدر امرأته حتى اشتعل صدرها ببغض هذا الدين، ودفعها هذا البغض إلى الاقتراب من الكنيسة، والدفاع عنها، وكانت تثور في البيت المجادلات الدينية والتي لم تنته إلا بطلب المرأة الطلاق، وصدر الحكم بالطلاق، وكانت الأم قد أطلعت القاضي على سبب العداوة بينها وبين زوجها الذي انقلب إلى رجل متعصب بزعمها، ويريد أن يربي أولاده على الإسلام، ويأخذهم إلى المسجد، فمال القاضي إليها، وحكم لها بحضانة الأطفال الخمسة، ولم يعد يسمح للأب أن يزور أولاده إلا مرة واحدة في الأسبوع.

وحرصت الأم بعد ذلك على غرس الكفر في نفوس الأطفال، فصارت تصحبهم إلى الكنيسة بعد أن كانت الكنيسة لا تعني شيئًا لها، وبدأت تطبخ لهم الخنزير، وتنفرهم من الإسلام، وكان الأب في غضون زيارة الأولاد له يحرص على تعليمهم الصلاة، ويحببهم فيها، فلما علمت الأم بذلك أخبرت القاضي الذي قام بإنذار الأب بحرمانه من زيارة أطفاله له إذا حدثهم عن الإسلام، أو الصلاة، أو حتى صلى إحدى الصلوات أمامهم.

وهذا غيض من فيض مما يجري في بلاد الغرب، من حرب على الإسلام وأهله، والاعتداء على أبناء المسلمين لإبعادهم عن دينهم.

ومنذ أيام قلائل إتصل بي أحد الأخوة، وأخبرني أن صديقًا له من المسلمين العرب توفي وله زوجة ألمانية، فأراد أهله وأصدقاؤه دفنه في مقبرة المسلمين، فرفضت زوجته، وأصرت على أن يدفن في مقابر النصارى، فذهب بعض الأخوة يترجونها للسماح بدفنه في مقابر المسلمين، فلم تقبل، ودُفن في مقابر النصارى، فالزوجة في القانون الألماني هي التي تأخذ هذا القرار وليس لأهله أو أسرته أي حق في التدخل بهذا الشأن.

والذي أنصح به أنه لا ينبغي الإقدام على الزواج من الكتابية إلا إذا رجى إسلامها، وغلب ذلك على ظنه بما يتوسمه من حسن صفاتها، وحبها للخير؛ لأنه حين يعقد عليها في بلاد الغرب يخضع زواجهما للقوانين الغربية، وفي هذه القوانين من السوء والعار ما لا يجوز للمسلم أن يرضى به، كانعدام قوامة الرجل في بيته، وحرية الزوجة في معاشرة الأجانب، واصطحاب العشيق إلى البيت... وغير ذلك من المخازي.

والإسلام حين أجاز الزواج بالكتابية كان ذلك مبنيًا على الخضوع لأحكامه، فالرجل هو القوام على المرأة وعلى البيت، ولا يدع للمرأة تأثيرًا في تسيير البيت وتوجيهه نحو الانحلال، أو تربية الأطفال على الكفر وعادات الكافرين، فبهذه القوامة التي منحه الشارع إياها؛ يزول المحذور الذي يخشى وقوعه من قبل امرأته الكافرة، وأما مع عدم الخضوع لأحكام الإسلام، وعدم القوامة؛ فالأمر يختلف.

فينبغي على المسلم أن ينظر في المحذورات المتوقعة من هذا الزواج، ويتفق مع المرأة على تفاديها، كأن يتفق معها على قوامته على البيت، وتربية الأولاد وفق شرع الله، وفي حال الطلاق تكون حضانتهم له، فإن وافقت؛ أقدم على الزواج بعد توثيق هذا الإتفاق في المركز الإسلامي، وإن أبت فلا يقدم عليه؛ لأن في الإقدام عليه تفريطًا في حق نفسه، وحق أولاده، وتضييع للأمانة التي حمَّله الله إياها، وسيسأل عن ذلك يوم القيامة [6].

 

__________________

[1]- برقم (5285).

[2]- الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين (12/147-148).

[3]- تفسير ابن كثير (5/83-84).

[4]- الشرح الممتع (12/148).

[5]- تفسير ابن كثير (5/82).

[6]- أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي (ص416-418،606-608) بتصرف.

 

أمين بن عبد الله الشقاوي